نستطيع أن نقول إن العالم دخل هذه الأيام مرحلة جديدة من الدبلوماسية التي يمكن وصفها بدبلوماسية المقامرة والمغامرة وذلك لسببين اثنين على الأقل:
الأول: أن العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتحديدا بعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة قد درج على الإعلاء من شأن القانون الدولي واعتباره الأساس في العلاقات الدولية والمرجع عند حدوث أي خلاف بين دول العالم. وعلى الرغم من الحروب والصراعات التي شهدها العالم منذ إنشاء الأمم المتحدة وإلى الآن، فإن الأمر المؤكد أن القانون الدولي كان في جميع الأحوال المرجع والمخرج في الوقت نفسه للتعامل مع الأزمات والدليل على ذلك أن أغلب الحروب والصراعات التي شهدها العالم مثل الحرب على يوغسلافيا واحتلال العراق وأفغانستان، إضافة إلى الصراعات في إفريقيا وبعض مناطق أمريكا الجنوبية كان اللجوء دائما إلى الأمم المتحدة والقانون الدولي والدبلوماسية والتفاوض من أجل السلام، وكان القانون الدولي هو جوهر الإرادة الرئيسية التي يلجا إليها المتصارعون في نهاية المطاف ليكون الفيصل في حل النزاعات.
ثانيا: استطاعت هذه المنظومة بالرغم مما اعتراها من مشكلات وبالرغم مما واجهها من تحديات ولو بشكل معين أن تكون جامعة وتسهم في الحلول السلمية بالفصل بين القوات وإرسال المبعوثين الأمميين للمساعدة على حل القضايا المستعصية مثل مبعوثي الأمم المتحدة إلى يوغسلافيا واليمن ولبنان وسوريا وليبيا وغيرها التي شهدت صراعات أو حروبا أهلية، ولكن ما نشهده اليوم مع الموجة الجديدة التي تقودها الإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس دونالد ترامب تحديدا هو تراجع دراماتيكي غير مسبوق عن المكتسبات التي حققتها البشرية خلال 80 عاما وأدخلت العالم مرحلة جديدة من عدم اليقين، ويكفي هنا أن نستعرض الموضوعات التي أثارها الرئيس ترامب مؤخرا وقلبت الموازين في العالم وأثارت الرعب والقلق وعدم اليقين بالمستقبل، وهذا خلال شهر واحد تقريبا من رئاسة ترامب. فقد أثار زوبعة مع الجار والحليف الكبير كندا والجارة الجنوبية المكسيك والحليف الاستراتيجي الدنمارك، إضافة إلى قلب الموازين في الصراع بالشرق الأوسط بتقديم أطروحات غريبة وغير مستساغة بما ينذر بزوبعة من المشكلات التي لا أول لها ولا آخر.
على صعيد آخر رسم وزير الخارجية الأمريكي الجديد ماركو روبيو السياسة الخارجية الأمريكية للمرحلة القادمة حول الموقف من الحروب واتفاقية المناخ والخروج من مجلس حقوق الإنسان والتراجع بشكل واضح عن منظومة التجارة الدولية والقواعد الأساسية التي تم إرساؤها قبل عقود من الزمان لتكون مرجعا تجاريا بين الدول، وجاء الرئيس ترامب ليلغي كل ذلك على أساس ما يسميه المصلحة الأمريكية التي تكون أولا وأخيرا، إضافة إلى الانسحاب من عدد من المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية.
إن هذا التحول في السياسة الأمريكية إذا ما استمر فإنه سوف يؤدي إلى نوع من الانعزالية من خلال التوقف عن التركيز على القضايا الأساسية السياسية والاقتصادية باستخدام سياسة خارجية تقوم على تعزيز المصالح الأمريكية الأساسية والضغط على الجميع من أجل تعزيز المصالح الأمريكية بما في ذلك الضغط على الدول الصديقة حتى إن أدى ذلك إلى الإضرار بمصالحها.
إذن تتميز هذه السياسة الخارجية الجديدة بشكل واضح بمنهج الانسحاب من الاتفاقيات الدولية المهمة مثل اتفاقية باريس حول المناخ والاتفاقيات بشأن الهجرة والمهاجرين بل الأخطر من ذلك التوقف عن دعم منظمة الأونروا التي تدعم الفلسطينيين على مدار 70 عاما وتوفر لهم الحد الأدنى من فرص الحياة مثل التعليم والصحة، وذلك دعما للموقف الأمريكي الإسرائيلي الذي يهدف إلى الضغط على الشعب الفلسطيني من أجل الهجرة والرحيل من أراضيه في غزة والضفة الغربية، وخاصة إذا توقفت الأونروا عن دعمها لملايين الفلسطينيين.
ومن الواضح أيضا أن هذه الدبلوماسية الجديدة الداعمة تشكل قلقا للفلسطينيين ودعما للتوسع الإسرائيلي لا يتوقف عند هذا الحد بل إنها تهدد أغلب مناطق العالم مما يدفعنا إلى القول بأن العالم على أعتاب دخول مرحلة جديدة تكون فيها العلاقات مبنية على استخدام الرسوم الجمركية مادة للعقاب والابتزاز.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك