لم أفهم موقف الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه الذي ذكر في كتب السير، إذ تشير تلك الكتب إلى أنه عندما غادر رضي الله عنه مكة المكرمة لم يحمل معه إلا جزءًا يسيرًا من متاع، فبلغ المدينة المنورة وهو لا يملك إلا ما حمل. وكان هذا شأن معظم الصحابة رضوان الله عليهم الذين هاجروا من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
واستطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل هذه المعضلة وكل المعضلات بمنهجية المسؤول القائد وذلك أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، وكان من نصيب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين الصحابي سعد بن الربيع الأنصاري رضي الله عنه، وهذا هو الموقف الذي نريد أن نقف عنده ونلقي ببعض الأضواء عليه، وهو اللقاء الذي حصل بين الصحابيين الجليلين رضي الله عنهما.
قال سعد بن الربيع رضي الله عنه لعبد الرحمن رضي الله عنه بعد المؤاخاة: «يا عبد الرحمن عندي زوجتان، فانظر إحداهما أعجب إليك فأطلقها، وإذا اعتدت تزوجتها، وعندي مال، فأنا أعطيك شطر ما معي». على الرغم من غرابة الموقف إلا أنه لن نتحدث عن هذا الموقف وإنما سنتحدث عن موقف الصحابي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
فالصحابي سعد يعرض على الصحابي عبد الرحمن الركون إلى الراحة، زوجة ومالا، وهو الفقير الذي جاء من مكة المكرمة من غير أي متاع إلا ما استطاع أن يحمل، ربما لو عرضت هذه الصفقة على أي إنسان آخر لقبل ذلك برحابة صدر، فمن يرفض الراحة؟ إلا أن الصحابي عبد الرحمن رضي الله عنه كان له رأي آخر، فكان رده عجيبا، قال: «بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في هذا، دلوني على السوق». فلنتصور شخصا عرض عليه المال والزوجة إلا أنه يرفض ذلك ويريد أن يذهب إلى السوق حتى يتاجر، ويدخل في المضاربات والمخاطر والمشاكل، من أجل ماذا؟ في النهاية سيصل إلى نفس النتيجة، بمعنى آخر إن الصحابي عبد الرحمن رضي الله عنه لا يريد الراحة وإنما يريد العمل، لماذا؟
لنعيد قراءة قصة الصحابي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بطريقة أخرى، فقد وجدنا أن العديد من الدراسات النفسية تحاول أن تقسم البشر إلى عدة مراحل متعلقة بموضوع الراحة والعمل والسعي نحو تحقيق الهدف، ولكن وجدنا أنه يمكن اختزال كل تلك المراحل في المراحل الخمس التالية، وهي التي تعرف في بعض المراجع بنموذج التعلم والنمو البشري:
أولاً: منطقة الراحة (comfort zone)؛ تقول الدراسات إنها حالة سلوكية يمارسها الشخص بلا توتر أو خطر بسبب اعتياده على ممارستها ضمن إطار روتيني محدد بعيدًا عن التغييرات التي قد تجلب الخطر النفسي لصاحبها. فهي الحالة التي تعطي المرء شعورًا بالراحة النفسية والأمان من جهة، ولكنها تبعده عن الطموح والسعي وراء أحلامه والتقدم والإبداع من جهة أخرى، ينتج عن هذا التكيّف الذهني شعور بالأمان والراحة. ويعتقد العلماء أن البقاء في منطقة الراحة يمكن أن يكون ناتجًا عن عوامل عدة مثل الخوف من التغيير، العادات المكتسبة، والتكرار اليومي للنشاطات المألوفة، إذ تشير تلك الأبحاث أن الخروج من هذه المنطقة يتطلب شجاعة وتفكيرا إيجابيا، مما يمكن أن يفتح فرصًا جديدة ويزيد من قدرة الشخص على التكيف مع التحديات والتغيير.
ثانيًا: منطقة الخوف (Fear Zone)؛ الخوف هو شعور، أو ردة فعل عاطفي، يصيب الإنسان عند تعرُّضه لموقف يشعره بالخطر، وهو جزء من استجابة البقاء عند الإنسان، ومن الطبيعي أن يكون الإحساس بالخوف غير مريح إلى أقصى حد، فحينما نبدأ مشروعًا جديدًا، أو نخوض مغامرة جديدة، أو نخرج عن المألوف، نشعر عادة بالخوف. وللأسف، يسمح معظم الناس للخوف أن يمنعهم من اتخاذ الخطوات الضرورية لتحقيق أحلامهم، بينما قليلون منهم من لا يسمحون له بأن يمنعهم من القيام بما يرغبون به، أو ما ينبغي عليهم فعله.
فمنطقة الخوف هي المرحلة الثانية بعد مغادرة منطقة الراحة في هذا النموذج الذي نتحدث فيه نموذج (التعلم والنمو الشخصي)، فمن الطبيعي أنه عندما يخرج الشخص من منطقة الراحة، يدخل إلى منطقة الخوف، حينها يشعر بالتوتر والقلق بسبب مواجهة التحديات والمخاطر غير المألوفة. ولكن من الناحية العلمية، تُعد منطقة الخوف مهمة لأنها تمثل العقبات النفسية والذهنية التي يجب تجاوزها لتحقيق التقدم الشخصي. فيشعر الفرد بالخوف بسبب الخروج من نطاق المألوف ومواجهة تحديات جديدة. وهذا الخوف يمكن أن يكون ناتجًا عن العوامل التالية:
1- عدم اليقين: يواجه الفرد مواقف جديدة وغير مألوفة.
2- الخوف من الفشل: القلق من عدم النجاح في التجارب الجديدة.
3- القلق الاجتماعي: الشعور بالضغط الاجتماعي والنقد من الآخرين.
لذلك نجد أنه لتجاوز منطقة الخوف، يجب اتباع استراتيجيات مثل بناء الثقة بالنفس، تطوير مهارات جديدة، والحصول على دعم من الآخرين، والتحلي بالصبر والاستمرار في مواجهة المخاوف، عندها يمكن الانتقال إلى المناطق التالية.
ثالثًا: منطقة التعلم (Learning Zone)؛ وهي المرحلة التي ينتقل إليها الشخص بعد مواجهة مخاوفه وخروجهم من منطقة الراحة. علميًا، هذه المنطقة تُعد من أهم المراحل في تطور الشخص وتنميته الذاتية، وهي ذات جوانب متعددة، منها:
1. تنمية المهارات: في هذه المرحلة، يبدأ الشخص بتعلم مهارات جديدة واكتساب معارف إضافية، لذلك يتطلب هذا الجانب ممارسة متكررة واستمرارية في التعلم لتطوير القدرات بشكل فعال.
2. النمو العصبي: ويتمثل هذا في قدرة الدماغ على تكوين روابط عصبية جديدة استجابة للتعلم والتجارب الجديدة، وتشير الدراسات إلى أن ممارسة التعلم المستمر يعزز من اللدونة العصبية مما يحسن من قدرات الشخص العقلية والمعرفية.
3. التحفيز الداخلي: تجد الدراسات أن الشخص في منطقة التعلم يكون مدفوعًا بشدة بالتحفيز الداخلي والرغبة في تحقيق أهدافه، هذا التحفيز يساعد في التغلب على التحديات والمصاعب التي قد يواجهها الشخص أثناء عملية التعلم.
4. المرونة النفسية: إن الخروج من منطقة الخوف والدخول في منطقة التعلم يساعد في بناء المرونة النفسية، وذلك بأن يتعلم الشخص كيفية التعامل مع الضغوط والمواقف الصعبة بشكل أفضل، مما يعزز من قدرته على التكيف مع التغيرات.
5. زيادة الثقة بالنفس: ومع اكتساب مهارات ومعارف جديدة، يشعر الشخص بثقة أكبر في قدراته، هذه الثقة تساعد في دفع الشخص لمواصلة التعلم ومواجهة تحديات أكبر في المستقبل.
إن منطقة التعلم تُعد من المراحل المهمة في رحلة النمو الشخصي، حيث تمكن الشخص من تحقيق تطور مستدام وتنمية شاملة. بالتالي، التفاعل مع هذه المنطقة بفاعلية يمكن أن يؤدي إلى تحسين شامل في حياة الفرد المهنية والشخصية.
رابعًا: منطقة النمو (Growth Zone)؛ من المفترض أن يكون الإنسان قد بلغ هذه المرحلة بعد اكتساب المهارات والمعارف الجديدة من خلال التعلم والتطوير. هذه المنطقة تعتبر المرحلة قبل النهائية في نموذج التعلم والنمو الشخصي، وهي تعبر عن تحقيق الشخص لأهدافه الكبيرة وتطلعاته. وتنقسم إلى عدة جوانب منها:
1. الرضا الشخصي: إن الوصول إلى منطقة النمو يسهم في تعزيز شعور الفرد بالرضا الشخصي والسعادة، وهذا الرضا ينتج عن تحقيق الأهداف والطموحات والنجاح في تجاوز التحديات.
2. التطور المستدام: إن الشخص في منطقة النمو يكون قادرًا على الحفاظ على تطوره الشخصي بشكل مستدام، ويتعلم كيفية التعامل مع التحديات المستقبلية بثقة وكفاءة.
3. الإبداع والابتكار: في منطقة النمو تشجع على الإبداع والابتكار، حينئذ يصبح الشخص أكثر قدرة على التفكير خارج الصندوق وتطوير حلول جديدة ومبتكرة للمشكلات.
4. التأثير الإيجابي: وفي هذه المرحلة، يمكن للشخص أن يكون له تأثير إيجابي في مجتمعه ومحيطه، ويمكن للشخص أن ينقل خبراته ومعارفه إلى الآخرين ويسهم في تطوير المجتمع بشكل عام.
وبصفة عامة، فإن منطقة النمو تمثل مرحلة النضج والتطور الشخصي المستدام، حيث يحقق الشخص أهدافه الكبيرة ويستفيد من مهاراته ومعارفه لتحقيق تأثير إيجابي. ولكن لنتذكر أن الرحلة نحو النمو تتطلب الصبر والمثابرة، وأن التحديات هي جزء طبيعي من هذه العملية.
خامسًا: منطقة تحقيق الأهداف (Achievement Zone)؛ بعض العلماء يدمج هذه المرحلة مع مرحلة النمو وبعضهم يفصل المرحلتين، وسواء وضعته هذه المرحلة مع مرحلة النمو أو لا، فإن هذا الموضوع لا يهمنا، وإنما تحقيق الأهداف هو خط النهاية في نموذج (التعلم والنمو الشخصي). إذ إنها المرحلة التي تتوج جهود الشخص وتفانيه في التعلم والنمو. تُعد هذه المرحلة نتيجة طبيعية وحتمية للعمل المستمر والالتزام بتحقيق الأهداف المحددة.
ولنعد إلى قصة الصحابي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فهل كان هذا الصحابي الجليل متفهما لنموذج (التعلم والنمو الشخصي) إذ إنه ترك منطقة الراحة تلك وذهب إلى السوق ليبحث ويتاجر ويشتري، وعندما عاد بعد فترة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عليه أثر الزواج والنعمة؟
وباختصار فإن نموذج (التعلم والنمو الشخصي) يوضح كيف يمكن للشخص تحسين ذاته وتطوير مهاراته من خلال مواجهة الخوف والتعلم المستمر، وهذا ما فعله رضي الله عنه. فما موقعك عزيزي القارئ من هذا النموذج؟
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك