العدد : ١٧١٢٥ - الاثنين ١٠ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ شعبان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٢٥ - الاثنين ١٠ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ شعبان ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

كن جميلا.. ترَ الوجود جميلا!

بقلم: عبدالرحمن علي البنفلاح

الأحد ٠٩ فبراير ٢٠٢٥ - 02:00

إيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬المهجر‭ ‬الذين‭ ‬ضاقت‭ ‬عليهم‭ ‬الأرض‭ ‬بما‭ ‬رحبت،‭ ‬فوجدوا‭ ‬في‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬الغرب‭ ‬موطنًا‭ ‬وملاذًا‭ ‬بديلًا،‭ ‬لكنهم‭ ‬أخذوا‭ ‬يتغنون‭ ‬بالحنين‭ ‬إلى‭ ‬أوطانهم‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬حبهم‭ ‬للوطن،‭ ‬وشوقهم‭ ‬إليه،‭ ‬فغلب‭ ‬على‭ ‬شعرهم‭ ‬مشاعر‭ ‬الحنين‭ ‬واللهفة‭ ‬إلى‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬أوطانهم،‭ ‬ورغم‭ ‬ما‭ ‬تحقق‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬أوطانهم‭ ‬البديلة‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬يشعرون‭ ‬بالغربة،‭ ‬وأن‭ ‬إقامتهم‭ ‬في‭ ‬أوطانهم‭ (‬البديلة‭) ‬ليست‭ ‬دائمة‭ ‬لهذا‭ ‬أخذوا‭ ‬على‭ ‬عاتقهم‭ ‬التأكيد‭ ‬بأنهم‭ ‬لابد‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬يوم‭ ‬يعودون‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬أوطانهم‭ ‬الأصلية‭ ‬وأهليهم،‭ ‬ومن‭ ‬هؤلاء‭ ‬الشاعر‭ ‬اللبناني‭ ‬إيليا‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭ ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬ينظم‭ ‬القصائد‭ ‬يبثها‭ ‬حنينه‭ ‬إلى‭ ‬وطنه،‭ ‬والرجوع‭ ‬إليه‭.‬

في‭ ‬قصيدته‭ ‬الرائعة‭ ‬المعبرة‭ ‬‮«‬فلسفة‭ ‬الحياة‮»‬‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الحنين‭ ‬الذي‭ ‬يرجو‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬يوم‭ ‬يعود‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬وطنه‭ ‬الذي‭ ‬يسكن‭ ‬في‭ ‬قلبه،‭ ‬ولأن‭ ‬الوطن‭ ‬لا‭ ‬يفارقه،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬يستلهم‭ ‬منه‭ ‬شعره،‭ ‬ويستنطق‭ ‬عن‭ ‬طريقه‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬حوله‭.. ‬يبثه‭ ‬هذا‭ ‬الحنين،‭ ‬ويعيش‭ ‬معه‭ ‬هذه‭ ‬المأساة،‭ ‬ورغم‭ ‬ما‭ ‬توفر‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬رغد‭ ‬العيش‭ ‬ما‭ ‬يغنيه‭ ‬عن‭ ‬التسول‭ ‬بشعره،‭ ‬فهو‭ ‬شاعر‭ ‬حر‭ ‬لا‭ ‬يستخدم‭ ‬شعره‭ ‬في‭ ‬مدح‭ ‬أصحاب‭ ‬النفوذ‭ ‬والسلطان،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يتكسب‭ ‬بشعره‭ ‬كما‭ ‬يفعل‭ ‬بعض‭ ‬الشعراء‭ ‬الذين‭ ‬يترددون‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬السلطة‭ ‬يمدحون‭ ‬هذا‭ ‬المسوؤل‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬يعيش‭ ‬مأساته،‭ ‬ويرضى‭ ‬بما‭ ‬قضاه‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عليه،‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬مع‭ ‬الحياة،‭ ‬يسألها‭ ‬فتجيبه،‭ ‬أو‭ ‬تعرض‭ ‬عنه،‭ ‬وهذا‭ ‬التساؤل‭ ‬الذي‭ ‬يشغل‭ ‬الشاعر،‭ ‬ويدفعه‭ ‬دفعًا‭ ‬إلى‭ ‬محاولة‭ ‬فهم‭ ‬الحياة‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬أسرارها،‭ ‬وينعى‭ ‬على‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬يخاصمون‭ ‬حياتهم‭ ‬التي‭ ‬يعيشونها،‭ ‬ويسعون‭ ‬وراء‭ ‬حياة‭ ‬بديلة‭ ‬وإذا‭ ‬تحقق‭ ‬لهم‭ ‬ذلك‭ ‬ندموا‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬ينفع‭ ‬الندم‭ ‬ويتحسرون‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬لا‭ ‬تجديهم‭ ‬الحسرة‭.‬

وشاعرنا‭ ‬يسأل‭ ‬الذين‭ ‬يشكون،‭ ‬وتشغلهم‭ ‬الشكوى‭ ‬عن‭ ‬ملذات‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬يعيشونها،‭ ‬والنعم‭ ‬التي‭ ‬ينعمون‭ ‬بها،‭ ‬وربما‭ ‬لا‭ ‬يشعرون‭ ‬بها‭ ‬لاعتيادهم‭ ‬عليها‭ ‬لأن‭ ‬طول‭ ‬المساس‭ ‬يفقد‭ ‬الإحساس‭ ‬بالشيء‭!.‬

يقول‭ ‬الشاعر‭: ‬أيها‭ ‬الشاكي‭ ‬وما‭ ‬بك‭ ‬داء‭ ‬كيف‭ ‬تغدو‭ ‬إذا‭ ‬غدوت‭ ‬عليلا؟

من‭ ‬يشكو‭ ‬يومه‭ ‬بغير‭ ‬داء‭ ‬ماذا‭ ‬يصنع‭ ‬إذا‭ ‬حل‭ ‬به‭ ‬البلاء‭ ‬؟،‭ ‬فهو‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬هناءة‭ ‬من‭ ‬العيش‭ ‬ورغد،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬يعيشها‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬يرجوها،‭ ‬وليعلم‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬اطلع‭ ‬على‭ ‬الغيب،‭ ‬وكشف‭ ‬له‭ ‬عن‭ ‬مآل‭ ‬حياته‭ ‬لكان‭ ‬أقصى‭ ‬أمنياته‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬صاحب‭ ‬النعمة‭ ‬عليها،‭ ‬وليعلم‭ ‬في‭ ‬يقين‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬اطلع‭ ‬على‭ ‬الغيب‭ ‬لاختار‭ ‬الواقع‭ ‬الذي‭ ‬يعيشه،‭ ‬وليعلم‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يختاره‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬له‭ ‬خير‭ ‬مما‭ ‬يختاره‭ ‬لنفسه،‭ ‬وصدق‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭: (‬كتب‭ ‬عليكم‭ ‬القتال‭ ‬وهو‭ ‬كره‭ ‬لكم‭ ‬وعسى‭ ‬أن‭ ‬تكرهوا‭ ‬شيئًا‭ ‬وهو‭ ‬خير‭ ‬لكم‭ ‬وعسى‭ ‬أن‭ ‬تحبوا‭ ‬شيئًا‭ ‬وهو‭ ‬شر‭ ‬لكم‭ ‬والله‭ ‬يعلم‭ ‬وأنتم‭ ‬لا‭ ‬تعلمون‭) ‬البقرة‭ / ‬216‭.‬

إن‭ ‬شر‭ ‬الجناة‭ ‬الذين‭ ‬يجنون‭ ‬على‭ ‬أنفسهم،‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يتوقون‭ ‬الرحيل‭ ‬قبل‭ ‬موعد‭ ‬الرحيل،‭ ‬وهم‭ ‬دائمًا‭ ‬لا‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬نصف‭ ‬الكأس‭ ‬الملآن،‭ ‬بل‭ ‬يشغلون‭ ‬أنفسهم‭ ‬بنصف‭ ‬الكأس‭ ‬الفارغ،‭ ‬ويعرضون‭ ‬عن‭ ‬النصف‭ ‬الملآن‭ ‬وهذا‭ ‬جحود‭ ‬منهم،‭ ‬ولو‭ ‬أنهم‭ ‬تفاءلوا‭ ‬بالنصف‭ ‬المملوء‭ ‬من‭ ‬الكأس،‭ ‬وحاولوا‭ ‬ملء‭ ‬الفراغ‭ ‬بجهدهم‭ ‬وسعيهم‭ ‬لكان‭ ‬خيرًا‭ ‬لهم،‭ ‬وهذه‭ ‬حقيقة‭ ‬يجب‭ ‬عليهم‭ ‬ألا‭ ‬يتجاوزوها‭.‬

إن‭ ‬الإنسان‭ ‬اليائس‭ ‬دائمًا‭ ‬لا‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بيده‭ ‬من‭ ‬نعم،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬مشغول‭ ‬بما‭ ‬لدى‭ ‬الغير،‭ ‬ولو‭ ‬تأمل‭ ‬حياته‭ ‬لوجد‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬النعم‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعد‭ ‬ولا‭ ‬تحصى‭ ‬ولشكر‭ ‬ربه‭ ‬سبحانه‭ ‬عليها،‭ ‬ورضي‭ ‬بما‭ ‬قسمه‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬له‭.‬

يقول‭ ‬الشاعر‭ ‬أبو‭ ‬ماضي‭:‬

وترى‭ ‬الشوك‭ ‬في‭ ‬الورود‭ ‬وتعمى‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬فوقها‭ ‬الندى‭ ‬إكليلا

إن‭ ‬نظرك‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الحقل‭ ‬من‭ ‬أشواك‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬ينسيك‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬فوقها‭ ‬الندى‭ ‬إكليلا،‭ ‬إنها‭ ‬نظرة‭ ‬يائسة،‭ ‬وقصور‭ ‬عن‭ ‬الفهم‭ ‬والإدراك،‭ ‬فالحياة‭ ‬مليئة‭ ‬بالنعم‭ ‬الكثيرة‭ ‬التي‭ ‬حبانا‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬بها،‭ ‬ثم‭ ‬تأملوا‭ ‬نظرة‭ ‬الشاعر‭ ‬الفلسفية،‭ ‬وهو‭ ‬يطرح‭ ‬هذا‭ ‬التساؤل‭ ‬الفلسفي‭:‬

والذي‭ ‬نفسه‭ ‬بغير‭ ‬جمال‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬شيئًا‭ ‬جميلا

هذه‭ ‬الحقيقة‭ ‬الفلسفية‭ ‬الكبرى‭ ‬هي‭ ‬السبب‭ ‬فيما‭ ‬يعاني‭ ‬منه‭ ‬الإنسان‭.. ‬إن‭ ‬الجمال‭ ‬ينبع‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬الإنسان‭ ‬ولا‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬خارجه،‭ ‬فمن‭ ‬ملأ‭ ‬قلبه‭ ‬بالقبح‭ ‬يستحيل‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬في‭ ‬الوجود‭ ‬شيئًا‭ ‬جميلا،‭ ‬لهذا‭ ‬فعليك‭ ‬أيها‭ ‬الإنسان‭ ‬الشاكي‭ ‬المشغول‭ ‬بالنعم‭ ‬عند‭ ‬غيرك‭ ‬أن‭ ‬تملأ‭ ‬قلبك‭ ‬بالجمال‭.. ‬جمال‭ ‬الأقوال،‭ ‬والأفعال،‭ ‬والأحوال،‭ ‬فإذا‭ ‬امتلأ‭ ‬قلبك‭ ‬بالجمال‭ ‬والحسن‭ ‬والبهاء‭ ‬فاض‭ ‬قلبك‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬بمحاسن‭ ‬الصفات‭.‬

أيها‭ ‬الإنسان،‭ ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬حولك،‭ ‬وعليك‭ ‬أن‭ ‬تستجيب‭ ‬للشاعر‭ ‬الذي‭ ‬يدعوك‭ ‬ويلح‭ ‬في‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تتلمس‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬الجمال‭ ‬والإحساس‭ ‬به،‭ ‬يقول‭ ‬الشاعر‭:‬

أيها‭ ‬الشاكي‭ ‬وما‭ ‬بك‭ ‬داء‭ ‬كن‭ ‬جميلًا‭ ‬ترَ‭ ‬الوجود‭ ‬جميلا

نعم‭ ‬عليك‭ ‬أيها‭ ‬الشاكي‭ ‬وما‭ ‬بك‭ ‬داء‭.. ‬عليك‭ ‬أن‭ ‬تنعم‭ ‬بما‭ ‬لديك‭ ‬من‭ ‬نعم،‭ ‬ثم‭ ‬تسعد‭ ‬بما‭ ‬لديك‭ ‬من‭ ‬نعم‭ ‬حرم‭ ‬منها‭ ‬غيرك‭ ‬وألا‭ ‬تشقى‭ ‬نفسك‭ ‬بنعم‭ ‬كتبها‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬لغيرك،‭ ‬وساعتها‭ ‬سوف‭ ‬ترى‭ ‬الوجود‭ ‬كله‭ ‬جميلًا‭. ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا