أشرت في مقالات سابقة إلى موضوع إدارة الأزمات والكوارث والذي يعد جوهر الأمن الوطني لكل دول العالم، لسبب مؤداه هو أنه لا توجد أي دولة لم تواجه أزمات أو كوارث سواء طبيعية أو صناعية ولكن معيار النجاح في مواجهتها يرتبط على نحو وثيق بما لدى الدولة من مؤسسات يمكنها التعامل مع ذلك التحدي وخاصة الكوارث بنوعيها، لأن العامل الأساسي للتمييز بين الأزمات والكوارث هو أن الأولى يكون لها مقدمات بما يتيح للدول الاستعداد لها للحد من آثارها، بينما الكوارث ليس لها مقدمات سواءً أكانت طبيعية مثل الزلازل والفيضانات والبراكين أو صناعية مثل تسرب غاز من إحدى المنشآت الصناعية على سبيل المثال، والأمثلة على ذلك عديدة لعل أبرزها ما شهدته اليابان عام 2011 والذي وصف بالكارثة الثلاثية وهي زلزال بقوة 9 ريختر أدى إلى موجات تسونامي عنيفة نتج عنها تسرب نووي من مفاعل فوكوشيما النووي، إلا أن الاحترافية التي تعاملت بها الحكومة اليابانية في إدارة تلك الكارثة قدمت نموذجا مهما في كيفية مواجهة كوارث من هذا النوع.
وتأسيساً على ما سبق فإن تأكيد مصادر بالمملكة على إنشاء مركز إدارة الطوارئ الوطنية يعد أمراً مهماً وذا طابع استراتيجي بالنظر إلى ما تفرضه الكوارث وخاصة الصناعية من تحديات تحتاج إلى خطط وإجراءات استباقية للتعامل معها حال حدوثها، من ناحية ثانية فإن تأسيس مثل تلك المراكز بهدف تعزيز الجاهزية الوطنية وفقاً لما تم إعلانه في هذا الشأن يسهم في اتخاذ الإجراءات اللازمة للتعامل مع طبيعة الكارثة والتي تتسم بثلاث سمات كما هو الحال للأزمة أيضاً من حيث إنها موقف مفاجئ يترتب عليه درجة عالية من المخاطر ويتطلب اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة في مدى زمني محدود للغاية مع نقص أو تضارب المعلومات أحياناً حول طبيعة ذلك الخطر، ويقدم التاريخ دروسا عديدة مستفادة في هذا الإطار وقد أشرت إلى بعضها سابقاً ومنها كارثة مصنع بوهبال في الهند عام 1984 ومختصر تلك الكارثة أنه في فجر يوم 3 ديسمبر 1984 حدث تسرب للغاز من مصنع يقوم بإنتاج مبيدات حشرية في تلك المنطقة محدثاً تسربا للغاز السام وأدى إلى تكوين سحابة كثيفة على امتداد ثمانية كليومترات واستمرت نحو سبع ساعات الأمر الذي أدى إلى انهيار نظام المواصلات ووفاة الآلاف خلال وقت بسيط للغاية وقدرت الإصابات بالآلاف أيضاً، والحادثة بها تفاصيل كثيرة وكانت هناك تفسيرات مختلفة منها الخطأ البشري وعدم وجود صيانة لتلك المنشأة الصناعية، ولكن الأمر المهم هو كيفية تعامل السلطات الهندية مع تلك الكارثة! فبسبب عدم وجود خطة متكاملة لمواجهة كوارث من هذا النوع كانت الخسائر مضاعفة ومنها على سبيل المثال عدم دراية الأطباء بتركيبة ذلك الغاز وبالتالي كان تشخيص الحالات خاطئاً ومن ثم تقديم العلاج الخاطئ مما زاد من عدد الوفيات، فضلاً عن عدم وجود نظام اتصالات بديلة يمكن من خلاله أن يتواصل أعضاء المؤسسات المعنية بمواجهة تلك الكارثة، آخذاً في الاعتبار أن غياب الإجراءات الاحترازية ذاتها كانت سبباً أساسياً لوقوع الكارثة مثل إهمال صيانة المصنع والقصور في تدريب مسؤولي الصيانة، ودون الخوض في وجود عوامل تساعد على زيادة نسبة الإصابات منها الطبيعة الجغرافية للتربة وسرعة واتجاه الرياح وحالة الطقس فإن تلك الحادثة بها العديد من الدروس المستفادة أولها: إن وجود معلومات متكاملة لدى فريق إدارة مثل تلك الكوارث حول المنشآت الصناعية وطبيعة الغاز المستخدم فيها أمر ضروري للغاية ليس فقط للفريق وإنما أيضاً من خلال توعية السكان القاطنين بالقرب من تلك المنشآت على كيفية التصرف خلال كوارث من هذا النوع، فضلاً عن أهمية وجود أدوية لمعالجة التعرض لمثل تلك الغازات في المستشفيات القريبة من تلك المنشآت وتعريف الأطباء بها، وثانيها: أهمية الصيانة الدورية للمنشآت الصناعية والإبلاغ عن أي خلل بشفافية ومسؤولية، حيث إن ذلك يتيح إمكانية التعامل مع ذلك الخلل بشكل مبكر للغاية، وثالثها: وضع خطة للطوارئ لمواجهة مثل تلك الحوادث بل تدريب سكان المنطقة عليها، وهنا نأتي إلى نقطة مهمة للغاية وهي التمرينات الافتراضية والتي تقوم بعض المؤسسات المعنية بإدارة الأزمات والكوارث في عديد من دول العالم بإجرائها بشكل دوري وهي ببساطة وضع سيناريو افتراضي يتضمن مخاطر وتهديد هائل وبالطبع لا توجد سيناريوهات تصلح لكل دول العالم ولكن يتم تصميم تلك السيناريوهات وفقاً لاحتياجات كل دولة وطبيعة المخاطر التي تواجهها، والمفيد في تلك السيناريوهات هي أنها تتضمن ثلاثة عناصر مترابطة وهي توقع مخاطر الكوارث من أقصاها إلى أدناها وتحديد القدرات المتاحة لمواجهتها ومن ثم تحديد الفجوات إن وجدت، والغاية الاستراتيجية العمل طيلة الوقت على سد تلك الفجوات والإبقاء على جاهزية عالية، ليس لمنع تلك الكوارث، فكل دول العالم بما فيها القوى الكبرى لم تستطع منع تلك الكوارث مهما بلغت قدراتها وإمكاناتها ولكن الهدف هو إدارتها للحد من آثارها التدميرية، من ناحية ثانية لوحظ وخلال كل الكوارث التي شهدتها دول العالم الدور الحيوي والمهم الذي اضطلع به المجتمع المدني جنباً إلى جنب مع الحكومة ومن ثم فإن ترسيخ الوعي المجتمعي بكيفية التعاون خلال مواجهة تلك الكوارث أحد عوامل نجاح مواجهتها.
لقد أولت كل دول العالم خطط مواجهة حالات تسرب الغاز من المنشآت الصناعية اهتماماً كبيراً بالنظر إلى آثارها التدميرية على الإنسان والبيئة معاً لسنوات ليست بالقليلة مما يجعل وضع خطط لمواجهتها أمر ضروري وحيوي.
وتوجد معايير وضعتها المؤسسات الدولية المعنية لقياس درجة خطورة ومدى انتشار تلك التسربات حال حدوثها وتقوم بتزويد كل الدول بها وتمثل قواعد استرشادية لمواجهة تلك الكوارث، فبعض الدول وضعت ما يسمى بالدليل الإرشادي للإدارة البيئية للمناطق الصناعية والبعض الآخر لديه خطط بالفعل للإخلاء حال حدوث كوارث بسبب تسربات للغاز من المنشآت الصناعية.
ومجمل القول إن مواجهة تلك الكوارث يتطلب ثلاث ركائز أولها: وجود فريق معني بإدارة كوارث من هذا النوع ولديه خطط متكاملة تتضمن إجراءات ومسؤوليات وتوزيع للأدوار، وثانيها: مجتمع واعٍ بتلك المخاطر وأهمية دوره للتكامل مع الجهود الحكومية حال وقوع تلك الكوارث، وثالثها: تمرينات افتراضية للإبقاء على الجاهزية بشكل دائم.
لقد أصبح علم إدارة الأزمات والكوارث أحد المقررات الدراسية الأساسية في المؤسسات الأكاديمية الأمنية في عديد من دول العالم بغرض الدمج بين العنصرين المدني والعسكري كمتطلب أساسي لوضع خطط واستراتيجيات مواجهة الأزمات والكوارث وترسيخ الوعي بها في ظل استمرار دول العالم في تأسيس المنشآت الصناعية ضمن خططها التنموية.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك