عندما ختمت مقالا سابقا لي حول الأحداث السياسية في سوريا بعرض سيناريوهين محتملين لمآلاتها: إما أن تنصهر القوى المختلفة في وحدة قوية لبناء مجتمع جديد، وإما أن تتناحر فيما بينها على السلطة فتجرّ على البلاد مزيدًا من الكوارث ولم أجد توصيفا أدق لذلك من عنوان أطلقه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة د. زكي نجيب محمود ـ رحمه الله ـ على كتابه: «مجتمع جديد أو الكارثة»، وهو عنوان لإحدى مقالاته المتضمنة فيه أيضا، أي إن سوريا في الوقت الحاضر أمام تحد لبناء مجتمع جديد أو مواجهة شبح كارثة.
وثمة سبب آخر لهذا الاختيار وهو أن وشائج فكرية تربطني بالوضعية المنطقية التي كان هو ممثلًا لها في مصر.. فقد كان واحدًا من أهم الفلاسفة العرب العظام الذين أشعلوا في نفسي جذوة العشق بالفلسفة، فالتحقت بقسم الفلسفة والعلوم الإنسانية في كليتين للآداب في مصر وفرنسا معا واخترت تخصصا دقيقًا في الماجستير والدكتوراه يدخل في مجال فلسفة اللغة وتحليل الخطاب، وهو مجال وثيق الصلة بالفلسفة التحليلية.
إن تذكري عنوان ذلك الكتاب يتعلق بسياق سياسي مختلف عن السياق العلمي الذي كان يتناوله د. زكي نجيب محمود، فضلا عن أنه من الناحية اللغوية الدلالية يصف بدقة الوضع الراهن في سوريا. كما جذبني إليه وروده على قلم فيلسوف أحببته وشغفت طويلًا بفكره وتحليلاته المنطقية العميقة.
كان انتقائي هذا العنوان تعبيرًا عن اعتزاز عميق أُكِنُّه له ولكتاباته الفلسفية. إنني كأستاذ جامعي أقدِّر تمامًا أن استعارة هذا العنوان لوصف حالة سياسية مختلفة تمامًا عما يتناوله الكتاب ـ رغم ما تعبر عنه من اعتزاز بالفيلسوف الكبير وأعماله ـ قد تثير شعورًا لدى ذويه الكرام بأنها تنطوي على مساس بحق المؤلف في الاستئثار بعناوين كتبه، وهذا عندي يعد سببا كافيا وواجبا لأن أتقدم إليهم بهذا الإيضاح تقديرا لمكانة الفيلسوف الكبير الراحل وإبداعاته.
يضاف إلى ما ذكرته أن د. زكي نجيب محمود نفسه قد علق على اختياره هذا العنوان لمقاله بقوله: «هذا العنوان ليس من عندي ولكنه عنوان كتاب يشتمل على بحث علمي اضطلع فيه فريق من الباحثين مستهدفين وضع الأساس النظري الذي يمكن أن يقام عليه مجتمع جديد في أمريكا اللاتينية بصفة خاصة لكننا إذا قلنا أمريكا اللاتينية فقد قلنا بالتالي أقطار العالم الأخرى مما اصطلحوا على تسميته بالعالم النامي تأدبًا إذ أرادوا في حقيقة الأمر أن يطلقوا عليه اسم العالم المتخلف وهو متخلف بالفعل قياسًا على ذلك الجزء من العالم المتقدم أو المتقدم جدا إذا جعلنا معيار التقدم العلم التقني ودرجة التصنيع».
لا مراء في أن مقال د. زكي نجيب محمود تناول إشكالية مهمة لا يزال يعاني منها العالم العربي حتى يومنا هذا وهي إشكالية التخلف العلمي والتقني رغم كل الجهود المبذولة من أجل سد تلك الفجوة التكنولوجية التي تفصلنا عن العالم المتقدم شرقا وغربا.
ولو كان قد امتد بفيلسوفنا الكبير العمر لذهل من استمرار هذا التراجع المزمن الذي حل بالعقل العربي وما كان ليغير في مقاله حرفا واحدًا مما قاله بخصوص رصده الدقيق للاختلاف الرهيب بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة.
إذ لا تزال لعباراته التي تصف الوضع المأساوي للعالم العربي إيحاءاتها البليغة حينما يقول «إن الموقف المأساوي الحزين ليضاف إليه جانب من السخرية اللاذعة نسخر به من أنفسنا حينما نطلق على القسم الأول (من عالمنا) ـ وهو ثلثا سكان الأرض ـ البلاد النامية، وعلى القسم الثاني ـ وهو ثلث سكان العالم ـ البلاد التي نمت بالفعل. ومصدر السخرية اللاذعة عندي هو في الإيحاء بأن النامية في طريقها لأن تلحق بالتي حققت نموها».
ولعل أكثر عباراته راهنية تلك التي يصور بها الكارثة المطبقة على الدول النامية عندما يقول: «إن الكارثة المرتقبة قد أحاقت فعلًا بثلثي البشر، وهي جوع وعري وأمية وموت مبكر وإسكان لا يفي بالحد الأدنى لضرورات الحياة.
كما إن تصحيح هذا الوضع البائس لهؤلاء الملايين يستحيل أن يتحقق والعالم المتقدم في صمم وعمي لأن هذا العالم المتقدم جزء من الكارثة، لأنه كلما أطرد به السير السريع في التنمية والإنتاج ثم الإسراف المجنون في البذخ والتبذير وكانت النتيجة المحتومة أن يزداد الفقير فقرًا والمتخلف تخلفًا».
{ أستاذ فلسفة اللغة والأدب الفرنسي
بكلية الآداب – جامعة حلوان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك