العدد : ١٧١٣٦ - الجمعة ٢١ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ شعبان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٣٦ - الجمعة ٢١ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٢ شعبان ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

مخاطر سياسات ترامب على مستقبل النظام الدولي

بقلم: د. حسن نافعة {

الخميس ٢٠ فبراير ٢٠٢٥ - 02:00

لم‭ ‬أقتنع‭ ‬يوماً‭ ‬بأن‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب،‭ ‬الذي‭ ‬تعكس‭ ‬شخصيته‭ ‬مزيجاً‭ ‬نادراً‭ ‬من‭ ‬الجهل‭ ‬والتهور‭ ‬والغرور،‭ ‬يصلح‭ ‬لأن‭ ‬يكون‭ ‬رجل‭ ‬دولة،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬وجود‭ ‬شخصية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الصفات‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬الدولة‭ ‬الأقوى‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬يشكل‭ ‬خطراً‭ ‬جسيماً،‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬يمثلها‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬ككل‭. ‬أذكر‭ ‬أنني،‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬ترامب‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض‭ ‬عام‭ ‬2017،‭ ‬كتبت‭: ‬‮«‬عند‭ ‬متابعتي‭ ‬حملة‭ ‬الانتخابات‭ ‬الرئاسية‭ ‬الأمريكية‭ ‬الأخيرة،‭ ‬تولد‭ ‬لدي‭ ‬انطباع‭ ‬مفاده‭ ‬بأن‭ ‬ترامب‭ ‬رجل‭ ‬يصلح‭ ‬للقيام‭ ‬بدور‭ ‬مهرج‭ ‬في‭ ‬سيرك،‭ ‬أو‭ ‬لاعب‭ ‬مفتول‭ ‬العضلات‭ ‬في‭ ‬مباراة‭ ‬للمصارعة‭ ‬الحرّة،‭ ‬لكني‭ ‬لم‭ ‬أتصوّر‭ ‬قط‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬سيداً‭ ‬للبيت‭ ‬الأبيض،‭ ‬ورئيساً‭ ‬لأقوى‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭. ‬وعندما‭ ‬تبين‭ ‬لي،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬بعد‭ ‬تمكّن‭ ‬ترامب‭ ‬من‭ ‬انتزاع‭ ‬ترشيح‭ ‬الحزب‭ ‬الجمهوري،‭ ‬رغم‭ ‬أنف‭ ‬النخبة‭ ‬المسيطرة‭ ‬على‭ ‬قيادته،‭ ‬أن‭ ‬التيار‭ ‬الشعبوي‭ ‬الذي‭ ‬نجح‭ ‬هذا‭ ‬المقامر‭ ‬في‭ ‬مداعبة‭ ‬أكثر‭ ‬خيالاته‭ ‬وأحلامه‭ ‬جنوحاً،‭ ‬لديه‭ ‬تأثير‭ ‬على‭ ‬الناخبين‭ ‬أقوى‭ ‬مما‭ ‬اعتقدت‭ ‬في‭ ‬البداية‭. ‬لذا‭ ‬لم‭ ‬أستبعد‭ ‬فوزه‭ ‬حين‭ ‬اقتربت‭ ‬هذه‭ ‬الانتخابات‭ ‬من‭ ‬خط‭ ‬النهاية‮»‬‭. ‬وعندما‭ ‬راجعت‭ ‬أوراقي،‭ ‬وجدت‭ ‬أنني‭ ‬كتبت‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تهرولوا‭ ‬نحو‭ ‬ترامب‭ ‬فسوف‭ ‬يسقط‭ ‬حتما‮»‬‭.‬

كنت‭ ‬أعتقد‭ ‬آنذاك‭ ‬أنه‭ ‬يصعب‭ ‬على‭ ‬شخصية‭ ‬بهلوانية‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬أن‭ ‬تتمكّن‭ ‬من‭ ‬إكمال‭ ‬فترة‭ ‬ولايتها‭ ‬الأولى،‭ ‬ثم‭ ‬تبين‭ ‬لي‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬مخطئاً،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬بعدما‭ ‬تمكن‭ ‬ترامب‭ ‬من‭ ‬الفوز‭ ‬بولاية‭ ‬ثانية‭ ‬بعد‭ ‬أربع‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬خروجه‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض،‭ ‬في‭ ‬سابقة‭ ‬لم‭ ‬تحدث‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬الأمريكي‭ ‬سوى‭ ‬مرّة‭ ‬واحدة،‭ ‬تعرض‭ ‬خلالها‭ ‬لملاحقات‭ ‬قضائية‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها،‭ ‬بل‭ ‬أدين‭ ‬فعلا‭ ‬في‭ ‬34‭ ‬منها‭! ‬حينها‭ ‬قلت‭ ‬لنفسي‭: ‬هذه‭ ‬الشخصية‭ ‬هي‭ ‬الإفراز‭ ‬لتناقضات‭ ‬مجتمع‭ ‬مأزوم،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬إفراز‭ ‬القيادة‭ ‬التي‭ ‬يستحقها،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬ذنب‭ ‬مجتمع‭ ‬دولي‭ ‬كُتب‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬تصرّفات‭ ‬رجل‭ ‬جاهل‭ ‬متهور،‭ ‬أصبح‭ ‬يمتلك‭ ‬معظم‭ ‬أدوات‭ ‬ومفاتيح‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬بعدما‭ ‬انتخب‭ ‬رئيسا‭ ‬للولايات‭ ‬المتحدة؟

لا‭ ‬تكمن‭ ‬خطورة‭ ‬ترامب،‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي،‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬يمارس‭ ‬السياسة‭ ‬بعقلية‭ ‬المقاول،‭ ‬كما‭ ‬يشاع‭ ‬عادة،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬شخصيته‭ ‬المركّبة‭ ‬التي‭ ‬يتقمّصها‭ ‬إحساس‭ ‬مبالغ‭ ‬فيه‭ ‬بالذات،‭ ‬ممزوج‭ ‬بشعور‭ ‬دفين‭ ‬بالتفوق‭ ‬والعظمة،‭ ‬تعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بتفوقه‭ ‬الشخصي‭ ‬أو‭ ‬إحساس‭ ‬بعظمة‭ ‬بلاده‭ ‬التي‭ ‬يدرك‭ ‬أنها‭ ‬تراجعت‭ ‬ويريد‭ ‬لها‭ ‬‮«‬أن‭ ‬تعود‭ ‬عظيمة‭ ‬مرّة‭ ‬أخرى‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬يولد‭ ‬لديه‭ ‬نزعة‭ ‬جامحة‭ ‬تدفعه‭ ‬إلى‭ ‬تجاوز‭ ‬وتحطيم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يعترض‭ ‬طريقه‭ ‬من‭ ‬حواجز‭ ‬أو‭ ‬كوابح،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحواجز‭ ‬والكوابح‭ ‬القانونية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬والإنسانية،‭ ‬ويرسب‭ ‬في‭ ‬أعماقه‭ ‬شعورا‭ ‬بالتعالي،‭ ‬يدفعه‭ ‬إلى‭ ‬احتقار‭ ‬القانون‭ ‬الدولي،‭ ‬والاعتماد‭ ‬على‭ ‬القوة‭ ‬وحدها‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬يسعى‭ ‬إليها،‭ ‬وخصوصا‭ ‬قوة‭ ‬المال‭ ‬والاقتصاد‭ ‬التي‭ ‬يدرك‭ ‬أبعادها‭ ‬جيداً،‭ ‬فهو‭ ‬يبدو‭ ‬لي‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬إدراك‭ ‬أن‭ ‬للسوق‭ ‬قواعد‭ ‬وأحكاما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تسري‭ ‬على‭ ‬جميع‭ ‬المتعاملين‭ ‬فيه،‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬فئة‭ ‬التجار‭ ‬والمقاولين،‭ ‬ثم‭ ‬يبدو‭ ‬مستعدّا‭ ‬لاستخدام‭ ‬كل‭ ‬الوسائل‭ ‬المشروعة‭ ‬وغير‭ ‬المشروعة،‭ ‬للتغلب‭ ‬على‭ ‬منافسيه‭ ‬والاستحواذ‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الصفقات‭ ‬التي‭ ‬تحقق‭ ‬له‭ ‬الربح‭.‬

لذا‭ ‬تشبه‭ ‬صورة‭ ‬ترامب‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬السياسة‭ ‬صورة‭ ‬المقاول‭ ‬سيئ‭ ‬السمعة‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الاقتصاد‭ ‬والأسواق‭. ‬وتتجلّى‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬على‭ ‬أوضح‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬مواقفه‭ ‬وسياساته‭ ‬الشرق‭ ‬أوسطية،‭ ‬خصوصا‭ ‬تجاه‭ ‬إسرائيل‭ ‬والقضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬سواء‭ ‬تعلقت‭ ‬هذه‭ ‬المواقف‭ ‬والسياسات‭ ‬بفترة‭ ‬ولايته‭ ‬الأولى‭ ‬أو‭ ‬بفترة‭ ‬ولايته‭ ‬الحالية‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬بالكاد‭.‬

خلال‭ ‬فترة‭ ‬ولايته‭ ‬الأولى،‭ ‬دفعته‭ ‬سياساته‭ ‬المنحازة‭ ‬كليا‭ ‬إلى‭ ‬إسرائيل،‭ ‬لأسباب‭ ‬دينية‭ ‬وعنصرية‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬الأعم،‭ ‬إلى‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالقدس‭ ‬‮«‬عاصمة‭ ‬موحّدة‭ ‬وأبدية‭ ‬لإسرائيل‮»‬،‭ ‬ونقل‭ ‬السفارة‭ ‬الأمريكية‭ ‬إليها،‭ ‬كما‭ ‬اعترف‭ ‬بالسيادة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬على‭ ‬هضبة‭ ‬الجولان‭ ‬السورية،‭ ‬وفرض‭ ‬إجراءات‭ ‬عقابية‭ ‬وانتقامية‭ ‬عديدة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬السلطة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ومنظمة‭ ‬التحرير،‭ ‬بسبب‭ ‬الرفض‭ ‬التام‭ ‬للمقترحات‭ ‬التي‭ ‬طرحتها‭ ‬إدارته‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬‮«‬صفقة‭ ‬القرن‮»‬،‭ ‬في‭ ‬انتهاك‭ ‬واضح‭ ‬وصارخ‭ ‬لجميع‭ ‬قواعد‭ ‬القانون‭ ‬الدولي،‭ ‬ولمئات‭ ‬القرارات‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬مختلف‭ ‬الأجهزة‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الدولية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مجلس‭ ‬الأمن‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬أعلى‭ ‬سلطة‭ ‬عالمية‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬حفظ‭ ‬السلم‭ ‬والأمن‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬ككل‭.‬

فوفقاً‭ ‬لقواعد‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬وللقرارات‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة،‭ ‬بكل‭ ‬فروعها‭ ‬وأجهزتها،‭ ‬تعتبر‭ ‬الأراضي‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬القدس‭ ‬الشرقية‭ ‬والجولان‭ ‬السورية،‭ ‬أراضي‭ ‬محتلة‭ ‬تنطبق‭ ‬عليها‭ ‬اتفاقيات‭ ‬جنيف‭ ‬لعام‭ ‬1949‭. ‬وبالتالي،‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬الاعتراف‭ ‬للغير‭ ‬بالسيادة‭ ‬عليها‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬جزء‭ ‬منها،‭ ‬وتلزم‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬بالاعتراف‭ ‬بحقّ‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬مصيره،‭ ‬وفي‭ ‬إقامة‭ ‬دولته‭ ‬المستقلة‭ ‬على‭ ‬أرضه‭. ‬

قبل‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬دخول‭ ‬ترامب‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض‭ ‬مجدّدا‭ ‬في‭ ‬20‭ ‬الشهر‭ ‬الماضي‭ (‬يناير‭)‬،‭ ‬كانت‭ ‬إدارة‭ ‬بايدن‭ ‬تحاول‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭ ‬إقناع‭ ‬حكومة‭ ‬نتنياهو‭ ‬بالموافقة‭ ‬على‭ ‬اتفاق‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬مراحل‭ ‬لوقف‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬غزّة،‭ ‬وفجأة‭ ‬تدخل‭ ‬ترامب‭ ‬بحزم،‭ ‬ونجح‭ ‬في‭ ‬حمل‭ ‬نتنياهو‭ ‬على‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الاتفاق‭ ‬الذي‭ ‬دخل‭ ‬بالفعل‭ ‬حيز‭ ‬التنفيذ‭ ‬قبل‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬بداية‭ ‬فترة‭ ‬ولايته‭ ‬الثانية‭. ‬ما‭ ‬أشاع‭ ‬جواً‭ ‬من‭ ‬التفاؤل‭ ‬بشأن‭ ‬احتمال‭ ‬أن‭ ‬تسفر‭ ‬طريقة‭ ‬ترامب‭ ‬الحازمة‭ ‬عن‭ ‬وضع‭ ‬حد‭ ‬لحرب‭ ‬التجويع‭ ‬والإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬التي‭ ‬تشنها‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عام،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التفاؤل‭ ‬لم‭ ‬يدم‭ ‬طويلا،‭ ‬فبعد‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬أسبوعين،‭ ‬فاجأ‭ ‬ترامب‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬بتصريحاتٍ‭ ‬تؤكد‭ ‬عزمه‭ ‬‮«‬الاستيلاء‮»‬‭ ‬على‭ ‬قطاع‭ ‬غزّة،‭ ‬وتهجير‭ ‬سكانه‭ ‬قسراً‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬والأردن،‭ ‬اللذين‭ ‬هدّدهما‭ ‬بقطع‭ ‬المساعدات‭ ‬الأمريكية‭ ‬عنهما‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يوافقا‭ ‬على‭ ‬مخطّطاته‭ ‬الرامية‭ ‬إلى‭ ‬توطين‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬مليوني‭ ‬فلسطيني‭ ‬على‭ ‬أراضيهما،‭ ‬ثم‭ ‬بات‭ ‬واضحا‭ ‬أن‭ ‬رئيس‭ ‬أقوى‭ ‬دولة‭ ‬يدعو‭ ‬علناً‭ ‬إلى‭ ‬عملية‭ ‬تطهير‭ ‬عرقي‭ ‬لشعب‭ ‬بأكمله،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اقتلاعه‭ ‬قسراً‭ ‬من‭ ‬أرضه،‭ ‬وهي‭ ‬جريمة‭ ‬ضد‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وتشكل‭ ‬انتهاكاً‭ ‬صارخاً‭ ‬لكل‭ ‬القوانين‭ ‬والأعراف‭ ‬الدولية،‭ ‬ويصرّ‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يلقي‭ ‬بثقل‭ ‬بلاده‭ ‬كله‭ ‬وراء‭ ‬ارتكاب‭ ‬هذه‭ ‬الجريمة،‭ ‬بل‭ ‬يهدّد‭ ‬دولا‭ ‬حليفة‭ ‬بالعقاب،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تشترك‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬ارتكاب‭ ‬جريمة‭ ‬تهدّد‭ ‬أمنها‭ ‬القومي‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

بعبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬ترامب،‭ ‬في‭ ‬طبعته‭ ‬الثانية،‭ ‬قرّر‭ ‬أن‭ ‬يتبنّى‭ ‬بالكامل‭ ‬أطروحات‭ ‬أقصى‭ ‬أجنحة‭ ‬اليمين‭ ‬الصهيوني‭ ‬تطرّفاً،‭ ‬وهي‭ ‬أطروحات‭ ‬تستهدف‭ ‬التصفية‭ ‬التامة‭ ‬للقضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬عبر‭ ‬تفريغ‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬وقطاع‭ ‬غزّة‭ ‬من‭ ‬سكانهما،‭ ‬وضمّهما‭ ‬معا‭ ‬إلى‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني،‭ ‬تمهيدا‭ ‬لإقامة‭ ‬‮«‬دولة‭ ‬إسرائيل‭ ‬الكبرى‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬النيل‭ ‬إلى‭ ‬الفرات،‭ ‬والقادرة،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬على‭ ‬الهيمنة‭ ‬الكاملة‭ ‬على‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬ككل‭.‬

لا‭ ‬يهدف‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬إلى‭ ‬مناقشة‭ ‬سياسة‭ ‬ترامب‭ ‬تجاه‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة،‭ ‬أو‭ ‬بحث‭ ‬مدى‭ ‬قابلية‭ ‬الخطط‭ ‬التي‭ ‬يريد‭ ‬ترامب‭ ‬فرضها‭ ‬للتنفيذ،‭ ‬وإنما‭ ‬يهدف،‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول،‭ ‬إلى‭ ‬التنبيه‭ ‬إلى‭ ‬الخطر‭ ‬الكامن‭ ‬في‭ ‬استهانة‭ ‬رئيس‭ ‬أقوى‭ ‬دولة‭ ‬بالقانون‭ ‬الدولي،‭ ‬واحتقاره‭ ‬قواعد‭ ‬هذا‭ ‬القانون‭ ‬ومتطلباته،‭ ‬فخطط‭ ‬ترامب‭ ‬تجاه‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬ليست‭ ‬وحدها‭ ‬التي‭ ‬تثير‭ ‬القلق،‭ ‬وإنما‭ ‬لديه‭ ‬خطط‭ ‬أخرى‭ ‬تبعث‭ ‬على‭ ‬الذهول،‭ ‬تتعلق‭ ‬ببنما‭ ‬التي‭ ‬يريد‭ ‬احتلال‭ ‬قناتها،‭ ‬وبكندا‭ ‬التي‭ ‬يريد‭ ‬ضمّها‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬لتصبح‭ ‬الولاية‭ ‬رقم‭ ‬51،‭ ‬وبجرينلاند‭ ‬التي‭ ‬يخطط‭ ‬لشرائها‭ ‬من‭ ‬الدنمارك،‭ ‬بسبب‭ ‬تقديره‭ ‬أهميتها‭ ‬للأمن‭ ‬القومي‭ ‬الأمريكي‭. ‬فجميع‭ ‬هذه‭ ‬المخططات‭ ‬تؤكّد،‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يدع‭ ‬مجالا‭ ‬لأي‭ ‬شك،‭ ‬أن‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تصرّ‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬الأحق‭ ‬بالهيمنة‭ ‬المنفردة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬قرّرت‭ ‬هدم‭ ‬صرح‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬من‭ ‬أساسه،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬تؤمن‭ ‬سوى‭ ‬بلغة‭ ‬القوة‭ ‬وسيلة‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهدافها،‭ ‬ما‭ ‬يشكل‭ ‬انتكاسة‭ ‬كبرى‭ ‬للحضارة‭ ‬المعاصرة‭ ‬والعودة‭ ‬بالإنسانية‭ ‬إلى‭ ‬شريعة‭ ‬الغاب‭.‬

كان‭ ‬الفيلسوف‭ ‬البريطاني‭ ‬توماس‭ ‬هوبز‭ (‬1588-1679‭) ‬هو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬استطاع‭ ‬أن‭ ‬يعبّر‭ ‬مفاهيميا‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬الفوضى‭ ‬التي‭ ‬تتسم‭ ‬بها‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية،‭ ‬حين‭ ‬ميّز‭ ‬بين‭ ‬‮«‬حالة‭ ‬المجتمع‮»‬‭ ‬و«حالة‭ ‬الطبيعة‮»‬‭. ‬فهو‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬الأفراد‭ ‬داخل‭ ‬الدول‭ ‬يعيشون‭ ‬فيما‭ ‬بينهم‭ ‬‮«‬حالة‭ ‬المجتمع‮»‬،‭ ‬لأنهم‭ ‬يخضعون‭ ‬لسلطة‭ ‬سياسية‭ ‬عليا‭ ‬تدير‭ ‬شؤونهم‭ ‬وفق‭ ‬عقد‭ ‬اجتماعي‭ ‬يربط‭ ‬الحاكم‭ ‬بالمحكومين،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يكفل‭ ‬للجميع‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬أمن‭ ‬وسلام‭. ‬أما‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخضع‭ ‬لسلطة‭ ‬عليا‭ ‬تدير‭ ‬العلاقة‭ ‬فيما‭ ‬بينها،‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬عقد‭ ‬اجتماعي‮»‬‭ ‬ينظمها،‭ ‬فيرى‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تعيش‭ ‬‮«‬حالة‭ ‬الطبيعة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تسودها‭ ‬‮«‬شريعة‭ ‬الغاب‮»‬،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬للقوي‭ ‬أن‭ ‬يفتك‭ ‬بالضعيف،‭ ‬ما‭ ‬يؤدّي‭ ‬إلى‭ ‬انتشار‭ ‬حالة‭ ‬الفوضى‭ ‬وانعدام‭ ‬الشعور‭ ‬بالأمن‭ ‬والطمأنينة‭.‬

تعبّر‭ ‬هذه‭ ‬الصورة‭ ‬‮«‬الهوبزية‮»‬‭ ‬بدقة‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬فيه‭ ‬فيلسوفنا‭ ‬البريطاني،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الإنسانية‭ ‬بذلت‭ ‬جهداً‭ ‬متراكماً‭ ‬طوال‭ ‬القرون‭ ‬الأربعة‭ ‬التالية‭ ‬للانتقال‭ ‬بهذه‭ ‬العلاقات‭ ‬من‭ ‬‮«‬حالة‭ ‬الطبيعة‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬حالة‭ ‬المجتمع‮»‬،‭ ‬عبر‭ ‬ترسانة‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬القوانين‭ ‬الدولية،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬التي‭ ‬صدرت‭ ‬عن‭ ‬المؤتمرات‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬عقدت‭ ‬إبّان‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وأيضاً‭ ‬عبر‭ ‬شبكة‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬المؤسّسات‭ ‬الدولية‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬وخصوصا‭ ‬التي‭ ‬تأسّست‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬‮«‬عصبة‭ ‬الأمم‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬‮«‬الأمم‭ ‬المتحدة‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬شكّل‭ ‬خطوة‭ ‬كبرى‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬الانتقال‭ ‬بالعلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬من‭ ‬‮«‬حالة‭ ‬الطبيعة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬يسودها‭ ‬قانون‭ ‬الغاب‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬حالة‭ ‬المجتمع‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يسودها‭ ‬القانون‭ ‬الدولي،‭ ‬لكن‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬يبدو‭ ‬أنه‭ ‬يصرّ‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬بالبشرية‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬حالة‭ ‬الطبيعة‮»‬‭ ‬مرّة‭ ‬أخرى‭.‬

 

{ أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬

في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا