لم يمض وقت طويل على جلوس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على كرسي المكتب البيضاوي، حتى بدأت المراسيم الرئاسية تنهمر كالمطر على رؤساء دول العالم؛ إذ لم يسلم تقريبا أحدٌ من قراراته المثيرة للجدل.
ولم يتوقف ترامب عن إصدار القرارات، وهذا يعني أنه في عجلة من أمره، ويريد تنفيذ برنامجه الانتخابي بأقصى سرعة ممكنة، ويمكن تفسير هذا الاستعجال على أنه خائف من أن يسرقه الوقت وتمضي الأيام من دون تنفيذ هذا البرنامج، لذلك فهو يسابق الزمن فيسارع في إصدار «فراماناته» الواحد تلو الآخر بشأن كل الملفات التي تحدث عنها في حملته الانتخابية أمام وسائل الإعلام.
من بين الملفات الساخنة التي تحدث عنها ترامب ملف إنهاء الحروب في الشرق الأوسط، في هذا الملف بالذات عمل على وقف إطلاق النار في غزة قبل دخوله البيت الأبيض في العشرين من الشهر الماضي، وقد حقق إنجازاً عجز سلفه جو بايدن عن تحقيقه قبل خروجه من البيت الأبيض حيث أجبر مبعوثه الخاص نتنياهو على قبول وقف إطلاق النار، وكان ينتظر منه أن يسير في اتجاه الحلول الدائمة للصراع العربي الإسرائيلي التي ترضي الفلسطينيين، وتخفف من معاناتهم، وتلقى القبول من العرب الذين يرغبون في إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي عبر حل الدولتين لكن ترامب فاجأ الجميع - بما فيهم «الإسرائيليون»- بفكرة عجيبة غريبة لا تستقيم مع المنطق، ولا تنسجم مع الواقع وهي تهجير سكان غزة إلى الدول المجاورة مقابل استحواذ الولايات المتحدة على غزة ومن ثم تعميرها وتحويلها إلى ريفييرا الشرق الأوسط على ساحل شرق البحر الأبيض المتوسط حسب تعبيره.
أثارت هذه الفكرة ردود فعل واسعة ليس في الدول العربية فحسب، وإنما في العالم بأسره، وكان الرد السعودي عليها سريعا وجاء بيانها بكلمات واضحة وصريحة لا تحتمل اللبس أو التأويل وهو الرفض لهذه الفكرة، كما عبرت كل من مصر والأردن عن رفضهما أيضاً لهذه الفكرة وهاتان الدولتان هما المرشحتان لاستقبال سكان غزة ودعت مصر إلى عقد مؤتمر قمة عربية هدفه اتخاذ موقف عربي موحد إزاء هذه الخطة وقد أيدت البحرين رئيسة القمة العربية الأخيرة ودول عربية أخرى عقد هذا المؤتمر لمواجهة المشروع الأمريكي الذي يتناقض مع حل الدولتين التي توافق عليها العرب جميعا.
إسرائيليا، فاجأ ترامب صديقه الحميم نتنياهو رئيس الوزراء الصهيوني أيضاً عشية الاجتماع معه في البيت الأبيض بخطته، وقد صرح أنه جاء لواشنطن ليتحدث مع ترامب عن اليوم التالي في غزة فأخبره الأخير بمشروعه المثير.
يبدو أن عقلية ترامب العقارية لا تزال تسيطر على تفكيره، وتوجه سلوكه نحو امتلاك المزيد من الأراضي التي عبر عنها برغبته في شراء غرينلاند وبنما وكندا. ثم تابع خياله في التفكير وهداه إلى طرح فكرة شراء غزة معتقداً أنه أحق بامتلاكها؛ لأنه هو الذي أوقف الحرب فيها ولذلك أراد أن يكافئ نفسه على الجهود التي بذلها، وتفتق عن ذهنه فكرة شراء غزة وتحويلها إلى «ريفييرا» من دون أن يعرف إذا كان صاحب الأرض لديه رغبة في البيع أم لا!.
ورغم أنه بهذه الفكرة (شراء غزة) قد سحب البساط من تحت أقدام نتنياهو إلا أن الأخير كان سعيدا بها، وغمرته الفرحة والسعادة وفتحت شهيته نحو التحرك إلى تنفيذ مخططاته بشأن الضفة الغربية. ولذلك لا غرو أن يقوم نتنياهو بتصعيد عملياته العسكرية في الضفة لأنها تتناغم مع طروحات ترامب وهي تنسجم مع طموحاته في ضم الضفة الغربية إلى «أرض إسرائيل» تجسيداً «لأحلامه التوراتية» في عودة «يهودا والسامرة» إلى كيانه المصطنع.
إن المتمعن في طروحات ترامب بشأن غزة والضفة الغربية سيدرك حتماً أنه يريد شطب خريطة فلسطين من الخريطة، واستبدالها بأخرى تحت مسمى «أرض إسرائيل الكبرى»، وأنه أثناء مباحثاته مع نتنياهو يتحدث عن أرض غزة والضفة الغربية وكأنه المالك والمتصرف الوحيد لهذه الأرض متجاهلا الملاك الأصليين لها، ويتكلم معه بلغة التاجر صاحب العقارات، وكيف أن خياله الواسع في هذا المجال قاده إلى التصور أن هذه المنطقة يمكن أن يكون لها مستقبل واعد حيث سيحولها -بعد تعميرها- إلى واجهة وقبلة لكل سياح العالم ما عدا الفلسطينيين الذين سيرحلهم قسراً إلى دول الجوار.
يخطئ من يعتقد أن خطة ترامب هي من بنات أفكاره؛ لأن الواقع يقول إن هذه الفكرة ليست جديدة في فضاء الصراع العربي الإسرائيلي، والتاريخ يرشدنا إلى القول بأن هذه الفكرة موجودة في أدبيات الصراع العربي الإسرائيلي فقد تحدث عنها قبله شمعون بيرس في كتابه «الشرق الأوسط الجديد الصادر في أواخر تسعينيات القرن العشرين حيث أشار بيرس إلى تحويل غزة إلى «سنغافورة الشرق الأوسط». إلا أن الفرق بين ترامب وبيرس هو أن الأخير لم يقترح تهجير الفلسطينيين من غزة وقال إن تعميرها سيفضي إلى انخفاض التوترات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بينما ذهب ترامب إلى القول بأن ترحيل أهل قطاع غزة سيفسح الطريق أمام الولايات المتحدة لتعميرها وتحويلها إلى «ريفييرا الشرق» وبالنتيجة تصبح تحت إدارتها.
على أية حال، إن من يقرر مصير غزة والضفة الغربية وفلسطين التاريخية كلها هم الفلسطينيون؛ وليس ترامب أو نتنياهو؛ لأنهم لا يملكون الحق في تقرير مصير الفلسطينيين الذين صمدوا في مواجهة كل المخططات الرامية إلى تصفية قضيتهم، وسطروا بطولات في مواجهة الاحتلال والعدوان على مدى عقود وأنهم سائرون في هذا الدرب الصعب المحفوف بالمخاطر والمؤامرات وأن النصر سيكون حليفهم بإذن الله طال الزمان أم قصر وأن دولة الاحتلال إلى زوال لا محالة. وليعلم ترامب ونتنياهو بأن الشعب الفلسطيني لن يتخلى عن أرضه وأن مشروع التهجير غير مقبول وأنه لن يمر؛ فالعالم بمجمله بما فيهم الأوربيون المؤيدون «لإسرائيل» يقفون ضده ومهما فعل ترامب، وأطلق تصريحاته الاستفزازية، كقيامه بتوجيه عدد من أعضاء حزبه في مجلس النواب نحو تقديم مشاريع قوانين لحظر استخدام مصطلح الضفة الغربية في الوثائق الحكومية الأمريكية واستبدالها بعبارة زيهودا والسامرة» وهو الاسم التوراتي للضفة، بهدف تعزيز ودعم مطالبة «إسرائيل» بالسيطرة على الأراضي التي احتلتها في حرب عام 1967. فإن كل ذلك لن يثني الفلسطينيين عن تشبثهم بأرضهم والدفاع عنها مهما كلفهم ذلك من أثمان. لا نقول هذا الكلام من باب «اليوتوبيا» لأننا على يقين أنه سيأتي اليوم الذي تنزاح فيه هذه الغُمْة ويرجع الحق لأصحابه مصداقاً لقوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك