في صندوقه الحديدي وبين أوراقه الصفراء القديمة وجدت هذه الحكاية؛
كتب جدي يقول:
في الزمن الغابر كان يوجد شيخ للتجار إلا أنه ظالم، معتد بنفسه وبثروته وقوته، وكان يملك قصرًا عظيمًا، بنى شيخ التجار قصره بجانب كوخ مصنوع من الخشب والطين لامرأة عجوز، إلا أن الكوخ كان موجودًا في هذا المكان نفسه منذ سنوات طويلة قبل أن يولد شيخ التجار.
ذات يوم ذهبت العجوز إلى شيخ التجار، وطلبت منه يعطيها بعض الأطعمة وبعض المساعدات؛ لأنها كانت تشعر بالجوع نظرًا لفقرها الشديد، فنظر إليها بسخرية، وطلب من الحراس أن يطردوها خارج القصر، ثم بعد مرور بعض من الوقت طلب من الحراس أن يهدموا لها الكوخ الخاص بها، وذلك لأن منظره غير لائق بجانب القصر الخاص به.
فوقفت العجوز أمامه وقالت: سيمر الزمن، وستأتي لي، وتطلب مني المساعدة.
سخر شيخ التجار من كلامها، وظل يضحك فقال: أنا شيخ التجار ولدي كثير من الأموال والخيرات وسبائك الذهب، وما أنت إلا عجوز فقيرة لا تمتلكي أي شيء، فماذا تملكين حتى أطلب منك لتساعديني به.
ثم طلب من الحراس أن يغلقوا باب قصره وهو يملأ قلبه الغرور.
لجأت العجوز للكهوف والجبال وظلت تأكل من النباتات، وتشرب من الينابيع حتى لا تشعر بالجوع، وهذا ما جعلها تميز وتتعرف جميع أنواع النباتات، الصالح منها للأكل والصالح للعلاج وغير ذلك.
وتمر الأيام والسنون؛ وفي ذات يوم دعا شيخ التجار حراسه وأعوانه من الأمراء وذبح عدد كبير من الماعز والخرفان، وتنوعت اللحوم على المائدة وجميع أنواع الفاكهة وكل أنواع الطعام. دعا شيخ التجار الجميع لحضور الطعام الجماعي، ثم بدأ الجميع وهو كذلك يأكلون بشراهة، حتى امتلأ بطن شيخ التجار، ولكنه لم يتوقف فالأكل لذيذ الطعم لا يقاوم، فأصابته تخمة وعسر هضم بسبب الأكل الزائد، فمرض وانهارت قواه.
طلب شيخ التجار الأطباء من كل أنحاء البلاد حتى يبدأوا في علاجه، ولكنهم عجزوا عن ذلك، وكان كل طبيب يأتي إلى شيخ التجار لا يستطيع أن يشفيه، بالإضافة إلى أن صلافة شيخ التجار جعلت الأطباء يتجنبون تلبية طلبه فما بالنا بعلاجه. وبعد مرور الوقت ساءت حالة شيخ التجار أكثر فأكثر، وكان يشعر بانتهاء حياته، فأمر شيخ التجار أن يذهب الحراس والمنادون إلى أنحاء البلاد لينادي من يستطيع شفاء شيخ التجار أو مساعدته، فسوف يبني له شيخ التجار قصرًا عظيمًا ويعطيه من سبائك الذهب والأموال وبعض من الماشية والخيرات، وسيصبح من مقربي وجلساء شيخ التجار.
عندما سمعت العجوز بمرض شيخ التجار، قررت الذهاب إليه كي تشفيه، فعندما أبصر شيخ التجار العجوز تعجب إلا أنه لم يعرفها، فقال لها: أنت أيتها العجوز تريدين أن تعالجيني؟ فقالت له: بإذن الله. فوضعت يديها على مكان الألم وحاولت أن تتعرف على ما يعانيه، وبعد هنيهة، اعتذرت وطلبت الخروج حتى توفر الدواء المناسب، فخرجت، وذهبت إلى الجبال فقطفت بعض الزهور والنباتات، وقامت بغليها في كمية من الماء فأنتجت منها دواء. وضعت العجوز الدواء في وعاء صغير، وأخذته لشيخ التجار لكي يشرب منه. وفعلاً أطاع شيخ التجار بعد أن عجز أن يجد الدواء المناسب، فماذا يمكن أن يحدث أكثر مما يعانيه؟ فشرب من الدواء التي صنعته العجوز.
وبعد مرور عدة أيام بدأ شيخ التجار يتعافى بصورة جزئية، وهذا شجعه على الاستمرار في شرب الدواء.
وبعد حوالي شهر تعافى شيخ التجار بشكل كامل، فطلب العجوز وقال لها: اطلبي أي شيء تريدين، الذهب والمال والأنعام وكل الخير بين يديك، فقط اطلبي.
فقالت العجوز: كوخي الصغير الذي أمرت حراسك بهدمه، أتذكر؟ أتذكر يومًا قلت لك إنك ستطلب مني المساعدة، ولكنك احتقرتني، وها أنت ذا تقف بين يديّ ذليلاً تطلب المساعدة ومني أنا فقط، ألم تتعلم من تاريخ الأمم أن النعم لا تدوم وأن الأيام تدور؟ وأنك لا تستطيع أن تطرد أحدا من أرضه مهما كانت قوتك، فالضعيف يستمد قوته من الله سبحانه، فهل تستطيع أن تواجه المظلوم الذي ليس بينه وبين الله سبحانه حجاب.
وقف شيخ التجار لحظات مفكرًا ومتألمًا، ومستدركًا خطأه، فنادي بالحراس وطلب منهم إعادة بناء كوخ العجوز وطلب منهم بدلاً من بناء الكوخ أن يقوموا ببناء منزل يليق بالمرأة، إلا أنها رفضت وطلبت إعادة بناء كوخها المهدم فقط، فهي لا تريد إلا منزلها.
وانتهت الحكاية،
عندما انتهيت من قراءة هذه القصة في القصاصة الصفراء من أوراق جدي تذكرت قصة سيدنا يوسف عليه السلام، فإخوة يوسف عليه السلام تآمروا عليه وحاولوا في البداية قتله، ولكنهم تخلصوا منه بالطريقة المذكورة في سورة يوسف، وعندما مرت الأيام والسنون جاؤوا إليه ودخلوا قصره، فأيديهم تلك التي قامت بعمل الجريمة في حق يوسف عليه السلام هي نفسها التي توسلت وتسولت منه لقمة العيش، فقالوا (تصدق علينا).
هذه الحكاية تعيدني إلى الأحداث التي تجري هذه الأيام في الشرق الأوسط، فأمريكا بكل قوتها وقضهم وقضيضهم تحاول أن تفرض مسارا واحدا لا ثاني له للخروج مما يسمى بأزمة الشرق الأوسط، وهي القضية الفلسطينية، ولكن بطريقة تنعدم إلى المنطق والفكر المنهجي السليم، فهي تريد إخراج أهل الأرض الأصليين من أرضهم من أجل خاطر عيون شعب محتل يجد نفسه أحق بامتلاك الأرض، أي منطق هذا؟
ولكننا لا نستغرب هذا التصرف من أمريكا، فعندما نعود إلى التاريخ نجد أن المحتل الأوربي – وهو الأمريكي اليوم – طرد الهنود الحمر وهم أصحاب الأرض الحقيقيون من أرضهم وأسكنهم في المحميات وبعض المناطق القليلة وفرض عليهم القيود والأنظمة والاشتراطات حتى لا يستطيع أحد من الهنود الحمر التحرر، وحتى نؤكد هذا؛ فكم رئيس للولايات المتحدة حكم كان أصله من السكان الأصليين؟ لا أحد.
لا نستغرب هذا من أمريكا، فالشعب الأمريكي – كما فعل شيخ التجار – لا يعرف للأرض قيمة، فهو مهاجر من شتات الأرض، استوطن هذه الأرض التي يعيش عليها اليوم، فلا جذور له في هذه الأرض بعكس العجوز التي كانت تمتد جذورها في تلك الأرض، لذلك فإن عقله المادي لا يفهم ولا يرتقي إلى المعنى الحقيقي لمفهوم (أن هذه أرضي فلن أغادرها)، فالأرض والبلد ليس مجرد قطعة من تراب يمكن استبدالها مرة ومرات ولا الكوخ خشب وطين، وإنما الأرض قطعة من روح الإنسان ونفسه وحياته، وجذوره وامتداد أجياله القادمة، لذلك تمسكت بها العجوز أمام شيخ التجار، وهذا ما يفعله أهل غزة.
الفكر الأمريكي يمكن أن نمثله بثلاثة مفاهيم؛ وهي أولاً، الفكر المادي والذي يحكمه أنه ذو قدرة على شراء أي شيء وبالكيفية التي يريدها هو، فهو الذي من حقه أن يعيش وأن يقرر، ولأنه فردي فإنه لا يفكر إلا في نفسه وفي تحقيق رغباته أيًا ما كانت تلك الرغبات حتى وإن كانت تعارض رغبات الآخرين، فهو لا يرى الآخرين، بمعنى أن الآخرين ما هم إلا مجموعة من الحيوانات التي من المطلوب عليها أن تحقق رغباته هو فقط، لذلك فهو مادي بحت، بالمختصر: إنك تستطيع شراء أي شيء بالمبالغ التي بين يديك؛ فيمكنك شراء حريات البشر، حياتهم، أفكارهم وكل شيء، إذ إن كل شيء قابل للبيع والشراء.
الأمر الآخر؛ عقلية رعاة البقر (الكابوي)، فقد كنا نشاهد أفلام راعي البقر الأبيض الذي يقتل ويبيد الشعوب والسكان الأصليين، ويخرجهم من مناطقهم، حتى يقوم هو باحتلال الأرض التي يريدها، وهي أصلاً ليست من حقه، ولكن لأنه يريدها فإذًا هي من حقه، أما الشعوب الأصلية فهي مجرد شعوب همجية كل همها أن ترقص وتغني طوال الليل وتأكل اللحوم المشوية، فهم لا يعرفون الفكر والثقافة والحضارة، بينما الرجل الغربي الأبيض هو الذي يحمل بيده اليمنى الحضارة، وبيده اليسرى الحرية والمال، ولكن الحقيقة تقول عكس ذلك.
العقلية الثالثة التي تحكم الفكر الأمريكي هي عقلية السوبرمان (الرجل الخارق) الذي من حقه أن يحكم الأرض وأنه يستطيع أن يفعل أي شيء يريد وفي أي بقعة من الأرض، فهو الحاكم الفعلي للكرة الأرضية، شاء من شاء وأبى من أبى، فلا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تحد من قوته، أو أن تقف في وجهه ولا قيد أنملة، وهذا يعني بكل بساطة أنه من حقه الخالص أن يأخذ كل ما يريد وفي أي لحظة، فأوامره يجب أن تطاع، فلا يجرؤ أي شخص أو أي قوة أن تقول له لا.
وهذا بالضبط كان فعل شيخ التجار، الذي اعتقد في لحظة أنه يستطيع أن يفعل ما يريد وكيفما يريد، ولكن نسي أن هناك قوة موجودة دائمًا يمكن أن تقف في وجهه، فبعوضة واحدة يمكن أن توقف قلبه، وفيروس واحد أغلق العالم في لحظة، فلا يجب أن ننسى ذلك.
يقول تعالى في سورة إبراهيم – الآية 42 (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إنَّمَا يُؤخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأبْصَارُ)، ونقول مرة أخرى إن الله سبحانه وتعالى لا يجامل أحدا على حساب أحد، ولكننا نؤمن تمامًا بنواميس الله سبحانه في الكون، وأن النهاية التي ستنسف الإمبراطورية الأمريكية الغاشمة والصهيونية النازية قادمة.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك