العدد : ١٧١٣٨ - الأحد ٢٣ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٤ شعبان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٣٨ - الأحد ٢٣ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٤ شعبان ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

تـأمـلات فـي ذكـرى فيلسوف عظيم

بقلم: د. عصام عبدالفتاح

الخميس ١٣ فبراير ٢٠٢٥ - 02:00

عندما‭ ‬ختمت‭ ‬مقالا‭ ‬سابقا‭ ‬لي‭ ‬حول‭ ‬الأحداث‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬بعرض‭ ‬سيناريوهين‭ ‬محتملين‭ ‬لمآلاتها‭: ‬إما‭ ‬أن‭ ‬تنصهر‭ ‬القوى‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬وحدة‭ ‬قوية‭ ‬لبناء‭ ‬مجتمع‭ ‬جديد،‭ ‬وإما‭ ‬أن‭ ‬تتناحر‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬فتجرّ‭ ‬على‭ ‬البلاد‭ ‬مزيدًا‭ ‬من‭ ‬الكوارث‭ ‬ولم‭ ‬أجد‭ ‬توصيفا‭ ‬أدق‭ ‬لذلك‭ ‬من‭ ‬عنوان‭ ‬أطلقه‭ ‬فيلسوف‭ ‬الأدباء‭ ‬وأديب‭ ‬الفلاسفة‭ ‬د‭. ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬ـ‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬ـ‭ ‬على‭ ‬كتابه‭: ‬‮«‬مجتمع‭ ‬جديد‭ ‬أو‭ ‬الكارثة‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬عنوان‭ ‬لإحدى‭ ‬مقالاته‭ ‬المتضمنة‭ ‬فيه‭ ‬أيضا،‭ ‬أي‭ ‬إن‭ ‬سوريا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر‭ ‬أمام‭ ‬تحد‭ ‬لبناء‭ ‬مجتمع‭ ‬جديد‭ ‬أو‭ ‬مواجهة‭ ‬شبح‭ ‬كارثة‭.‬

وثمة‭ ‬سبب‭ ‬آخر‭ ‬لهذا‭ ‬الاختيار‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬وشائج‭ ‬فكرية‭ ‬تربطني‭ ‬بالوضعية‭ ‬المنطقية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬ممثلًا‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬مصر‭.. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الفلاسفة‭ ‬العرب‭ ‬العظام‭ ‬الذين‭ ‬أشعلوا‭ ‬في‭ ‬نفسي‭ ‬جذوة‭ ‬العشق‭ ‬بالفلسفة،‭ ‬فالتحقت‭ ‬بقسم‭ ‬الفلسفة‭ ‬والعلوم‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬كليتين‭ ‬للآداب‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وفرنسا‭ ‬معا‭ ‬واخترت‭ ‬تخصصا‭ ‬دقيقًا‭ ‬في‭ ‬الماجستير‭ ‬والدكتوراه‭ ‬يدخل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬فلسفة‭ ‬اللغة‭ ‬وتحليل‭ ‬الخطاب،‭ ‬وهو‭ ‬مجال‭ ‬وثيق‭ ‬الصلة‭ ‬بالفلسفة‭ ‬التحليلية‭.‬

إن‭ ‬تذكري‭ ‬عنوان‭ ‬ذلك‭ ‬الكتاب‭ ‬يتعلق‭ ‬بسياق‭ ‬سياسي‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬السياق‭ ‬العلمي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتناوله‭ ‬د‭. ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬اللغوية‭ ‬الدلالية‭ ‬يصف‭ ‬بدقة‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن‭ ‬في‭ ‬سوريا‭. ‬كما‭ ‬جذبني‭ ‬إليه‭ ‬وروده‭ ‬على‭ ‬قلم‭ ‬فيلسوف‭ ‬أحببته‭ ‬وشغفت‭ ‬طويلًا‭ ‬بفكره‭ ‬وتحليلاته‭ ‬المنطقية‭ ‬العميقة‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬انتقائي‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬اعتزاز‭ ‬عميق‭ ‬أُكِنُّه‭ ‬له‭ ‬ولكتاباته‭ ‬الفلسفية‭. ‬إنني‭ ‬كأستاذ‭ ‬جامعي‭ ‬أقدِّر‭ ‬تمامًا‭ ‬أن‭ ‬استعارة‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬لوصف‭ ‬حالة‭ ‬سياسية‭ ‬مختلفة‭ ‬تمامًا‭ ‬عما‭ ‬يتناوله‭ ‬الكتاب‭ ‬ـ‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬تعبر‭ ‬عنه‭ ‬من‭ ‬اعتزاز‭ ‬بالفيلسوف‭ ‬الكبير‭ ‬وأعماله‭ ‬ـ‭ ‬قد‭ ‬تثير‭ ‬شعورًا‭ ‬لدى‭ ‬ذويه‭ ‬الكرام‭ ‬بأنها‭ ‬تنطوي‭ ‬على‭ ‬مساس‭ ‬بحق‭ ‬المؤلف‭ ‬في‭ ‬الاستئثار‭ ‬بعناوين‭ ‬كتبه،‭ ‬وهذا‭ ‬عندي‭ ‬يعد‭ ‬سببا‭ ‬كافيا‭ ‬وواجبا‭ ‬لأن‭ ‬أتقدم‭ ‬إليهم‭ ‬بهذا‭ ‬الإيضاح‭ ‬تقديرا‭ ‬لمكانة‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الكبير‭ ‬الراحل‭ ‬وإبداعاته‭.‬

يضاف‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬ذكرته‭ ‬أن‭ ‬د‭. ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬نفسه‭ ‬قد‭ ‬علق‭ ‬على‭ ‬اختياره‭ ‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬لمقاله‭ ‬بقوله‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬العنوان‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬عندي‭ ‬ولكنه‭ ‬عنوان‭ ‬كتاب‭ ‬يشتمل‭ ‬على‭ ‬بحث‭ ‬علمي‭ ‬اضطلع‭ ‬فيه‭ ‬فريق‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬مستهدفين‭ ‬وضع‭ ‬الأساس‭ ‬النظري‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقام‭ ‬عليه‭ ‬مجتمع‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة‭ ‬لكننا‭ ‬إذا‭ ‬قلنا‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬فقد‭ ‬قلنا‭ ‬بالتالي‭ ‬أقطار‭ ‬العالم‭ ‬الأخرى‭ ‬مما‭ ‬اصطلحوا‭ ‬على‭ ‬تسميته‭ ‬بالعالم‭ ‬النامي‭ ‬تأدبًا‭ ‬إذ‭ ‬أرادوا‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬يطلقوا‭ ‬عليه‭ ‬اسم‭ ‬العالم‭ ‬المتخلف‭ ‬وهو‭ ‬متخلف‭ ‬بالفعل‭ ‬قياسًا‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬المتقدم‭ ‬أو‭ ‬المتقدم‭ ‬جدا‭ ‬إذا‭ ‬جعلنا‭ ‬معيار‭ ‬التقدم‭ ‬العلم‭ ‬التقني‭ ‬ودرجة‭ ‬التصنيع‮»‬‭.‬

لا‭ ‬مراء‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬مقال‭ ‬د‭. ‬زكي‭ ‬نجيب‭ ‬محمود‭ ‬تناول‭ ‬إشكالية‭ ‬مهمة‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬وهي‭ ‬إشكالية‭ ‬التخلف‭ ‬العلمي‭ ‬والتقني‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬الجهود‭ ‬المبذولة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬سد‭ ‬تلك‭ ‬الفجوة‭ ‬التكنولوجية‭ ‬التي‭ ‬تفصلنا‭ ‬عن‭ ‬العالم‭ ‬المتقدم‭ ‬شرقا‭ ‬وغربا‭. ‬

ولو‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬امتد‭ ‬بفيلسوفنا‭ ‬الكبير‭ ‬العمر‭ ‬لذهل‭ ‬من‭ ‬استمرار‭ ‬هذا‭ ‬التراجع‭ ‬المزمن‭ ‬الذي‭ ‬حل‭ ‬بالعقل‭ ‬العربي‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬ليغير‭ ‬في‭ ‬مقاله‭ ‬حرفا‭ ‬واحدًا‭ ‬مما‭ ‬قاله‭ ‬بخصوص‭ ‬رصده‭ ‬الدقيق‭ ‬للاختلاف‭ ‬الرهيب‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬المتقدمة‭ ‬والدول‭ ‬المتخلفة‭.‬

إذ‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬لعباراته‭ ‬التي‭ ‬تصف‭ ‬الوضع‭ ‬المأساوي‭ ‬للعالم‭ ‬العربي‭ ‬إيحاءاتها‭ ‬البليغة‭ ‬حينما‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬إن‭ ‬الموقف‭ ‬المأساوي‭ ‬الحزين‭ ‬ليضاف‭ ‬إليه‭ ‬جانب‭ ‬من‭ ‬السخرية‭ ‬اللاذعة‭ ‬نسخر‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أنفسنا‭ ‬حينما‭ ‬نطلق‭ ‬على‭ ‬القسم‭ ‬الأول‭ (‬من‭ ‬عالمنا‭) ‬ـ‭ ‬وهو‭ ‬ثلثا‭ ‬سكان‭ ‬الأرض‭ ‬ـ‭ ‬البلاد‭ ‬النامية،‭ ‬وعلى‭ ‬القسم‭ ‬الثاني‭ ‬ـ‭ ‬وهو‭ ‬ثلث‭ ‬سكان‭ ‬العالم‭ ‬ـ‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬نمت‭ ‬بالفعل‭. ‬ومصدر‭ ‬السخرية‭ ‬اللاذعة‭ ‬عندي‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬الإيحاء‭ ‬بأن‭ ‬النامية‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬لأن‭ ‬تلحق‭ ‬بالتي‭ ‬حققت‭ ‬نموها‮»‬‭.‬

ولعل‭ ‬أكثر‭ ‬عباراته‭ ‬راهنية‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬يصور‭ ‬بها‭ ‬الكارثة‭ ‬المطبقة‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬النامية‭ ‬عندما‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬الكارثة‭ ‬المرتقبة‭ ‬قد‭ ‬أحاقت‭ ‬فعلًا‭ ‬بثلثي‭ ‬البشر،‭ ‬وهي‭ ‬جوع‭ ‬وعري‭ ‬وأمية‭ ‬وموت‭ ‬مبكر‭ ‬وإسكان‭ ‬لا‭ ‬يفي‭ ‬بالحد‭ ‬الأدنى‭ ‬لضرورات‭ ‬الحياة‭. ‬

‭ ‬كما‭ ‬إن‭ ‬تصحيح‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭ ‬البائس‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الملايين‭ ‬يستحيل‭ ‬أن‭ ‬يتحقق‭ ‬والعالم‭ ‬المتقدم‭ ‬في‭ ‬صمم‭ ‬وعمي‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬المتقدم‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الكارثة،‭ ‬لأنه‭ ‬كلما‭ ‬أطرد‭ ‬به‭ ‬السير‭ ‬السريع‭ ‬في‭ ‬التنمية‭ ‬والإنتاج‭ ‬ثم‭ ‬الإسراف‭ ‬المجنون‭ ‬في‭ ‬البذخ‭ ‬والتبذير‭ ‬وكانت‭ ‬النتيجة‭ ‬المحتومة‭ ‬أن‭ ‬يزداد‭ ‬الفقير‭ ‬فقرًا‭ ‬والمتخلف‭ ‬تخلفًا‮»‬‭.‬

{‭ ‬أستاذ‭ ‬فلسفة‭ ‬اللغة‭ ‬والأدب‭ ‬الفرنسي‭ ‬

بكلية‭ ‬الآداب‭ ‬–‭ ‬جامعة‭ ‬حلوان‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا