بدت عودة مليون فلسطيني من جنوب قطاع غزة إلى شمالها في يوم 27 يناير 2025م وكأن التاريخ يرسم واحدة من أكثر الأحداث تأثيرا في الذاكرة الحديثة.
فقد سار مئات الآلاف من الأشخاص في شارع واحد، وهو شارع الرشيد الساحلي، في أقصى الجزء الغربي من غزة. وعلى الرغم من أن هذه الأعداد الهائلة النازحة كانت معزولة عن بعضها البعض في مخيمات النزوح الضخمة في وسط غزة ومنطقة المواصي إلى الجنوب، إلا أنهم غنوا الأغاني نفسها، ورددوا الهتافات نفسها، واستخدموا نقاط الحوار نفسها في حديثهم.
أثناء تهجيرهم القسري، لم يكن لدى هؤلاء النازحين كهرباء ولا وسائل اتصال، ناهيك عن التنسيق. لقد كانوا أشخاصًا عاديين، يحملون بعض قطع الملابس وأدوات البقاء على قيد الحياة التي كانت بحوزتهم بعد الإبادة الجماعية الإسرائيلية غير المسبوقة. واتجهوا شمالاً إلى المنازل التي كانوا يعلمون أن الجيش الإسرائيلي قد دمرها وسواها بالأرض.
ومع ذلك، فقد ظلوا هؤلاء الفلسطينيون النازحين ملتزمين بمسيرتهم نحو مدنهم ومخيمات اللاجئين المدمرة، وابتسم كثيرون، وغنى آخرون تراتيل دينية، وردد البعض أغاني وأشعارا وطنية.
قدمت طفلة صغيرة لمراسل صحفي قصيدة من تأليفها وهي تردد بصوتها: «أنا فتاة فلسطينية، وأفتخر». وقامت بتلاوة أبيات شعر بسيطة ولكنها عاطفية تتحدث عن تعريفها بأنها «فتاة فلسطينية قوية وصامدة.
راحت تلك الفتاة تتحدث عن علاقتها بأسرتها ومجتمعها باعتبارها «ابنة الأبطال، ابنة غزة»، معلنة أن أهل غزة «يفضلون الموت على العار». وكانت عودتها إلى منزلها المدمر بمثابة «يوم انتصار».
كانت كلمة «النصر» كلمة يكررها كل من قابلتهم وسائل الإعلام تقريبًا ومرات لا تحصى على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي حين أن كثيرين، بما في ذلك بعض المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، تحدوا علناً وجهة نظر سكان غزة بشأن «انتصارهم»، إلا أنهم فشلوا في تقدير تاريخ فلسطين - في الواقع، تاريخ كل الشعوب المستعمرة التي انتزعت حريتها من مخالب الأعداء الأجانب المتوحشين.
كتب الزعيم التاريخي لجنوب أفريقيا المناهض للفصل العنصري، نيلسون مانديلا، رسالة إلى زوجته عام 1975 من زنزانته في السجن يقول فيها: «الصعوبات تكسر بعض الرجال ولكنها تصنع آخرين. لا يوجد فأس حاد بما فيه الكفاية لقطع روح شخص مفعم بالأمل في أنه سينهض حتما في النهاية».
تبدو كلمات نيلسون مانديلا، المكتوبة في سياق نضال جنوب أفريقيا، كما لو أنها كتبت للفلسطينيين أنفسهم، وخاصة انتصار غزة الأخير ضد المحو - الجسدي والنفسي على حد سواء.
وحتى نفهم معنى ذلك بشكل أفضل، لنتأمل ما قاله القادة السياسيون والعسكريون الإسرائيليون عن شمال غزة مباشرة بعد بدء حرب الإبادة الجماعية في يوم 7 أكتوبر 2023:
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مقابلة مع شبكة ABC الإخبارية في نوفمبر 2023، إن إسرائيل ستحافظ على «المسؤولية الأمنية الشاملة» عن قطاع غزة «لأجل غير مسمى».
وبعد مرور عام، كرر الجيش الإسرائيلي نفس الشعور. وقال العميد الإسرائيلي إيتسيك كوهين، في بيان، للصحفيين الإسرائيليين، إنه لن تكون هناك «عودة» لأي من سكان شمال غزة.
وذهب وزير المالية بتسلئيل سموتريش إلى أبعد من ذلك. وقال في 26 نوفمبر الماضي: «من الممكن خلق وضع حيث سينخفض عدد سكان غزة إلى نصف حجمه الحالي في غضون عامين»، مشيراً إلى أنه يتعين على إسرائيل إعادة احتلال غزة و«تشجيع» هجرة سكانها.
وقد كرر العديد من المسؤولين والخبراء الإسرائيليين الآخرين نفس الفكرة مثل جوقة يمكن التنبؤ بما ستقوله، فيما عقدت جماعات المستوطنين مؤتمرا في يونيو الماضي لتقييم الفرص العقارية في غزة.
لقد كانوا يتوهمون في أذهانهم أنهم الوحيدون الذين لهم رأي في مستقبل قطاع غزة. وبدا أن الفلسطينيين لا أهمية لهم في عجلة التاريخ، التي تسيطر عليها تل أبيب وحدها كما كانوا يعتقدون بمنطق الأقوياء المتغطرسين.
لكن حشود فلسطينية هائلة ردت على ذلك وراحت تغني: «هل تعتقدون أنكم تستطيعون أن ترقوا إلى مستوى الأحرار، إلى مستوى الفلسطينيين؟.. سوف نموت قبل أن نسلم وطننا؛ وسوف نموت قبل أن نسلم وطننا؛ وسوف نموت قبل أن نسلم وطننا». يسموننا مقاتلين من أجل الحرية».
وأفادت عديد من وسائل الإعلام، بما في ذلك وسائل الإعلام الإسرائيلية، بوجود شعور بالصدمة في إسرائيل مع عودة السكان بشكل جماعي إلى المنطقة المدمرة بالكامل. الصدمة لا تنتهي عند هذا الحد. لقد فشلت إسرائيل في احتلال الشمال، أو التطهير العرقي للفلسطينيين في غزة، أو كسر روحهم الجماعية.
وبدلاً من ذلك، ظهر الفلسطينيون أكثر قوة، وأكثر تصميماً، وعلى نفس القدر من الرعب بالنسبة إلى إسرائيل، وبهدف جديد: العودة إلى فلسطين التاريخية.
ظلت إسرائيل عقودا من الزمن تستثمر في خطاب واحد يتعلق بعدم الاعتراف بحق الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم في فلسطين التاريخية، المعترف به دوليا.
وقد ردد هذا الأمر كل زعيم إسرائيلي أو مسؤول كبير تقريبًا منذ نكبة عام 1948 الناتجة عن تدمير الوطن الفلسطيني. وقد لخصها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك في عام 2000 خلال مفاوضات كامب ديفيد، عندما رسم «الخط الأدنى» في أي اتفاق سلام مع الفلسطينيين: لن يكون هناك حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
وكما أثبتت غزة، فإن الفلسطينيين لا يتلقون إشاراتهم من إسرائيل أو حتى من أولئك الذين يزعمون أنهم يمثلونهم. وبينما كانوا يسيرون شمالاً، سارت أربعة أجيال من الفلسطينيين معًا، في بعض الأحيان كانوا يمسكون بأيدي بعضهم البعض، ويغنون من أجل الحرية والعودة - ليس فقط إلى الشمال ولكن أيضًا شمالًا إلى فلسطين التاريخية نفسها.
منذ النكبة، أصرت إسرائيل على أنها ستكتب تاريخ الأرض الواقعة بين نهر الأردن والبحر. لكن الفلسطينيين يواصلون إثبات خطأ إسرائيل. لقد نجوا في غزة رغم الإبادة الجماعية.
لقد حافظوا على بقائهم وأصروا على العودة وعادوا. لقد خرجوا بشعور بالنصر. إنهم يكتبون تاريخهم الخاص، والذي، على الرغم من الخسائر التي لا حصر لها والتي لا يمكن تصورها، هو أيضًا تاريخ الأمل والنصر.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك