العدد : ١٧١٢٦ - الثلاثاء ١١ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ شعبان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٢٦ - الثلاثاء ١١ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٢ شعبان ١٤٤٦هـ

الثقافي

نبض: النطفة لن تموت بموت الجسد!

بقلم: علي الستراوي

السبت ٠٨ فبراير ٢٠٢٥ - 02:00

لم‭ ‬يكن‭ ‬كما‭ ‬حلمتُ‭! ‬هي‭ ‬الصدفة‭ ‬التي‭ ‬قادتني‭ ‬نحو‭ ‬ذلك‭ ‬الحلم،‭ ‬تلك‭ ‬الصفة‭ ‬التي‭ ‬صبغت‭ ‬ذاكرتي‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬أدرك‭!‬

زمن‭ ‬له‭ ‬عدة‭ ‬ألوان‭ ‬وعدة‭ ‬مواقع‭ ‬جغرافية،‭ ‬بينها‭ ‬تقارب‭ ‬واختلاف‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬مواطن‭ ‬الذاكرة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تغادر‭ ‬صفتها‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لها‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الآخرين‭!‬

امتدت‭ ‬بقياس‭ ‬امتداد‭ ‬العاطفة‭ ‬مشحونة‭ ‬بتوجس‭ ‬ونداء‭ ‬بعيد‭ ‬رسم‭ ‬لها‭ ‬خطواتها‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬تحيك‭ ‬من‭ ‬ذاكرتها‭ ‬ما‭ ‬اعتادت‭ ‬على‭ ‬حياكته‭ ‬في‭ ‬وحدتها،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬اتصال‭ ‬بالعالم‭ ‬الآخر،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬مخيلتها‭ ‬واقع‭ -‬لا‭- ‬تستطيع‭ ‬الانعتاق‭ ‬عنه‭ ‬أو‭ ‬التحايل‭ ‬عليه‭.‬

في‭ ‬زمنها‭ ‬الأول‭: ‬كانت‭ ‬نطفة‭ ‬في‭ ‬رحم‭ ‬الأرض،‭ ‬كبرت‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬إدراك‭ ‬وعيها‭ ‬الباطني،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقف‭ ‬العالم‭ ‬أمامها‭ ‬ليشهد‭ ‬هول‭ ‬تكوين‭ ‬نطفتها‭.‬

في‭ ‬زمنها‭ ‬الآخر‭: ‬تشكلت‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬يرقة،‭ ‬دخلت‭ ‬عالم‭ ‬الآخرين‭ ‬من‭ ‬برعم‭ ‬وردة‭ ‬لها‭ ‬ربيع‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬خريف،‭ ‬لكن‭ ‬لها‭ ‬قيامة‭ ‬تقف‭ ‬أحيانا‭ ‬كموقف‭ ‬الثابت‭ ‬في‭ ‬تربة‭ ‬الأرض‭ ‬دون‭ ‬جذور‭ ‬ودون‭ ‬حظ‭ ‬يفتح‭ ‬لها‭ ‬دفاتر‭ ‬كانت‭ ‬بالأمس‭ ‬مغلقة‭ ‬أمام‭ ‬تقدمها‭ ‬نحو‭ ‬جسد‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬قدمين‭ ‬ولا‭ ‬يدرك‭ ‬إن‭ ‬بين‭ ‬الشروق‭ ‬والغروب‭ ‬معادلة‭ ‬لمعنى‭ ‬الضوء‭ ‬والظلام‭.‬

امتد‭ ‬بها‭ ‬العمر،‭ ‬وكان‭ ‬البياض‭ ‬أول‭ ‬شاهد‭ ‬لتقدمها‭ ‬في‭ ‬العمر،‭ ‬حيث‭ ‬الطيف‭ ‬الذي‭ ‬شُكل‭ ‬من‭ ‬جسدها‭ ‬جذيلة‭ ‬لفتاة‭ ‬تعرف‭ ‬تفاصيل‭ ‬موتها‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬عن‭ ‬ولادتها‭ ‬شيئا،‭ ‬حائرة‭ ‬تنبش‭ ‬بأظافرها‭ ‬أحشاءها‭ ‬لعلها‭ ‬تتذكر‭ ‬ما‭ ‬خفي‭ ‬عنها‭ ‬ولم‭ ‬تصل‭ ‬إليه‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬النطفة‭ ‬وآخر‭ ‬الوجع‭.‬

كان‭ ‬بيت‭ ‬عمتها‭ ‬مجاورا‭ ‬لبيت‭ ‬خالتها‭ ‬وخالتها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬على‭ ‬وفاق‭ ‬مع‭ ‬عمتها،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬عرفته‭ ‬من‭ ‬جدتها‭ ‬لأبيها،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬أبيها‭ ‬قد‭ ‬غادرها‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬لخروج‭ ‬النطفة‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬أمها‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬سبباً‭ ‬في‭ ‬وفاة‭ ‬والدتها،‭ ‬معتبراً‭ ‬أنها‭ ‬نحسٌ‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يقبر‭! ‬

عاشت‭ ‬بوحدتها،‭ ‬لا‭ ‬رفيقة‭ ‬تدقُ‭ ‬بابها‭ ‬ولا‭ ‬جارة‭ ‬تعطف‭ ‬عليها،‭ ‬اختلط‭ ‬الفجر‭ ‬في‭ ‬عينها‭ ‬بنهار‭ ‬مشوش‭ ‬كما‭ ‬ذاكرتها‭ ‬المشوشة‭.‬

‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬رضت‭ ‬بها‭ ‬ورافقتها‭ ‬منذ‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬للواقعة‭ ‬هي‭ ‬السنون‭ ‬التي‭ ‬كتبت‭ ‬فوق‭ ‬جسدها‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬الحلم‭ ‬إدراكه،‭ ‬ضياع‭ ‬لا‭ ‬يلتقي‭ ‬بصحبته‭ ‬وجنون‭ ‬لم‭ ‬يفقدها‭ ‬الذاكرة‭.‬

على‭ ‬رابية‭ ‬وقفت‭ ‬تعانق‭ ‬واقعها‭ ‬وتسأل‭ ‬من‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬جواب‭ ‬يشفي‭ ‬ما‭ ‬بداخلها‭ ‬من‭ ‬اضطراب‭ ‬نفسي‭ ‬يعيش‭ ‬على‭ ‬التلذذ‭ ‬بوجعها،‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬تنتظر‭ ‬من‭ ‬يقرع‭ ‬بابها،‭ ‬ويعيد‭ ‬إليها‭ ‬بصيرتها‭ ‬مذكر‭ ‬اياها‭ ‬بالحلم‭ ‬الأول‭: (‬أنا‭ ‬أبوك‭) ‬فلا‭ ‬تحزني،‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬ضاع‭ ‬وتلاشى‭ ‬في‭ ‬واقع‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬قوياً‭ ‬تمت‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يسأل‭ ‬عنك‭ ‬أحد‭! ‬

هكذا‭ ‬أدركت‭ ‬ان‭ ‬بين‭ ‬الحلم‭ ‬والواقع‭ ‬كفين‭ ‬قويين‭ ‬يحفران‭ ‬بصبر‭ ‬وتجلد‭ ‬في‭ ‬قبر‭ ‬وحدتها،‭ ‬لعل‭ ‬بعد‭ ‬الفقد‭ ‬ندرك‭ ‬أننا‭ ‬أحياء‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬لا‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬المرء‭ ‬ليس‭ ‬كمثله‭ ‬شيء،‭ ‬فهو‭ ‬الضوء‭ ‬وهو‭ ‬الظلام،‭ ‬معادلة‭ ‬تعني‭ ‬الاختلاف‭ ‬وتعني‭ ‬أن‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬الألم‭ ‬يعطي‭ ‬صاحبه‭ ‬الشدة‭ ‬على‭ ‬كسر‭ ‬هذا‭ ‬الألم،‭ ‬فيدرك‭ ‬المرء‭ ‬حينها‭ ‬أن‭ ‬النطفة‭ ‬لم‭ ‬تمت‭ ‬بموت‭ ‬الجسد‭! ‬

 

a‭.‬astrawi@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا