بذائقةٍ إبداعيَّة استثنائيَّة، ومهارةٍ تُتقن استخدام أدواتها النقديَّة، استطاع الناقد الدكتور عبَّاس حسن القصَّاب الإبحارُ بقلمهِ في عوالم 16 عشر نصًا مسرحيًا من تأليف الكاتب المسرحي الإماراتي اسماعيل عبدالله، بعد أن أثار اهتمامهُ تكرار اسم هذا الكاتِب الذي حقق رقمًا قياسيًا بحصوله على جوائز أربع نصوصٍ مسرحيَّةٍ من عشر دورات للمهرجان المسرحي للفرق المسرحيَّة الأهليَّة في دول مجلس التعاون، وفاز كثيرٌ من نصوصه بجوائز نُخبةٍ من المهرجانات المسرحيَّة المحليَّة والخليجيَّة والعربيَّة، فوجدها – على حد تعبيره في كتابه (نبضات الإنسان في مسرحيَّات إسماعيل عبدالله) - تأخذه «إلى عوالم الإنسان وقضايا المُجتمع، تُلامس جُرحه، وتُغازل آماله، وتُشاكس أحلامه، وتناوئ أفكاره».
حرصَ الناقد في دراسته على الابتعاد عن تحليل أسلوب البناء الدرامي واللغة الشاعريَّة في أعمال المؤلّف باعتبارها تحتاج إلى دراسةً مُستقلَّة، واقتصرَ على جانب الحدث الدرامي وما يخصُّ الإنسان والمُجتمع، مُشيرًا إلى جانبٍ من أسباب هذا الخيار في صـ8 بقوله: «لقد سمعتُ نبض الإنسان والمُجتمع عاليًا في نصوص إسماعيل عبدالله المسرحيَّة، وصُراخات البشريَّة المُثقلة بالحُزن والشجن، وأنصتُّ إلى همهمات المولولين والتائقين إلى حياةٍ مُثلى تغمرها السعادة والمحبَّة، وأوجاع المُجتمعات الإنسانيَّة التي تئنُّ تحت نير القلق والخوف والترقُّب، فوضعتُ خُطَّةً بحثيَّة قسّمتُها إلى فصولٍ تبدأ من نبض المرأة، ونبض الطبقيَّة الهوجاء، ثم نبض الشأن العام إلى نبض الفُكاهة والرومانسيَّة، وبعدها نبض التحدّي والتطهُّر، فنبض الإرهاب والتطرُّف، ثم نبض الموروث الشعبي، وأخيرًا نبض الرمزيَّة».
الدراسة التي تضمنت نصوصًا عناوينها: (التريللا، زهرة مهرة، الذي نسي أن يموت، البكشة، البوشيَّة، اللوال، ميادير، بين يومين، صهيل الطين، سيمفونية الموت والحياة، مجاريح، غصيت بك يا ماي، حرب النعل، موال حدادي، صرخة السلوقي)، رأى الدكتور عباس القصاب أن المؤلف برع في صياغتها كونها مُلتصقة بالإنسان ومُجتمعه في المنظومة الحياتيَّة التي يتشكَّل منها الحدث، ما أدّى إلى إنتاج نصٍ مُتماس بالواقع، مُنغمس فيه، ومُنصهر في بوتقتهِ التي يعيشها الإنسان، وخصوصًا الشرقي العربي المُثقل بقضاياه التي لا عد لها ولا حصر، لأن المؤلف «يُعايش الواقع، ويرى مُجتمعه وناسه في مُختلف جوانب حياتهم بخيرها وشرها، بألمها وأملها، بصغارها وكبارها، بنسائها ورجالها، ومُختلف طبقاتها، وما يتفشَّى فيها من مظاهر حياتيَّة مُختلفة مرغوبة أو ممقوتة.. صـ 14».
في الفصل الثاني الذي يُمثّل «نبض المرأة بين التحرُّك والسكون»؛ يرى الباحِث أن جُل نصوص الكاتب المسرحيَّة «يتجسَّد فيها صوت المرأة القوي الذي يتولَّى الأمور بحصافةٍ ودراية، مهما كانت قوَّة الظروف المُحيطة التي تعيشها، فهي المرأة القويَّة التي تقود المشهد بتحدٍ وشموخ، مُنافحة عن فكرها وعرضها وشرفها وكيانها.. صـ 21»، كما يُشيرُ في نصوصٍ أُخرى إلى قضيَّة تُعتبر غاية في الأهميَّة، لافتًا إلى أن «العلاقة الجندريَّة بين الذكر والأنثى تبقى متوترة عبر التاريخ، وكلاهما يسعى للسيطرة على الآخر، والتأثير فيه، ويفرض شخصيَّته في مساحات المُجتمع المُختلفة.. صـ 26»، أمَّا في الفصل الثالث حيثُ «نبض الخطاب الطبقي» فقد تناول الباحِث هذا الخِطاب من حيث: العُنصُريَّة السوداء، التنمُّر الطبقي، لُعبة الموازين، الاستغلال الطبقي، مُقاومة الطبقيَّة، ونير الاستسلام.. ولم يُغفل الإشارة إلى العنصريَّة حتى في طبقة المُثقفين بقوله: «وهناكَ أيضًا طبقة المُثقفين التي تستعلي على الطبقات الأخرى؛ لما تمتلك من ثقافة عالية ومكنوزٍ أدبي واسِع ومعلوماتٍ مُختلفة، إذ يرونَ الآخرينَ أمامهم صغارًا، ويسخرونَ من المُختلف معهم، بل ويستخدم هؤلاء المُصطلحات في غير مكانها اغترارًا وعجبًا بأنفسهم، وتعاليًا على الآخرين ولغتهم الأم في كثيرٍ من المواضِع، والأغرب في اتهامهم الآخرين بالغباء والرجعيَّة والتخلُّف، وهذا ما جسّده (مشعل) في مسرحيَّة (البكشة).. صـ 78».
الفصل الرابع الذي جاء بعنوان: «نبض الشأن العام.. صرخة الاستنجاد»؛ تناول حرص مؤلف المسرحيات على أخذ كثير من قضايا الشأن العام في نصوصه بعين الاعتبار، بل جعل بعضها الحدث الدرامي الرئيس، منها المُشكلة الإسكانيَّة، البطالة، العلاقة بين المواطن وحكومته، والشائعات. أمَّا في الفصل الخامس حيث «نبض الفُكاهة والرومانسيَّة»؛ يرى الباحث أن اسماعيل عبدالله لم يترك نصًا إلا وأدخل فيه البسمة والفكاهة من خلال ايحاءات أسماء الشخوص، أو الحدث نفسه، «حتى أنه يصف الحدث الكوميدي بدقة مُتناهية كعادته، أو من خلال شخوص النص أنفسهم وسماتهم الجسديَّة أو النفسيَّة أو الوجدانيَّة.. صـ 143»، وفي الفصل السادس يأتي «نبض التحدي والتطهُّر» مُفصحًا عن إدراك تلك المواقف الإنسانيَّة التي تتطلَّب مواجهات على مُختلف المُستويات، ما أدَّى إلى تجلّيات وصور من الصمود والتحدي الذي ترسمه تلك الشخصيَّات في سرديَّاته الدراميَّة.
«نبض الإرهاب والتطرُّف والتديُّن المنقوص» كان من نصيب الفصل السابع الذي سلّط الضوء على وجود صور مُختلفة من الإرهاب، كالإرهاب الدموي المُسلّح، والإرهاب الفكري، والإرهاب الاقتصادي، والإرهاب الديني ومظاهر التلبُّس بالدين الشكلي المُخادع الذي ارتدتهُ شخصيَّات بعض المسرحيَّات كالتحدث باللغة العربيَّة الفُصحى، واللعن والتكفير والتفسيق، والاستشهاد بالنصوص الدينيَّة وتجييرها لصالحهم، تجيير الدين للمصالح الشخصيَّة، ومُحاربة الفن.. تلاهُ الفصل الثامن مُتحدثًا عن «نبض الموروث الشعبي والتشبُّث بالهويَّة»، مُتطرقًا إلى المُعالجات الدراميَّة التي قاربت عالم ما وراء الطبيعة وخصوصًا المُتعلق بالجن، والعادات والتقاليد الشعبيَّة المُرتبطة بالزواج، المأكل والمشرب، وطقوس الأحزان، ولم يُغفل الإشارة إلى حضور الحكايات الشعبية والأسطورة والخُرافة على لسان شخصيَّات بعض النصوص. أخيرًا احتل الفصل التاسع «نبض الرمزية: الإسقاطات السيميولوجيَّة»؛ مُبينًا كيف تم تضمين الرمز في المسرحيَّات ببراعةٍ جعلت من المُتلقي مُشاركًا في التعاطي مع النص الذي يثير كوامنه فيتبادلان الأسئلة الفنيَّة، ويأخذ المُتلقي إلى عوالِم الفِكر في فهم القضايا الإنسانيَّة.
تجدُر الإشارة إلى أن الجذوة الأولى لإيقاد فكرة هذا الكتاب هو توّلي مؤلّفه الدكتور عبَّاس القصَّاب مسؤوليَّة الأرشيف الإلكتروني في اللجنة الدائمة للفرق المسرحيَّة الأهليَّة في دول مجلس التعاوُن لأعوام طويلة منذ 2011م، وإيمانًا بأهميَّة الدراسات البحثيَّة في المسرح اهتم الفنان والباحث الدكتور حبيب غلوم بتبني تلك الدراسة المُتميّزة وإطلاقها لترى النور.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك