إيليا أبو ماضي واحد من شعراء المهجر الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فوجدوا في الهجرة إلى الغرب موطنًا وملاذًا بديلًا، لكنهم أخذوا يتغنون بالحنين إلى أوطانهم ومن خلال هذا التعبير عن حبهم للوطن، وشوقهم إليه، فغلب على شعرهم مشاعر الحنين واللهفة إلى العودة إلى أوطانهم، ورغم ما تحقق لهم في أوطانهم البديلة إلا أنهم يشعرون بالغربة، وأن إقامتهم في أوطانهم (البديلة) ليست دائمة لهذا أخذوا على عاتقهم التأكيد بأنهم لابد لهم من يوم يعودون فيه إلى أوطانهم الأصلية وأهليهم، ومن هؤلاء الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي الذي أخذ ينظم القصائد يبثها حنينه إلى وطنه، والرجوع إليه.
في قصيدته الرائعة المعبرة «فلسفة الحياة» تحدث عن هذا الحنين الذي يرجو فيه أن يأتي يوم يعود فيه إلى وطنه الذي يسكن في قلبه، ولأن الوطن لا يفارقه، بل هو في قلبه يستلهم منه شعره، ويستنطق عن طريقه كل شيء حوله.. يبثه هذا الحنين، ويعيش معه هذه المأساة، ورغم ما توفر له من رغد العيش ما يغنيه عن التسول بشعره، فهو شاعر حر لا يستخدم شعره في مدح أصحاب النفوذ والسلطان، أي أنه لا يتكسب بشعره كما يفعل بعض الشعراء الذين يترددون على أبواب السلطة يمدحون هذا المسوؤل أو ذاك، بل هو يعيش مأساته، ويرضى بما قضاه الله تعالى عليه، فهو في حوار مع الحياة، يسألها فتجيبه، أو تعرض عنه، وهذا التساؤل الذي يشغل الشاعر، ويدفعه دفعًا إلى محاولة فهم الحياة والبحث عن أسرارها، وينعى على كثير من الناس الذين يخاصمون حياتهم التي يعيشونها، ويسعون وراء حياة بديلة وإذا تحقق لهم ذلك ندموا حيث لا ينفع الندم ويتحسرون في وقت لا تجديهم الحسرة.
وشاعرنا يسأل الذين يشكون، وتشغلهم الشكوى عن ملذات الحياة التي يعيشونها، والنعم التي ينعمون بها، وربما لا يشعرون بها لاعتيادهم عليها لأن طول المساس يفقد الإحساس بالشيء!.
يقول الشاعر: أيها الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟
من يشكو يومه بغير داء ماذا يصنع إذا حل به البلاء ؟، فهو الآن في هناءة من العيش ورغد، وإن لم تكن الحياة التي يعيشها هي الحياة التي يرجوها، وليعلم أنه لو اطلع على الغيب، وكشف له عن مآل حياته لكان أقصى أمنياته أن يعيش صاحب النعمة عليها، وليعلم في يقين أنه لو اطلع على الغيب لاختار الواقع الذي يعيشه، وليعلم أيضًا أن ما يختاره الله تعالى له خير مما يختاره لنفسه، وصدق الله تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة / 216.
إن شر الجناة الذين يجنون على أنفسهم، هم الذين يتوقون الرحيل قبل موعد الرحيل، وهم دائمًا لا ينظرون إلى نصف الكأس الملآن، بل يشغلون أنفسهم بنصف الكأس الفارغ، ويعرضون عن النصف الملآن وهذا جحود منهم، ولو أنهم تفاءلوا بالنصف المملوء من الكأس، وحاولوا ملء الفراغ بجهدهم وسعيهم لكان خيرًا لهم، وهذه حقيقة يجب عليهم ألا يتجاوزوها.
إن الإنسان اليائس دائمًا لا ينظر إلى ما بيده من نعم، بل هو مشغول بما لدى الغير، ولو تأمل حياته لوجد فيها الكثير من النعم التي لا تعد ولا تحصى ولشكر ربه سبحانه عليها، ورضي بما قسمه الله تعالى له.
يقول الشاعر أبو ماضي:
وترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقها الندى إكليلا
إن نظرك إلى ما في الحقل من أشواك يجب ألا ينسيك أن ترى فوقها الندى إكليلا، إنها نظرة يائسة، وقصور عن الفهم والإدراك، فالحياة مليئة بالنعم الكثيرة التي حبانا الله تعالى بها، ثم تأملوا نظرة الشاعر الفلسفية، وهو يطرح هذا التساؤل الفلسفي:
والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئًا جميلا
هذه الحقيقة الفلسفية الكبرى هي السبب فيما يعاني منه الإنسان.. إن الجمال ينبع من داخل الإنسان ولا يأتي من خارجه، فمن ملأ قلبه بالقبح يستحيل أن يرى في الوجود شيئًا جميلا، لهذا فعليك أيها الإنسان الشاكي المشغول بالنعم عند غيرك أن تملأ قلبك بالجمال.. جمال الأقوال، والأفعال، والأحوال، فإذا امتلأ قلبك بالجمال والحسن والبهاء فاض قلبك على النفس بمحاسن الصفات.
أيها الإنسان، عليك أن ترى الجمال في كل شيء حولك، وعليك أن تستجيب للشاعر الذي يدعوك ويلح في الدعوة إلى أن تتلمس الطريق إلى الجمال والإحساس به، يقول الشاعر:
أيها الشاكي وما بك داء كن جميلًا ترَ الوجود جميلا
نعم عليك أيها الشاكي وما بك داء.. عليك أن تنعم بما لديك من نعم، ثم تسعد بما لديك من نعم حرم منها غيرك وألا تشقى نفسك بنعم كتبها الله تعالى لغيرك، وساعتها سوف ترى الوجود كله جميلًا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك