في بغداد القرن العاشر من الميلاد حدث هذا الحادث الغريب، وظل إلى يومنا هذا يجد له صدى مؤلماً في نفوس الكثيرين: أحرق أبو حيّان التوحيدي، الأديب الفيلسوف؛ كتبه في حالة إحباط ويأس. وللحادث النادر ذيول وتفسيرات ودلالات كثيرة كتب عنها الكثيرون؛ فكيف لعالم جليل وأديبٍ بارز وفيلسوف أن يفعل ذلك بنفسه؟ الأسباب والدوافع كانت كثيرة. عاش أبو حيان حياة بائسة لم يكن يجد فيها قوت يومه، كما لم ينل تقديراً ولو بسيطاً من مجتمعه في بغداد القرن العاشر، رغم ازدهار العلوم والثقافة في ذلك الوقت، وكان مؤلماً لنفسه ألا يجد حتى قوت يومه، رغم ما بذله من ماء وجهه في مجالس الوزراء والوجهاء ليلقى حفاوة مثل رهطه من العلماء والأدباء في ذلك العصر، لكنه لم يجد قبولاً ولا ترحيباً ولا معونة أو مكافأة صغيرة يتفضل بها أصحاب هذه المجالس، كما جرت العادة في بغداد ذلك الوقت؛ فارتمى أبو حيان في حضيض اليأس، وتكالبت عليه الحياة والمحن، فكان يبحث عن قوته في البراري، ويأكل الحشائش التي ترعى بها الإبل والمواشي. واشتهرت سيرة أبي حيان عند أجيال الأدب اللاحقين وتفاعلوا معها؛ لما فيها من مآسٍ ودلالات وعبر، وكأنها حدثت بالأمس. كتب أبو حيان أدباً فلسفيًا، وفلسفة بلغة الأدب، حتى لقب بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة.
عاش أبو حيان جل عمره في بغداد في عصر مضطرب، بعد انهيار الدولة العباسية، وقيام الدويلات المنقسمة والمتصارعة، ورغم هذه الظروف السياسية السيئة، إلا أن هذا العصر كان مزدحماً بالأدباء والعلماء والفلاسفة، بسبب ازدهار القرن التاسع في العلم والثقافة، حيث امتد تأثير هذا الزخم الثقافي ليشمل معه القرن العاشر الذي يليه، وهذه ميزة الثقافة فهي تنبني ببطء وتتراكم، ثم تنسحب ببطء أيضاً، وهذا هو الاختلاف الأساسي بين الثقافة والسياسة، التي قد تشهد تحولات سريعة في سنوات قليلة. شهد القرن العاشر اهتماماً كبيراً واسعاً بالترجمة للتراث اليوناني القديم في الفلسفة والعلوم والمعارف، فكثر الأدباء والعلماء والفلاسفة في هذا القرن، رغم الانهيار السياسي. كان أبو حيان التوحيدي ينتمي إلى عائلة فقيرة تعيش في أحد ضواحي بغداد على الكفاف، فعمل ورَّاقاً يقوم بنسخ الكتب، وأفادته مهنته لينهل من مختلف العلوم والمعارف والآداب، فكان ينسخ ويقرأ كتباً في علوم مختلفة، ويلتهم الكتب التهام الملهوف على كل أشكال المعارف والعلوم، فانعكس ذلك في مؤلفاته التي جاءت متنوعة بالعلوم والمعارف والأدب والفلسفة وعلم النفس. وكما يقول المؤرخون، كان أبو حيان موسوعياً وعالما ً وأديباً وفيلسوفاً. ورغم ذلك لم ينفعه علمه الغزير وإنتاجه الوفير في التقرب إلى مجالس الأمراء والأعيان، فابتعد عن هذه المجالس، وساءت أحواله المادية والنفسية، وعاش حياة بائسة. ورغم كل ما خلفه من أسفار ومؤلفات يعتبرها النقاد والمؤرخون من عيون الأدب العربي القديم، إلا أن ذلك لم يشفع له ليتبوأ المكانة الرفيعة التي يستحقها، وفي ذلك يقول ياقوت الحموي: «لم أر أحدًا من أهل العلم ذكره في كتاب، ولا دمجه في خطاب، وهذا من العجب العجاب».
كان أبوحيان متصوفاً، وقال عنه النقاد، إنه ارتقى باللغة الصوفية إلى ذُرا لم يعرفها الأدب الصوفي، وكتابه «الإشارات الإلهية» شاهدٌ على ذلك. وله مؤلفات أخرى كثيرة في شتى العلوم والمعارف، وأبرزها كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، الذي قال عنه القفطي في كتاب تاريخ الحكماء: «هو كتاب ممتع على الحقيقة لمن له مشاركة في فنون العلوم، فإنه خاض في كل بحر، وغاص في كل لجة». وكان أبو حيان مولعًا بالجاحظ فنسج على منواله، وسار على هديه وطريقته. وفي هذا الكتّاب وصفٌ تاريخيٌ لانهيار الدولة العباسية. وله أيضاً كتابَيْ «البصائر والذخائر» و«المقابسات»، والأخير حوارٌ بين العلماء في مواضيع الفلسفة والعلوم والطبيعة وحالات النفس، مما شغل فكر الأدباء والعلماء والفلاسفة في ذاك الوقت. وكان مثقفو ذاك العصر معجبين ومولعين بالثقافة اليونانية المترجمة؛ فنهل منها أبو حيّان مثل أدباء زمانه.
وُلد أبوحيّان فقيراً، وعاش فقيراً، ومات فقيراً، شقياً، وعندما اشتد به الفقر، وأتلفته الحاجة، كتب لصديقه أبي الوفاء المهندس يقول مستجدياً: «خلصني أيها الرجل من التكفّف، أنقذني من لبس الفقر، اكفني من مؤونة الغداء والعشاء. إلى متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذاوية، والقميص المرقع[...]؟». ولم يكن لأبي حيان مخرجٌ من هذا العوز والبلاء والتعذيب النفسي والإحباط الشديد، فجمع كل كتبه في لحظة يأس وانهيار وأطعمها النار، وهو يقول: «والله ما فارقتك حتى كدت أحترق بك». وكانت العرب قديماً تعرف أن مهنة الأدب هي بلاء وفقر، فقَدْ قال شاعرهم: «وقد علمتُ ومالي ما أعيش بهِ/ أنَّ التي أدركتني حرفة الأدب». وكان ذلك شائعًا عند الأدباء والعلماء كما هو شائعٌ في عصرنا الحديث، وما أشبه الليلة بالبارحة، فالأدب ظل معادلاً للفقر حتى يومنا هذا، فأغلب الأدباء يعيشون حياة محدودة الدخل، ويقنعون بالقليل من المال والكثير من الكتابة. وسبق أبا حيان في هذا الفعل أقرانٌ له في الكتابة، منهم أبوعمر ابن العلاء الذي دفن كتبه في بطن الأرض دفن الأموات، وداوود الطائي الذي رمى كتبه في عرض البحر، وسليمان الداراني الذي ألقى كتبه في تنور وأحرقها. ولم يعلم أبوحيان أنه سيُخلَد، وسيحظى بمنزلة رفيعة في أجيال لاحقة ستأتي من بعده، كما لم يعرف أن نسخاً من بعض كتبه كانت موجودة عند آخرين من عصره فاحتفظوا بها، وظلت بعد ذلك متداولة عند أجيال كثيرة من عشاق الأدب، منذ القرن العاشر الميلادي حتى القرن الحادي والعشرين. واغتراب الكُتّاب في مجتمعاتهم هي حالة تتكرر على مر الأجيال، لسبب الاختلاف في الوعي والإدراك بين الأدباء والناس في كل عصر في المجتمعات الجاهلة، فهذا فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري يصيح صيحته المؤلمة، التي ما زل صداها يتردد في القرن الحادي عشر الميلادي، ليلخص مأساته مع محيطه الاجتماعي، إذ يقول ساخراً وصادقاً ومتألماً:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا تجاهلتُ حتى ظُنَ أني جاهلُ
كما يقول في مقام آخر:
أولو الفضل في أوطانهم غرباءُ تشذُّ وتنأى عنهم القرباءُ
ويقول الشاعر الأحنف العكبري شاكيا:
العنكبوت بنتْ بيتاً على وهنٍ تأوي إليه وما لي مثله وطنُ
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك