لم أقتنع يوماً بأن دونالد ترامب، الذي تعكس شخصيته مزيجاً نادراً من الجهل والتهور والغرور، يصلح لأن يكون رجل دولة، بل إن وجود شخصية تجمع بين هذه الصفات على رأس الدولة الأقوى في العالم يشكل خطراً جسيماً، ليس على الدولة التي يمثلها فحسب، وإنما أيضاً على النظام الدولي ككل. أذكر أنني، بعد أيام قليلة من دخول ترامب البيت الأبيض عام 2017، كتبت: «عند متابعتي حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، تولد لدي انطباع مفاده بأن ترامب رجل يصلح للقيام بدور مهرج في سيرك، أو لاعب مفتول العضلات في مباراة للمصارعة الحرّة، لكني لم أتصوّر قط أن يصبح هذا الرجل سيداً للبيت الأبيض، ورئيساً لأقوى دولة في تاريخ البشرية. وعندما تبين لي، وخصوصاً بعد تمكّن ترامب من انتزاع ترشيح الحزب الجمهوري، رغم أنف النخبة المسيطرة على قيادته، أن التيار الشعبوي الذي نجح هذا المقامر في مداعبة أكثر خيالاته وأحلامه جنوحاً، لديه تأثير على الناخبين أقوى مما اعتقدت في البداية. لذا لم أستبعد فوزه حين اقتربت هذه الانتخابات من خط النهاية». وعندما راجعت أوراقي، وجدت أنني كتبت هذه السطور في مقال عنوانه «لا تهرولوا نحو ترامب فسوف يسقط حتما».
كنت أعتقد آنذاك أنه يصعب على شخصية بهلوانية من هذا النوع أن تتمكّن من إكمال فترة ولايتها الأولى، ثم تبين لي أنني كنت مخطئاً، وخصوصاً بعدما تمكن ترامب من الفوز بولاية ثانية بعد أربع سنوات من خروجه من البيت الأبيض، في سابقة لم تحدث في التاريخ الأمريكي سوى مرّة واحدة، تعرض خلالها لملاحقات قضائية لا حصر لها، بل أدين فعلا في 34 منها! حينها قلت لنفسي: هذه الشخصية هي الإفراز لتناقضات مجتمع مأزوم، لا يمكن له سوى إفراز القيادة التي يستحقها، لكن ما ذنب مجتمع دولي كُتب عليه أن يعاني من تصرّفات رجل جاهل متهور، أصبح يمتلك معظم أدوات ومفاتيح القوة في العالم، بعدما انتخب رئيسا للولايات المتحدة؟
لا تكمن خطورة ترامب، بالنسبة إلى المجتمع الدولي، في أنه يمارس السياسة بعقلية المقاول، كما يشاع عادة، وإنما في شخصيته المركّبة التي يتقمّصها إحساس مبالغ فيه بالذات، ممزوج بشعور دفين بالتفوق والعظمة، تعلق الأمر بتفوقه الشخصي أو إحساس بعظمة بلاده التي يدرك أنها تراجعت ويريد لها «أن تعود عظيمة مرّة أخرى»، ما يولد لديه نزعة جامحة تدفعه إلى تجاوز وتحطيم كل ما يعترض طريقه من حواجز أو كوابح، بما في ذلك الحواجز والكوابح القانونية والأخلاقية والإنسانية، ويرسب في أعماقه شعورا بالتعالي، يدفعه إلى احتقار القانون الدولي، والاعتماد على القوة وحدها في تحقيق الأهداف التي يسعى إليها، وخصوصا قوة المال والاقتصاد التي يدرك أبعادها جيداً، فهو يبدو لي غير قادر حتى على إدراك أن للسوق قواعد وأحكاما ينبغي أن تسري على جميع المتعاملين فيه، بمن فيهم فئة التجار والمقاولين، ثم يبدو مستعدّا لاستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، للتغلب على منافسيه والاستحواذ على كل الصفقات التي تحقق له الربح.
لذا تشبه صورة ترامب في عالم السياسة صورة المقاول سيئ السمعة في عالم الاقتصاد والأسواق. وتتجلّى هذه الصورة على أوضح ما يكون في مواقفه وسياساته الشرق أوسطية، خصوصا تجاه إسرائيل والقضية الفلسطينية، سواء تعلقت هذه المواقف والسياسات بفترة ولايته الأولى أو بفترة ولايته الحالية التي بدأت بالكاد.
خلال فترة ولايته الأولى، دفعته سياساته المنحازة كليا إلى إسرائيل، لأسباب دينية وعنصرية في الغالب الأعم، إلى الاعتراف بالقدس «عاصمة موحّدة وأبدية لإسرائيل»، ونقل السفارة الأمريكية إليها، كما اعترف بالسيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان السورية، وفرض إجراءات عقابية وانتقامية عديدة على كل من السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، بسبب الرفض التام للمقترحات التي طرحتها إدارته في إطار «صفقة القرن»، في انتهاك واضح وصارخ لجميع قواعد القانون الدولي، ولمئات القرارات الصادرة عن مختلف الأجهزة والمؤسسات الدولية، بما في ذلك مجلس الأمن الذي يعد أعلى سلطة عالمية مسؤولة عن حفظ السلم والأمن في النظام الدولي ككل.
فوفقاً لقواعد القانون الدولي وللقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، بكل فروعها وأجهزتها، تعتبر الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس الشرقية والجولان السورية، أراضي محتلة تنطبق عليها اتفاقيات جنيف لعام 1949. وبالتالي، لا يجوز الاعتراف للغير بالسيادة عليها أو على أي جزء منها، وتلزم كل الدول الأعضاء في المجتمع الدولي بالاعتراف بحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وفي إقامة دولته المستقلة على أرضه.
قبل أيام من دخول ترامب البيت الأبيض مجدّدا في 20 الشهر الماضي (يناير)، كانت إدارة بايدن تحاول دون جدوى إقناع حكومة نتنياهو بالموافقة على اتفاق من ثلاث مراحل لوقف الحرب على غزّة، وفجأة تدخل ترامب بحزم، ونجح في حمل نتنياهو على الموافقة على هذا الاتفاق الذي دخل بالفعل حيز التنفيذ قبل يوم من بداية فترة ولايته الثانية. ما أشاع جواً من التفاؤل بشأن احتمال أن تسفر طريقة ترامب الحازمة عن وضع حد لحرب التجويع والإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من عام، غير أن هذا التفاؤل لم يدم طويلا، فبعد أقل من أسبوعين، فاجأ ترامب العالم كله بتصريحاتٍ تؤكد عزمه «الاستيلاء» على قطاع غزّة، وتهجير سكانه قسراً إلى كل من مصر والأردن، اللذين هدّدهما بقطع المساعدات الأمريكية عنهما ما لم يوافقا على مخطّطاته الرامية إلى توطين ما يقرب من مليوني فلسطيني على أراضيهما، ثم بات واضحا أن رئيس أقوى دولة يدعو علناً إلى عملية تطهير عرقي لشعب بأكمله، من خلال اقتلاعه قسراً من أرضه، وهي جريمة ضد الإنسانية، وتشكل انتهاكاً صارخاً لكل القوانين والأعراف الدولية، ويصرّ على أن يلقي بثقل بلاده كله وراء ارتكاب هذه الجريمة، بل يهدّد دولا حليفة بالعقاب، ما لم تشترك معه في ارتكاب جريمة تهدّد أمنها القومي في الوقت نفسه.
بعبارة أخرى، يمكن القول بأن ترامب، في طبعته الثانية، قرّر أن يتبنّى بالكامل أطروحات أقصى أجنحة اليمين الصهيوني تطرّفاً، وهي أطروحات تستهدف التصفية التامة للقضية الفلسطينية، عبر تفريغ الضفة الغربية وقطاع غزّة من سكانهما، وضمّهما معا إلى الكيان الصهيوني، تمهيدا لإقامة «دولة إسرائيل الكبرى» التي تمتد من النيل إلى الفرات، والقادرة، في الوقت نفسه، على الهيمنة الكاملة على منطقة الشرق الأوسط ككل.
لا يهدف هذا المقال إلى مناقشة سياسة ترامب تجاه هذه المنطقة، أو بحث مدى قابلية الخطط التي يريد ترامب فرضها للتنفيذ، وإنما يهدف، في المقام الأول، إلى التنبيه إلى الخطر الكامن في استهانة رئيس أقوى دولة بالقانون الدولي، واحتقاره قواعد هذا القانون ومتطلباته، فخطط ترامب تجاه منطقة الشرق الأوسط ليست وحدها التي تثير القلق، وإنما لديه خطط أخرى تبعث على الذهول، تتعلق ببنما التي يريد احتلال قناتها، وبكندا التي يريد ضمّها إلى الولايات المتحدة، لتصبح الولاية رقم 51، وبجرينلاند التي يخطط لشرائها من الدنمارك، بسبب تقديره أهميتها للأمن القومي الأمريكي. فجميع هذه المخططات تؤكّد، بما لا يدع مجالا لأي شك، أن الدولة التي لا تزال تصرّ على أنها الأحق بالهيمنة المنفردة على النظام الدولي قرّرت هدم صرح القانون الدولي من أساسه، ولم تعد تؤمن سوى بلغة القوة وسيلة لتحقيق أهدافها، ما يشكل انتكاسة كبرى للحضارة المعاصرة والعودة بالإنسانية إلى شريعة الغاب.
كان الفيلسوف البريطاني توماس هوبز (1588-1679) هو أول من استطاع أن يعبّر مفاهيميا عن حالة الفوضى التي تتسم بها العلاقات الدولية، حين ميّز بين «حالة المجتمع» و«حالة الطبيعة». فهو يرى أن الأفراد داخل الدول يعيشون فيما بينهم «حالة المجتمع»، لأنهم يخضعون لسلطة سياسية عليا تدير شؤونهم وفق عقد اجتماعي يربط الحاكم بالمحكومين، ومن ثم يكفل للجميع العيش في أمن وسلام. أما الدول التي لا تخضع لسلطة عليا تدير العلاقة فيما بينها، استنادا إلى «عقد اجتماعي» ينظمها، فيرى أنها لا تزال تعيش «حالة الطبيعة» التي تسودها «شريعة الغاب»، وبالتالي تستند إلى موازين القوى التي تتيح للقوي أن يفتك بالضعيف، ما يؤدّي إلى انتشار حالة الفوضى وانعدام الشعور بالأمن والطمأنينة.
تعبّر هذه الصورة «الهوبزية» بدقة عن حالة العلاقات الدولية في القرن السابع عشر الذي عاش فيه فيلسوفنا البريطاني، غير أن الإنسانية بذلت جهداً متراكماً طوال القرون الأربعة التالية للانتقال بهذه العلاقات من «حالة الطبيعة» إلى «حالة المجتمع»، عبر ترسانة ضخمة من القوانين الدولية، وخصوصاً التي صدرت عن المؤتمرات الدبلوماسية الكبرى التي عقدت إبّان القرن التاسع عشر، وأيضاً عبر شبكة واسعة من المؤسّسات الدولية التي قامت خلال القرن العشرين، وخصوصا التي تأسّست في ظل كل من «عصبة الأمم» ثم «الأمم المتحدة»، ما شكّل خطوة كبرى على طريق الانتقال بالعلاقات الدولية من «حالة الطبيعة» التي يسودها قانون الغاب إلى «حالة المجتمع» التي ينبغي أن يسودها القانون الدولي، لكن دونالد ترامب يبدو أنه يصرّ على أن يعود بالبشرية إلى «حالة الطبيعة» مرّة أخرى.
{ أستاذ العلوم السياسية
في جامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك