العدد : ١٧١٣٠ - السبت ١٥ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ شعبان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٣٠ - السبت ١٥ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٦ شعبان ١٤٤٦هـ

الكواليس

وفاء جناحي

waffajanahi@gmail.com

لست ملاكا

عشت‭ ‬نصف‭ ‬عمري‭ ‬وأنا‭ ‬أمام‭ ‬خيارين‭ ‬لا‭ ‬ثالث‭ ‬لهما،‭ (‬أولهما‭ ‬مر‭) ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬استحمل‭ ‬وأعيش‭ ‬مع‭ ‬إنسان‭ ‬أناني‭ ‬لا‭ ‬يحب‭ ‬إلا‭ ‬نفسه‭ ‬ولا‭ ‬يعيش‭ ‬إلا‭ ‬لملذاته‭ ‬الشخصية،‭ ‬يعتبر‭ ‬بيته‭ ‬فندقا‭ ‬وأنا‭ ‬الخادمة‭ ‬التي‭ ‬تلبي‭ ‬رغباته‭ ‬وتربي‭ ‬أولاده‭ ‬فقط،‭ ‬أما‭ (‬ثاني‭ ‬خيار‭ ‬كان‭ ‬علقما‭) ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬اخلعه‭ ‬وأخسر‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بيتي‭ ‬وأطفالي‭ ‬بل‭ ‬وأدفع‭ ‬له‭ ‬ثمن‭ ‬حريتي‭ ‬لأسجن‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬والدي‭ ‬تحت‭ ‬رحمة‭ ‬أخي‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬ترحم‭ ‬المرأة‭ ‬المطلقة‭.‬

تقول‭ ‬صاحبة‭ ‬القصة‭: ‬أرى‭ ‬يوميا‭ ‬نظرات‭ ‬الناس‭ ‬الغريبة‭ ‬بل‭ ‬أسمع‭ ‬همسات‭ ‬البعض‭ ‬عني‭ ‬عندما‭ ‬يشاهدونني‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مجمع‭ ‬أو‭ ‬مناسبة‭ ‬وكأنني‭ ‬مجرمة‭ ‬أو‭ ‬مخطئة‭ ‬ويقولون‭ ‬عني‭ ‬بأنني‭ ‬بلا‭ ‬ضمير‭ ‬أو‭ ‬إحساس‭ ‬ولكنني‭ ‬قررت‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭ ‬ألا‭ ‬أهتم‭ ‬إلا‭ ‬بنفسي‭ ‬وأن‭ ‬أحب‭ ‬نفسي‭ ‬ولن‭ ‬يسعدني‭ ‬إلا‭ ‬نفسي‭. ‬

بعد‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬العذاب‭ ‬والذل‭ ‬والإهانة‭ ‬مع‭ ‬زوجي‭ ‬الظالم،‭ ‬أصيب‭ ‬مؤخرا‭ ‬بجلطة‭ ‬أقعدته‭ ‬الفراش،‭ ‬ففقد‭ ‬قوته‭ ‬وجبروته‭ ‬وهنا‭ ‬كانت‭ ‬فرصتي‭ ‬للانتقام‭ (‬كما‭ ‬يقول‭ ‬الناس‭) ‬ولكن‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬كانت‭ ‬فرصتي‭ ‬لنيل‭ ‬حريتي،‭ ‬وعيش‭ ‬حياتي‭ ‬بالطول‭ ‬والعرض‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭ ‬بالضبط،‭ ‬ولكن‭ ‬طبعا‭ ‬بحدود‭ ‬العادات‭ ‬والدين،‭ ‬حيث‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يتركني‭ ‬مريضة‭ ‬طريحة‭ ‬الفراش‭ ‬ويخرج‭ ‬ليسهر‭ ‬مع‭ ‬أصدقائه،‭ ‬وكم‭ ‬كان‭ ‬يحلو‭ ‬له‭ ‬السفر‭ ‬قبل‭ ‬موعد‭ ‬ولادتي‭ ‬بيوم‭ ‬حتى‭ ‬يهرب‭ ‬من‭ ‬تعب‭ ‬ومسؤوليات‭ ‬الولادة،‭ ‬لم‭ ‬يرحم‭ ‬تعبي‭ ‬أو‭ ‬مرضي‭ ‬أو‭ ‬توسلاتي‭ ‬له‭ ‬بأن‭ ‬يهتم‭ ‬بي‭ ‬أو‭ ‬بأولاده‭ ‬وهم‭ ‬صغار،‭ ‬كان‭ ‬يرمي‭ ‬لنا‭ ‬المال‭ ‬وكأن‭ ‬مسؤوليته‭ ‬الوحيدة‭ ‬تجاهها‭ ‬هو‭ ‬توفير‭ ‬المال‭ ‬فقط‭ ‬بلا‭ ‬أي‭ ‬مشاعر‭ ‬أو‭ ‬أحاسيس‭.. ‬لذلك‭ ‬كنت‭ ‬أطلب‭ ‬مزيدا‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬وأجمع‭ ‬كل‭ ‬فلس‭ ‬في‭ ‬البنك‭ ‬باسمي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعلم،‮ ‬لكي‭ ‬أتحرر‭ ‬منه‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬الأيام‭ ‬ولعدم‭ ‬شعوري‭ ‬معه‭ ‬بالأمان‭ ‬أبدا‭. ‬وفعلا‭ ‬كبر‭ ‬أبنائي‭ ‬وتزوجوا‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬أطلب‭ ‬حريتي‭ ‬حلت‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬عليّ‭ ‬وسقط‭ ‬الظالم‭ ‬وأصبح‭ ‬طريح‭ ‬الفراش‭.‬

أضافت‭ ‬صاحبة‭ ‬القصة‭: ‬لن‭ ‬أكذب‭ ‬أو‭ ‬أنافق‭ ‬بل‭ ‬أعترف‭ ‬بأنني‭ ‬صليت‭ ‬ركعتين‭ ‬شكرا‭ ‬لله‭ ‬لأنني‭ ‬أعتقد‭ ‬أن‭ ‬رب‭ ‬العالمين‭ ‬لبى‭ ‬دعواتي‭ ‬ومسح‭ ‬دموعي‭ ‬وكافأني‭ ‬أخيرا‭ ‬على‭ ‬صبري‭ ‬وتحملي‭ ‬ظلمه‭ ‬وخياناته‭ ‬وإهماله‭ ‬لي،‭ ‬لذلك‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬حياتي‭ ‬الآن،‭ ‬نعم‭ ‬لم‭ ‬أزره‭ ‬في‭ ‬المستشفى،‭ ‬بل‭ ‬دفعت‭ ‬ثمن‭ ‬سفرة‭ ‬جميلة‭ ‬مع‭ ‬مكتب‭ ‬سفريات‭ ‬وذهبت‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا،‭ ‬وقضيت‭ ‬أجمل‭ ‬أيام‭.‬

استنكر‭ ‬أهلي‭ ‬وأهله‭ (‬مع‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يعلمون‭ ‬بكل‭ ‬أفعاله‭) ‬ويطلبون‭ ‬مني‭ ‬الصبر‭ ‬والتحمل‭ ‬دائما،‭ ‬وتوقعوا‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أقف‭ ‬بجانبه‭ ‬وأقضي‭ ‬حياتي‭ ‬الباقية‭ ‬في‭ ‬خدمته‭ ‬وتمريضه‭!!‬

لقد‭ ‬كان‭ ‬يوفر‭ ‬لي‭ ‬ممرضة‭ ‬ترعاني‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬ولادة‭ ‬وعاملة‭ ‬منزل‭ ‬تساعدني‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬البيت‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬له‭ ‬بالضبط،‭ ‬حيث‭ ‬إنني‭ ‬وفرت‭ ‬له‭ ‬ممرضة‭ ‬ترعاه‭ ‬يوميا‭ ‬وشغالة‭ ‬تطبخ‭ ‬له‭ ‬أكله‭ ‬واكتفيت‭ ‬بأن‭ ‬أباشرهما‭ ‬يوميا‭ ‬واطمئن‭ ‬بأنهما‭ ‬تؤديان‭ ‬واجباتهما‭ ‬على‭ ‬أكمل‭ ‬وجه،‭ ‬أما‭ ‬أنا‭ ‬فلدي‭ ‬حياتي‭ ‬وطلعاتي‭ ‬ومناسباتي‭ ‬وسهراتي‭ ‬التي‭ ‬أجلتها‭ ‬لأربي‭ ‬أبنائي‭.‬

أولادي‭ ‬عاشوا‭ ‬معي‭ ‬كل‭ ‬معاناتي‭ ‬لذلك‭ ‬هم متفهمون‭ ‬موقفي‭ ‬نوعا‭ ‬ما،‭ ‬ولكن‭ ‬نظراتهم‭ ‬تحرقني‭ ‬أحيانا،‭ ‬حيث‭ ‬إنه‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬أبوهم‭ ‬الذي‭ ‬يكنون‭ ‬له‭ ‬الحب‭ ‬والاحترام‭ ‬وأعتقد‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يتمنون‭ ‬من‭ ‬أعماقهم‭ ‬أن‭ ‬أسامح‭ ‬والدهم‭ ‬وأرعاه‭ ‬خصوصا‭ ‬انه‭ ‬يشعر‭ ‬بالندم‭ ‬الشديد‭ ‬لما‭ ‬فعله‭ ‬بي‭ ‬وبهم‭ ‬ويطلب‭ ‬منهم‭ ‬ومني‭ ‬أن‭ ‬أسامحه،‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬سيعيد‭ ‬لي‭ ‬ندمه‭ ‬أحلى‭ ‬سنوات‭ ‬عمري؟‭ ‬وهل‭ ‬سينسيني‭ ‬ندمه‭ ‬دموع‭ ‬وقهر‭ ‬الليالي‭ ‬وكسرة‭ ‬الأيام؟‭ ‬هل‭ ‬ستمحي‭ ‬كل‭ ‬الظلم‭ ‬اللي‭ ‬عشته‭ ‬طوال‭ ‬تلك‭ ‬السنوات؟‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إليّ‭ ‬بكل‭ ‬جبروت‭ ‬في‭ ‬عيني‭ ‬ويقول‭ ‬نعم‭ ‬خنتك‭ ‬لأنني‭ ‬رجل‭ ‬عادي‭ ‬نزوة‭ (‬فلا‭ ‬تكبرين‭ ‬السالفة‭ ‬وربي‭ ‬عيالج‭)! ‬كيف‭ ‬وهل‭ ‬أنسى؟‭ ‬جوابي‭ ‬أنا‭ ‬هو‭ ‬لا‭ ‬لأنني‭ ‬لست‭ ‬ملاكا‭.‬

خمسة‭ ‬وعشرون‭ ‬سنة‭ ‬من‭ ‬العذاب‭ ‬والإهمال‭ ‬والإهانة‭ ‬والخيانات‭ ‬جعلت‭ ‬قلبي‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬حجر‭ ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬بأي‭ ‬أحاسيس‭ ‬جميلة‭ ‬نحوه،‭ ‬عشت‭ ‬تعيسة‭ ‬نصف‭ ‬عمري‭ ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬السعادة‭ ‬إلا‭ ‬منذ‭ ‬سنة،‭ ‬هل‭ ‬اترك‭ ‬السعادة‭ ‬وارجع‭ ‬للدموع‭ ‬والعذاب؟‭ ‬أنا‭ ‬لست‭ ‬ملاكا‭ ‬بل‭ ‬إنسانة‭ ‬لذلك‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أنسى‭ ‬الظلم،‭ ‬فلماذا‭ ‬أصبحت‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الناس‭ ‬امرأة‭ ‬قاسية‭ ‬بلا‭ ‬قلب؟؟‭ ‬من‭ ‬حولني‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬المرأة؟‭ ‬لماذا‭ ‬يطلب‭ ‬المجتمع‭ ‬من‭ ‬المرأة‭ ‬دائما‭ ‬التضحية‭ ‬بسعادتها‭ ‬ولا‭ ‬يطلبونه‭ ‬من‭ ‬الرجل؟‭ ‬آسفة‭ ‬جدا‭ ‬أنا‭ ‬لست‭ ‬ملاكا‭ ‬لكي‭ ‬أنسى‭.‬

إقرأ أيضا لـ"وفاء جناحي"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا