في إطار تعهداته المتكررة للناخبين الأمريكيين بإعادة ترسيخ الهيمنة الاقتصادية العالمية للولايات المتحدة، انتهج دونالد ترامب، خلال حملته الرئاسية عام 2024 وبعدها، سياسة تقوم على فرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات الأجنبية، وفرض عقوبات على المنافسين الجيوسياسيين، إلى جانب إنفاق حكومي ضخم على تطوير البنية التحتية للتكنولوجيا والطاقة. وفي هذا الإطار، وجه تهديدات متكررة لأبرز القوى الاقتصادية التي عملت خلال العقد الماضي على تنويع استخدام العملات في التجارة والمعاملات الدولية؛ ما شكل توجهًا للحد من الاعتماد التقليدي على الدولار الأمريكي.
وعلى الرغم من الهيمنة المطلقة للدولار، واعتماده كعملة أساسية في غالبية التجارة والمعاملات الدولية -47% من جميع المدفوعات العالمية، و84% من عقود تمويل التجارة، و54.8% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية بقيمة إجمالية تزيد على 6.77 تريليونات دولار- فقد وثقت جويس تشانج، من مصرف جي بي مورجان، كيف اكتسبت سردية تآكل المكانة العالمية للدولار زخمًا مع انقسام العالم إلى كتل تجارية؛ وهو ما يبدو جليا في انخفاض الاحتياطيات الأجنبية للعملة الأمريكية بأكثر من 10% منذ بداية القرن.
ومع توسع مجموعة دول البريكس، إلى ما هو أبعد من مؤسسيها -البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا- وضمها لدول جديدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ أصبحت تمثل نحو 45% من سكان العالم، و35% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و42% من إجمالي احتياطيات النقد الأجنبي؛ ما أثار تساؤلات حول إمكانية توافق هذه الدول على إنشاء عملة تجارية موحدة، من شأنها تقليل اعتمادها على الدولار في المعاملات الثنائية والمتعددة الأطراف، وهي العملية التي أصبحت تعرف باسم إلغاء الدولرة.
وبالفعل، هدد ترامب، بفرض تعريفات جمركية بنسبة 100% على الواردات إلى الولايات المتحدة من الدول التي تحاول إزالة الدولرة. ونظرا الى الطريقة التي صعد بها التوترات التجارية العالمية من خلال الالتزام، بفرض تعريفات جمركية أعلى على كندا، والمكسيك المجاورتين، فضلاً عن الصين والاتحاد الأوروبي؛ فإن احتمالات تضرر الدول غير الغربية الكبرى والمتنامية من سياسات التجارة الحمائية الأمريكية قد زادت بشكل بالغ.
وعلى الرغم من أن قيمة الدولار -مقارنة بالعملات المناظرة، مثل اليورو والين والرنمينبي- قد ارتفعت في البداية ردًا على تهديدات ترامب التجارية، فإن باتريك تشوفانيك، في مجلة فورين بوليسي، رأى أن التصريحات التجارية للرئيس الأمريكي قد يكون لها التأثير الفعلي المتمثل في فقدان هيمنة الدولار على التجارة العالمية والمعاملات مع تسريع الاقتصادات الأخرى في الابتعاد عن الدور الذي اضطلعت به واشنطن، كـوصي موثوق على التجارة الدولية والعملات الاحتياطية.
وبالرغم من تأجيل ترامب، قراره بزيادة الرسوم الجمركية بنسبة 25% على الواردات من كندا والمكسيك بعد مناقشات مباشرة مع زعماء البلدين، فإن دانييل مولاني، من المجلس الأطلسي، رأى أن البيت الأبيض قد ارتكب خطأ لا يمكن تصوره، من خلال توضيحه جدية تهديداته، وتوافر النية لتنفيذها. ومع إقدام الرئيس الأمريكي على فرض ضريبة فعلية بنسبة 10% على السلع الصينية الواردة إلى الولايات المتحدة، وتلميحه بفرض قيود تجارية على أوروبا قريبًا؛ أشار جيسون لوي، من مصرف بي إن بي باريبا، إلى أن التفاؤل في السوق، بأن تهديدات ترامب بالرسوم الجمركية كانت مجرد ورقة تفاوض لم يُقدّر بشكل كافٍ مدى إصرار إدارته على تنفيذها. وأقرّ جورج سارافيلوس، من دويتشه بنك، بأن هذه التعريفات الجمركية أفضت إلى نتيجة مفادها أن الأسواق العالمية باتت بحاجة إلى إعادة ضبط هيكلي لمخاطر حرب تجارية.
وعبر منصته الاجتماعية الخاصة الجديدة المسماة بتروث سوشيال، أشار ترامب، إلى أنه ربما سيكون هناك بعض الألم للاقتصاد العالمي جراء سياساته الجمركية، لكنه أكد أن الولايات المتحدة ترى نتيجة هذا الأمر جديرة بالثمن الذي يجب دفعه. وعلى المدى القصير، استفاد الدولار الأمريكي؛ وأوضحت صحيفة فايننشال تايمز، أن قيمته ارتفعت بنسبة تصل إلى 1.4% في أعقاب إعلان ترامب الرسوم الجمركية، في حين انخفضت قيمة عملات كل من كندا والمكسيك، بالإضافة إلى اليورو.
ومع ذلك، رأى إريك وينوجراد، من شركة أليانس بيرنستين، أن تداعيات سياسات ترامب الجمركية، قد تسهم في تعزيز قوة الدولار، لكنه حذر من أن هذه السياسات قد تسرع أيضًا من وتيرة توجه الدول المتضررة من الرسوم الجمركية المرتفعة، نحو اعتماد عملاتها الخاصة، أو البحث عن عملة مشتركة بديلة لإجراء معاملاتها الدولية. وفي تفسيره لذلك، أشار تشوفانيك، إلى أن الولايات المتحدة تمتلك أكبر وأكثر الأسواق المالية سيولة في العالم؛ مما يسمح للمستثمرين بوضع أموالهم في تلك الأسواق وسحبها بسهولة في لحظات عدم اليقين الاقتصادي، مثل الأزمات المالية، أو جائحة كورونا في عام 2020، حيث اضطر المستثمرون إلى التخلي عن الأصول الأخرى، والتوجه إلى سندات الخزانة الأمريكية كملاذ آمن.
ومع ذلك، أشارت باربرا ماثيوز، من المجلس الأطلسي، إلى أن السياسات الاقتصادية الأخيرة للبيت الأبيض تُغير نهج التجارة الأمريكية، وتدفعها بعيدًا عن النموذج التقليدي، وتبعث برسالة إلى العالم بأن واشنطن لم تعد تعتبر التجارة الدولية مفيدة أو مجدية دائمًا. وأوضح تشوفانيك، أن مستخدمي الدولار في جميع أنحاء العالم قد يبدأون في التفكير في البدائل؛ بسبب عدم اليقين الناتج عن السياسة التجارية الأمريكية، حتى وإن كانت مثل هذه الإجراءات تحمل بعض التكلفة والشعور بالضيق.
وأشار ماثيوز، وتشوفانيك، إلى بُعد آخر مهم في سياسات ترامب التجارية، قد يسرّع من وتيرة خفض الاعتماد على الدولار في الاقتصاد الدولي، وهو ربط الحكومة الأمريكية الرسوم الجمركية المرتفعة بمخاوف الأمن القومي، ما يعزز دافع الدول المتضررة للبحث عن بدائل مالية وتجارية تقلل من نفوذ الدولار. ولعل هذا العنصر هو ما قاد إلى تهديد ترامب، بفرض رسوم جمركية بنسبة 50% على كل البضائع الواردة من كولومبيا؛ بسبب رفضها قبول الطائرات العسكرية الأمريكية المحملة بالمهاجرين غير الشرعيين من أمريكا اللاتينية.
من جانبه، أشار تشوفانيك، إلى أن فرض الرئيس الأمريكي الرسوم الجمركية بموجب قانون القوى الاقتصادية الطارئة الدولية -وهو قانون مضى عليه ما يقرب من 50 عاما، ويمنح الرئيس سلطة كاسحة لفرض عقوبات بعد إعلان حالة الطوارئ- هو ما سيكون بمثابة خطوات شبيهة بالحرب تمامًا لمعاملة كولومبيا كدولة عدو، وعزلها عن النظام المالي الدولي الذي تقوده واشنطن، والمعاملات العالمية باستخدام الدولار. وكانت هذه الإجراءات العقابية قد اقتُصرت في السابق على خصوم أمريكا الجيوسياسيين الرئيسيين، مثل كوريا الشمالية، وإيران، وأضاف الباحث أن إدارة جو بايدن، السابقة، ترددت في اتخاذ مثل هذه الإجراءات ضد روسيا بعد غزو أوكرانيا، معتبرة أن ذلك قد يُعتبر عملًا من أعمال الحرب.
وبينما تشير ماثيوز إلى أن ربط الإجراءات الجمركية بحماية الأمن القومي، يجعلها قانونية بموجب السماح لأعضاء منظمة التجارة العالمية بانتهاك التزاماتهم، لأغراض حماية الأمن القومي؛ أبدى تشوفانيك، استياءه من أن التهديدات بالقيود الاقتصادية، التي كانت مقتصرة في السابق على خصوم واشنطن، قد تُستخدم الآن ضد أي شخص في أي وقت، وخاصة أي دولة تعارض ترامب.
وفي هذا السياق، أشارت ماثيوز، إلى أن جميع دول العالم قد تم إبلاغها من قبل واشنطن أن الالتزامات التجارية الأمريكية، تأتي مع تحذير مسبق، بأن عليها أن تدعم أولويات السياسة الأمريكية، كما حددها الرئيس الحالي. وبالنسبة للدول التي ليست متوافقة جيو-اقتصاديا معها والتي في طور تنويع مراكز التجارة الدولية لديها، مثل دول مجموعة بريكس؛ فإن نطاق الإجراءات الاقتصادية العقابية من البيت الأبيض قد يطولها.
وعلى الرغم من سياسات ترامب، سيظل الدولار الأمريكي هو العملة العالمية المهيمنة على التجارة والمعاملات باختلافها. وأشار ديمتري دولجين، وكريس تورنر، من مجموعة آي إن جي، إلى أن حصة دول بريكس من التجارة العالمية –تبلغ نحو 20%– هي تقريبًا ثلث حصة ما يُسمى بـالأسواق المتقدمة التي تشمل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الدول المتحالفة مع الغرب، مثل اليابان، وكوريا الجنوبية. وأشارت تشانج، إلى أن المخاطر على الاقتصادات الغربية من تراجع هيمنة الدولار تبدو مبالغة للغاية، وأن الدولار الأمريكي مستقر، بفضل سيولة ومرونة الأسواق المالية، والأنظمة القانونية القوية التي يمكن التنبؤ بها.
ورغم تأكيد تشانج، أن تآكل هيمنة الدولار من المرجح أن يستغرق عقودًا، فإن تشوفانيك، تساءل عما إذا كان هذا التآكل، شأنه شأن العديد من التحولات الكبرى، قد يحدث تدريجيًا، ثم فجأة يفرض نفسه على أرض الواقع. وفي ضوء خضوع كولومبيا لمطالب ترامب تحت تهديدات العقوبات ضد اقتصادها؛ أشار الباحث إلى أن الرئيس الأمريكي، سيكون راغبا بشدة في توجيه تهديدات مماثلة، ضد دول أخرى قد تسعى للسيطرة عليها، أو التأثير في أصولها الاقتصادية، مما يُؤسس لسياسة اقتصادية دولية أمريكية يتم فيها التهديد بالعقوبات والرسوم الجمركية، باعتباره أمرا معتادا، ضد الأصدقاء والأعداء على حد سواء.
وفي مواجهة مثل هذه التهديدات المتكررة والمستمرة من أكبر اقتصاد في العالم، والقوة المهيمنة في التجارة الدولية؛ فإن الآثار الطويلة الأجل لتسريع عملية خفض الاعتماد على الدولار، كما ذكرها تشوفانيك، تبدو متوقعة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك