حين يجلس اثنان للحوار، فهما لا يتبادلان الكلمات فقط، بل يفتحان نوافذ للفهم، ويهدمان جدران العزلة التي ربما استغرق بناؤها سنوات. فالحوار، بطبيعته، ليس ساحة لإثبات وجهة النظر بقدر ما هو فرصة لرؤية الأمور من منظور آخر، واستيعاب أن الاختلاف لا يعني القطيعة.
يأتي انعقاد مؤتمر الحوار الإسلامي-الإسلامي في البحرين برعاية كريمة من صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ليعيد التأكيد على أن التقارب بين المسلمين لا يتعلق بتجاوز الخلافات التقليدية فقط، بل يمتد إلى بناء أرضية مشتركة للتعاون في مواجهة التحديات الفكرية والمجتمعية والعالمية التي يواجهها العالم الإسلامي حاليا.
ومن شأن مثل هذه اللقاءات أن تشكل فرصة حقيقية لاختبار قدرة هذه الحوارات على إيجاد حلول واقعية لمشكلات قائمة، وخاصة مع تصاعد وتيرة الاستقطاب والتأويلات المتشددة لبعض من النصوص الدينية.
الحوار لا يعني تقديم تنازلات فكرية، لكنه يتطلب مرونة في فهم الآخر، والقدرة على إعادة تقييم بعض المسلمات. وتظل إحدى التحديات التي تواجه الحوارات الإسلامية اليوم في حاجتها إلى تجاوز الإطار التقليدي للوعظ والإرشاد نحو حلول أكثر عملية وملموسة. ولعل من أهم ما يمكن أن ينتج عن هذا المؤتمر المأمول هو التوصل إلى آليات واضحة تضمن أن تترجم مخرجاته إلى خطوات عملية تسهم في تعزيز التواصل الفكري والتفاهم المشترك.
هذه الفكرة ليست جديدة، فقد أثبت التاريخ الإسلامي أن الحوار كان عنصرا أساسيا في بناء حضارة متماسكة، رغم تنوع المدارس الفكرية. فمنذ عهد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قدمت وثيقة المدينة نموذجا متقدما لقبول المختلف.
وفي بلاد الأندلس، لم تكن الاختلافات الفقهية والمذهبية عائقا أمام تشكل بيئة علمية متقدمة. كان العلماء من المذاهب المختلفة يجتمعون في حلقات النقاش، لا لإقصاء بعضهم البعض، بل لإثراء الفكر وتطوير المعرفة. وكانت هذه المجالس العلمية مثالا على كيفية إدارة التنوع الفكري بأسلوب بناء، حيث تحول الاختلاف إلى وسيلة للتقدم وليس إلى مصدر للخلاف.
لكن الواقع الحالي يعكس مشهدا مختلفا، حيث بات الحوار في كثير من الأحيان محصورًا في دائرة المجاملة أو التردد في تناول القضايا الحساسة التي قد تكون مفتاحا لحلول عملية.
وهنا يأتي دور هذه المؤتمرات في خلق بيئة أكثر انفتاحا لمناقشة قضايا مثل تحديث الخطاب الديني لمواكبة متغيرات العصر، ودور المؤسسات الدينية في التعامل مع المستجدات الفكرية والاجتماعية.
وعند النظر إلى سبل تعزيز أثر مثل هذا الحوار، يمكن الإشارة إلى بعض المسارات التي قد تسهم في تحقيق فاعلية أكبر، منها:
• إيجاد صيغ عملية لتطبيق نتائج المؤتمر، بحيث لا تبقى النقاشات ضمن الإطار النظري، بل تمتد إلى مبادرات تعليمية وثقافية، وربما منصات حوارية دائمة تجمع بين مختلف الأطياف الفكرية لمناقشة القضايا الخلافية بطرح عقلاني بعيد عن الاستقطاب.
• توسيع دائرة المشاركة ليشمل الأكاديميين، والمثقفين، ورواد الفكر المستقلين، بالإضافة إلى الشباب، الذين يمثلون الشريحة الأوسع في المجتمعات الإسلامية ويحملون رؤى قد تسهم في تجديد الفكر الديني والاجتماعي.
• توجيه الحوار نحو القضايا الأكثر إلحاحا، إذ لا يمكن إغفال التحديات الداخلية التي تواجه المجتمعات الإسلامية، مثل التطرف الفكري، وتراجع البحث العلمي، والجمود الفقهي في بعض المسائل التي أصبحت بحاجة إلى اجتهاد جديد.
ومع انعقاد مؤتمر الحوار الإسلامي-الإسلامي في بلدنا، تتجدد الآمال بأن يكون هذا اللقاء خطوة أخرى نحو واقع أكثر استعدادا للتفاعل مع التعددية الفكرية، حيث لا يقتصر أثره على الجلسات والنقاشات، بل يمتد إلى بناء أسس عملية تعزز ثقافة الحوار في مختلف المجالات وتستوعب الاختلاف. وكما قال الإمام علي بن أبي طالب:
«الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».
إن استمرارية مثل هذه المبادرات الحوارية تعكس إدراكا لأهمية التواصل الفكري في بناء مجتمعات أكثر تماسكا وانفتاحا. فالوئام لا يقاس بعدد الكلمات المتبادلة، بل بمدى قدرته على إحداث تغيير ملموس، حيث يصبح الحوار درعا يحمي الأمة من محاولات الاختراق، وأداة لترسيخ الاحترام المتبادل، وتعزيز جسور الثقة، مما يسهم في تحصين أوطاننا من التحديات التي تواجهها.
rajabnabeela@gmai.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك