فيما تسعى الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي إلى تعزيز العمل المشترك والتنسيق والتعاون الثنائي بينها بما يخدم هدف الوصول إلى الوحدة الخليجية التي ابتغاها ميثاق المجلس يأتي تبادل الزيارات على أعلى مستويات صناعة القرار، الأمر الذي يحرص عليه جلالة الملك، وتحرص عليه القيادة البحرينية في مستوياتها المختلفة، وأنشأت لها مؤسسات تقوم على تدعيمه، كاللجان العليا المشتركة، ومجالس الأعمال.
وفي هذا السياق، جاءت زيارة جلالة الملك للإمارات في فبراير، في ظل تحديات اقتصادية وسياسية وأمنية معقدة على المستويين الإقليمي والدولي، ما استدعى تكثيف التشاور والتنسيق حول المواقف المشتركة بين البلدين، اللذين تربطهما علاقات استراتيجية عميقة، تمتد عبر الروابط التاريخية، والثقافية، والاقتصادية، والسياسية، أرسى دعائمها القادة المؤسسون، الراحل سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وأمير البحرين الراحل سمو الشيخ عيسى بن سلمان، طيب الله ثراهما.
وتعد هذه الزيارة الثانية لجلالة الملك للإمارات خلال أقل من عام، إذ سبقتها زيارته في إبريل 2024، قبيل انعقاد القمة العربية الـ 33 في مايو الماضي بالمنامة، استمرارًا لنهج التشاور والتنسيق، وفق رؤية استراتيجية موحدة، تهدف إلى تحقيق المصالح المشتركة، وتعزيز أواصر الأخوة الخليجية والعربية، وترسيخ التعاون الدولي لنشر السلام وقيم التسامح على المستوى الإنساني.
وتدفع هذه الزيارة مسارات الشراكة، والتكامل الشامل الذي يخدم البلدين والعمل الخليجي الجماعي، مع تمتع البلدين بثقل سياسي، وموقع جغرافي واستراتيجي مميز على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتبنيهما سياسة خارجية عقلانية متوازنة معتدلة، وتميزهما أيضًا في المجال الحقوقي والتحول الديمقراطي، والالتزام بسياسات إصلاحية طموحة في خطى التحديث وصناعة التقدم وتكريس دولة المؤسسات والقانون. وقد رسخ علاقات البلدين الثوابت والرؤى المشتركة إزاء القضايا الإقليمية والدولية، فضلاً عن وشائج القربى والعلاقات الأخوية المتميزة بين قيادات البلدين على المستوى الخليجي والعربي والإسلامي، فيما استمرت الإمارات داعمة للبحرين سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا.
ومع تشكيل اللجنة العليا المشتركة، عام 2000 أخذت العلاقات البحرينية الإماراتية تتوطد في المجالات كافة، وعلى رغم من قوة العلاقات بشكل عام، فإن البعدين السياسي والاقتصادي حظيا بمكانة خاصة في هذه العلاقات، وإلى هذا كانت اهتمامات هذه اللجنة، وجاءت المواقف السياسية للبلدين متطابقة دائمًا، إزاء القضايا الإقليمية والدولية، في اتجاه يحرص فيه البلدان على دعم ونصرة القضايا الخليجية والعربية والإسلامية، مع عضويتهما في مجلس التعاون الخليجي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والأمم المتحدة.
ويربط البلدين العديد من اتفاقات التعاون، الدبلوماسي، والقنصلي، والتربوي، والتعليمي، والخدمات الجوية، والنقل الدولي للركاب والبضائع، والمشاركة في تطوير حقل البحرين، وإنشاء مجلس مشترك للأعمال بين غرف تجارة وصناعة البلدين، واتفاقات في مجال التعليم العالي، والتخطيط الحضري، والكهرباء، والماء، والعمل، والتنمية الاجتماعية، والتأمينات الاجتماعية، وحماية المستهلك، وحماية البيئة والمصارف، وأسواق الأوراق المالية، والمراكز البحثية، ومذكرات تفاهم في مجالات المشاورات السياسية والأكاديمية والدبلوماسية والسياحة والإعلام والثقافة والتربية والتعليم.
ولدى اجتماع اللجنة العليا المشتركة، في نوفمبر الماضي؛ أكد الشيخ عبدالله بن زايد، نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الخارجية الإماراتي أن بلاده كانت ولا تزال ترى في البحرين شريكها الاستراتيجي في المجالات كافة، وجزء أصيل ومتجذر في مسيرة التقدم والازدهار في الخليج العربي والمنطقة، مضيفا أن استمرار انعقاد اللجنة بشكل دوري يعبر عن التزام البلدين بالعمل المشترك، حيث يتم بحث الفرص، والإنجازات، ومناقشة القضايا العالقة في مختلف المجالات، والخروج بأفضل الحلول لمواجهة التحديات وتحويلها إلى فرص، مؤكدا أن العلاقات الاقتصادية ليس مجرد أرقام، بل تعبير عن مصير مشترك وهدف طموح، فيما بلغ حجم التجارة الثنائية غير النفطية بين البلدين 7.5 مليارات دولار في 2023.
وفي إطار هذه اللجنة، يعمل البلدان على توسيع آفاق الشراكة في مجالات الصناعة والتجارة والطاقة المتجددة، إضافة إلى قطاعات النقل، والبنية التحتية، والخدمات، وقد شهد هذا الاجتماع التوقيع على مذكرات تفاهم بشأن توطيد أواصر التعاون، وتبادل الخبرات في مجال الطيران المدني، ومذكرة تفاهم بشأن التعاون الثقافي وتبادل الخبرات المالية والاقتصادية، ومذكرة تفاهم في مجال تعزيز التنافسية، وأخرى في مجال التدريب وتطوير الكفاءات الحكومية، وبرنامج تنفيذي للتعاون في المجال السياحي.
ويعد التعاون الاقتصادي بين البلدين ثمرة من ثمار العلاقات المتميزة بينهما، وإلى هذا بلغ حجم التجارة البينية غير النفطية 15.3 مليار درهم في النصف الأول لعام 2024، بزيادة بلغت 26% عن الفترة المماثلة في عام 2023، ومقارنة بين عامي 2023 والعام السابق عليه 2022، زاد حجم التجارة البينية بين البلدين بنسبة 8%، أما الاستثمارات المباشرة المتبادلة بين البلدين، فقد بلغت نحو 26 مليار درهم، وتأتي الإمارات في المرتبة الثالثة عالميًا من حيث تدفق الاستثمارات إلى البحرين، بنحو 18 مليار درهم، في حين بلغت استثمارات البحرين في الإمارات نحو 8.2 مليارات درهم حتى نهاية عام 2023. كما تحتل الإمارات المركز الثاني كأهم شريك تجاري للبحرين على مستوى العالم، مما يعكس عمق العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
وفي نهاية الربع الثاني لعام 2024، ارتفع رصيد الاستثمارات الإماراتية في البحرين بنسبة 7%، مقارنة بمثيله في 2023، وارتفع عدد التراخيص الممنوحة لمواطني الإمارات لممارسة النشاط الاقتصادي في البحرين في عام 2023 بنسبة 5%، مقارنة بمثيله في 2022، حيث بلغ عدد الرخص في نهاية 2023 ما مجموعه 2075 رخصة، وتستثمر الشركات الإماراتية في البحرين في مجموعة واسعة من القطاعات الحيوية، إضافة إلى حضور قوي للمصارف الإماراتية في البحرين.
وفيما يسعى الطرفان إلى زيادة المكون المحلي في الصناعات الوطنية، بمقتضى مذكرة التفاهم بين وزارتي الصناعة والتجارة في البلدين؛ تستطيع المنشآت الصناعية البحرينية أن تحصل من السلطات الإماراتية على شهادة برنامج المحتوى الوطني، ما يخدم هدف التكامل الخليجي عبر الاتحاد الجمركي، كما تستطيع الشركات الصناعية الإماراتية الاستفادة من برنامج القيمة المضافة المحلية في المنامة تكامل للحصول على أفضلية بنسبة 10% ما يخدم تنافسيتها في السوق البحرينية. وكان الجانبان قد وقعا مذكرة تفاهم، في يناير 2024، بشأن التعاون في مجال برنامج المحتوى الوطني، ويعزز هذا التعاون ولوج الشركات الإماراتية إلى مناقصات المشتريات الحكومية البحرينية، وولوج الشركات البحرينية إلى مناقصات المشتريات الحكومية الاتحادية في الإمارات.
وفي دلالة على عمق التنويع الاقتصادية لكلا البلدين، والتقدم المستمر في علاقاتهما الاقتصادية، بلغ حجم التبادل التجاري غير النفطي بينهما 231.6 مليار درهم خلال الفترة الممتدة بين عامي 2010 - 2022. وبحسب بيانات وزارة الاقتصاد الإماراتية، ارتفع التبادل التجاري غير النفطي من 9.1 مليارات درهم في 2010، إلى 25.7 مليار درهم في 2022 بنسبة نمو بلغت 182.4%، فيما يمتلك البلدان، رؤية تستهدف تعزيز إسهام القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي، ولا شك أن تعزيز التجارة بينهما يخدم هذه الرؤية.
وقد بلغت مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي البحريني 84%، وتتمتع البحرين بالعديد من المزايا التنافسية التي تجعلها جاذبة للاستثمار عالميًا، كانخفاض التكاليف التشغيلية، وتنوع مهارات القوة العاملة، حيث تأتي الأولى عالميًا في نسبة المهندسين المؤهلين، وعربيًا في المهارات الفنية، والرابع عالميًا في نسبة العمالة الماهرة، ولهذا لم يكن غريبًا أن تتمكن من استقطاب استثمارات أجنبية مباشرة غير مسبوقة في 2023، بمبلغ 6.8 مليارات دولار، متجاوزا قيمة الاستثمارات المستقبلة في 2022 بنسبة 148%، وفق تقرير الاستثمار عالميًا الصادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، الأونكتاد.
يأتي هذا فيما تجاوز عدد المستثمرين الإماراتيين المسجلين في الشركات المساهمة ببورصة البحرين أكثر من 7 آلاف مستثمر، وبلغ عدد مواطني الإمارات المالكين لعقارات في البحرين 812، وعدد المستثمرين الإماراتيين في السجل التجاري 1846 شركة. وتتمثل أهم القطاعات التي يستثمر فيها الإماراتيون في: (تجارة الجملة والتجزئة، صناعة الأدوية ومستحضرات التجميل، توليد الطاقة، النقل الجوي للركاب والبضائع، الاستزراع السمكي، النشاط المصرفي والتأمين، أنشطة السياحة، التنقيب عن النفط والغاز، الأنشطة العقارية، صناعة الحلى والمجوهرات، الخدمات التعليمية والتدريبية). فيما تبرز العديد من الشركات الإماراتية في هذه الأنشطة مثل: (دانا غاز، جهاز أبوظبي للاستثمار، الاتحاد للطيران، العالمية لزراعة الأسماك، الوطنية للتبريد المركزي، مجموعة الغرير، مجموعة دبي القابضة، مجموعة ماجد الفطيم، مبادلة للاستثمار، بنك الشارقة، بنك المشرق، بنك أبوظبي الأول، بنك أبوظبي التجاري، دبي الإسلامي).
من ناحية أخرى، بلغ عدد العلامات التجارية البحرينية المسجلة في الإمارات 689 علامة، وعدد الوكلاء التجاريين 4 والشركات 41، وتنشط في مجالات تجارة الجملة والتجزئة، والإصلاح والصيانة، والاتصالات والسياحة والنقل.
على العموم، تعد هذه الأنشطة المتبادلة نموذجًا حيًا للمواطنة الاقتصادية الخليجية على أرض الواقع. وتأتي الزيارات المتبادلة بين قيادتي البلدين، إلى جانب التنسيق المستمر وتعزيز التعاون، وتوحيد المواقف تجاه القضايا الإقليمية والدولية، لترسخ هذا النموذج. فيما كانت الإمارات دائمًا طرفًا فاعلًا رئيسيًا، سواء من خلال مساهمتها في برنامج التنمية الخليجي، أو عبر دعم الاستقرار المالي في الموازنة البحرينية، انطلاقًا من قناعة قيادتها بأن البحرين تمثل بحق بوابة الخليج سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك