أفتخر كثيرا أنا المواطن البحريني عندما أرى أمامي مثل هذا الإنجاز التاريخي الطبي في مجال التصدي لمرض مزمن يستعصي على العلاج منذ قرون طويلة من الزمن، حيث عانى من هذا المرض الملايين من البشر في كل أنحاء العالم. ويزيدني اعتزازاً وفخراً أن هذا الإنجاز الكبير جاء من جزيرة صغيرة جداً في مساحتها الجغرافية، ولكن كبيرة جداً في كفاءة ومثابرة شبابها، وقوية في خبرات علمائها، وثرية في علم أطبائها في الميدان.
كما أن هذا الإنجاز والابتكار البحريني جاء مُعترفاً به ومقدراً له على المستوى العالمي، ومن منظمة تابعة للأمم المتحدة متخصصة في مجال حماية صحة الإنسان على المستوى العالمي، ووقايته من الأمراض الحادة والمزمنة، حيث قدَّم المدير العام لمنظمة الصحة العالمية شهادة هذا الإنجاز المتميز والفريد من نوعه.
فقد هنّأ «تيدروس أدهانوم غيبريسوس»، المدير العام للمنظمة مملكة البحرين في تغريدة نشرها في 17 فبراير 2025 على نجاحها في تقديم أول علاج لمرض فقر الدم المنجلي الوراثي خارج الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام تقنية زراعة النخاع الحديثة والتي يُطلق عليها «كريسبر للتعديل الجيني».
ولكن المهم الآن هو أن نقف أمام هذا الإنجاز البحريني في المجال الطبي، ونسأل أنفسنا كيف سننجح في أن نُحول هذا الحدث التاريخي إلى إنجازات «مستدامة» لمملكة البحرين، لكي تكسب سمعة عالية على المستوى المحلي، وتحظى بالاهتمام والثقة على المستوى الدولي؟ فبعبارة أخرى يجب أن نحول هذا النجاح الدولي الأول والفريد من نوعه إلى نجاحات وابتكارات وتطورات مستمرة ودائمة في كل المجالات الطبية، فلا نقف عند هذا الحد، فتفتر عزائمنا مع الوقت، فنرجع إلى الوراء، ونتأخر عن الركب الدولي. وهذا السؤال يصب في رؤية مملكة البحرين والشعار الرسمي للدولة وهو السعي نحو تحقيق التنمية المستدامة في كل قطاعات الدولة.
ومن أهم العوامل التي تجعلنا ننجح في تحدي «الاستدامة» في العطاء، والإنجاز، والتقدم الطبي وفي المجالات الأخرى، هو توفير وإعداد وحماية وتطوير ثروة الشباب والعامل البشري بشكلٍ عام من الأطباء ذوي الاختصاص الدقيق في كل المجالات والتخصصات الطبية، إضافة إلى تأهيل الممرضين من الكفاءات العالية والخبرات الطويلة، علاوة على الأفراد العاملين في الطب والتخصصات الطبية المساندة المختصة في التحاليل المخبرية، والتغذية الإكلينيكية، وغيرهما من التخصصات الأخرى. ثم العامل الثاني لاستمرارية النجاح والتطور هو وجود الأجهزة الطبية التي يعتمد عليها الأطباء في التشخيص والتحليل وتقييم حالة كل مريض.
وفي الجانب الآخر وهو الأهم في تقديري، والأصعب في مواجهة تحدي «الاستدامة»، والذي يعد الشريان الرئيس للنجاح في استدامة الإنجاز والتقدم، ويعد الوقود الذي يشعل توافر كل هذه التخصصات واستدامة وجودها وعطائها وإنتاجها، ويغذيها بشكل يومي هو حجم الميزانية المرصودة سنوياً، وبشكلٍ مستدام لتحقيق هذه الإنجازات والتطور الطبي، والمواصلة في رفع اسم البحرين عالياً في سماء التقدم الطبي على كل المستويات. فهناك معادلة بسيطة جداً تحكم تحقيق الاستدامة، وهي كلما أنفقنا أكثر على تحقيق التطور في علاج الأمراض، ارتفع الإنتاج، وزادت الإنجازات، وتقدمنا خطوات كبيرة إلى الأمام لنسابق الدول المتطورة والمتقدمة، وكلما عملنا على الترشيد والخفض في الإنفاق الطبي، أدى ذلك بنا إلى التأخر والرجوع إلى الوراء، وتدهور الخدمات الطبية والرعاية الصحية.
واليوم وفي أكثر دول العالم تقدماً وتطوراً في مجالات وقطاعات كثيرة، ولا سيما في المجال الطبي، وهي الولايات المتحدة الأمريكية من المحتمل أن نشهد مصداقية هذه المعادلة.
فالرئيس ترامب بسياساته المختلفة، ورغبته الجامحة، بحسب رأيه، في ترشيد الإنفاق، وخفض المصروفات على المستوى الاتحادي، قام بخفض الميزانية المخصصة للبحث العلمي في المجال الطبي، وبخاصة الأبحاث الأساسية الأصيلة التي تؤدي إلى اكتشافات جديدة، إضافة إلى الأبحاث التجريبية السريرية التي عن طريقها يمكن اكتشاف أدوية جديدة للأمراض والأسقام المزمنة وتطوير إجراءات وتقنيات حديثة لعلاج هذه الأمراض. وقد انعكس هذا التوجه الجديد لخفض النفقات والمنح عن المراكز البحثية الطبية وعن الجامعات والمستشفيات الجامعية في الإعلان المنشور من مكتب مدير «المعاهد القومية للصحة» في 7 فبراير 2025 تحت عنوان: «التوجيهات المتعلقة بالمنح والسياسات الخاصة بالمعاهد القومية للصحة: الكلفة غير المباشرة». فالمعاهد القومية للصحة تدخل تحت مظلتها معاهدة اتحادية كثيرة، منها المعاهد المتخصصة في السرطان، وأمراض القلب، والسكري، وغيرها من المعاهد التي تُجري الأبحاث الطبية المتقدمة والجديدة، حيث قُدر الخفض بنحو 4 مليارات دولار.
فهذه السياسة من الإدارة الجديدة، دقت ناقوس الخطر في المجتمع العلمي الطبي في الولايات المتحدة الأمريكية برمتها، وبالتحديد في الجامعات ومراكز البحث العلمي المتخصصة، ونُشرت الكثير من البيانات والمقالات التي تبين تهديد هذه السياسة للبحث العلمي في أمريكا، إضافة إلى خفض قدرتها التنافسية مع الدول والأمم الأخرى، وجعلها تسير خلف الركب بدلاً من أمامه في الوقت الحالي.
فعلى سبيل المثال، هناك التقرير المنشور في صحيفة «يو إس توداي» (USA Today) الواسعة الانتشار في 18 فبراير 2025 تحت عنوان: «قطع ترامب للدعم المالي سيؤدي إلى إنهاء الأبحاث الطبية المنقذة للحياة، والناس ستموت»، حيث يؤكد التحقيق أن هذا النمط المجحف من خفض الدعم المالي وترشيد النفقات على الأبحاث والدراسات في القطاع الصحي، لو استمر فسيؤدي إلى إغلاق التجارب والأبحاث السريرية، وآلاف الناس سيفقدون وظائفهم، كما أن التطور والتقدم الطبي سيتوقف، والناس ستموت. ويقدم التقرير أمثلة على الإنجازات الطبية الخارقة والعظيمة التي تحققت في أمريكا بفضل الأبحاث الطبية الممولة من المنح الاتحادية، مثل علاج أمراض السرطان بشكلٍ عام، والسكري من النوع الثاني، وأمراض القلب، ومرض باركنسون، والأمراض المعدية كالإيدز، إضافة إلى أمراض مزمنة كثيرة أخرى. كذلك هناك التحقيق المنشور في صحيفة «نيويورك تايمز» العريقة في 7 فبراير 2025 تحت عنوان: «قطع إدارة ترامب للدعم المالي يضع التطور الطبي في خطر»، حيث يؤكد المقال أن قطع هذا الدعم المالي الفيدرالي له عواقب وخيمة جداً على سمعة أمريكا في الأبحاث الطبية، وسيؤدي بها إلى الرجوع إلى الوراء والتبعية، وتدهور القطاع الطبي بشكلٍ عام.
فما يحدث الآن في أغنى دول العالم، وأكثرها تطوراً وتقدماً في كل القطاعات والمجالات من تهديد للإنجازات الطبية التي تحققت، وإضعاف قدرات وإمكانات أمريكا البحثية الطبية، لا شك أنه من المحتمل أكثر أن يقع لأي دولة أخرى ذات إمكانيات اقتصادية أقل. وأملنا كبير في أن نستمر في سباق تحدي «الاستدامة» ونواصل التقدم في الإنتاج والإنجاز الطبي.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك