العدد : ١٧١٢٢ - الجمعة ٠٧ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٨ شعبان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٢٢ - الجمعة ٠٧ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٨ شعبان ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

حين تروي الألوان حكايات الروح في البحرين

بقلم: نبيلة رجب {

الجمعة ٠٧ فبراير ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة،‭ ‬بين‭ ‬أروقة‭ ‬الفن‭ ‬حيث‭ ‬تتلاقى‭ ‬الأرواح‭ ‬دون‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬كلمات،‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬أمام‭ ‬لوحة‭ ‬حملتني‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬حدود‭ ‬الزمان‭ ‬والمكان‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ألوانها‭ ‬انعكاسا‭ ‬لمشهد‭ ‬عادي،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬معنى‭ ‬الحياة،‭ ‬في‭ ‬قصص‭ ‬البشر‭ ‬التي‭ ‬تخفق‭ ‬خلف‭ ‬كل‭ ‬ضربة‭ ‬فرشاة‭. ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬الفن،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬أشهر‭ ‬المتاحف‭ ‬العالمية‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬البحرين،‭ ‬يتجاوز‭ ‬كونه‭ ‬وسيلة‭ ‬تعبير،‭ ‬ليصبح‭ ‬نافذة‭ ‬على‭ ‬الروح‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وجسرا‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬الماضي‭ ‬والحاضر،‭ ‬وبين‭ ‬الشعوب‭ ‬رغم‭ ‬اختلاف‭ ‬ثقافاتها‭.‬

كيف‭ ‬استطاع‭ ‬الفن‭ ‬أن‭ ‬يصمد‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الزمن؟‭ ‬وكيف‭ ‬تتحول‭ ‬لوحة‭ ‬واحدة‭ ‬إلى‭ ‬رسالة‭ ‬تتجاوز‭ ‬آلاف‭ ‬الكلمات‭ ‬والخطابات؟

في‭ ‬القرن‭ ‬الخامس‭ ‬عشر،‭ ‬وسط‭ ‬عصور‭ ‬مضطربة،‭ ‬غير‭ ‬الأخوان‭ ‬هوبرت‭ ‬وجان‭ ‬فان‭ ‬آيك‭ ‬مسار‭ ‬الفن‭ ‬عبر‭ ‬تطوير‭ ‬تقنية‭ ‬الرسم‭ ‬الزيتي،‭ ‬مما‭ ‬منح‭ ‬أعمالهما‭ ‬بعدا‭ ‬بصريا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معروفا‭ ‬من‭ ‬قبل‭. ‬لوحاتهما‭ ‬كانت‭ ‬تضج‭ ‬بالحياة،‭ ‬كأنها‭ ‬تضيء‭ ‬من‭ ‬الداخل،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬يوحي‭ ‬بأنهما‭ ‬أرادا،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الفن،‭ ‬مقاومة‭ ‬العتمة‭ ‬التي‭ ‬فرضتها‭ ‬الحروب‭ ‬والطاعون‭ ‬على‭ ‬زمانهم‭.‬

أما‭ ‬فان‭ ‬جوخ،‭ ‬فقد‭ ‬جسد‭ ‬التلاقي‭ ‬بين‭ ‬العبقرية‭ ‬والمعاناة،‭ ‬حيث‭ ‬تحولت‭ ‬عزلته‭ ‬واضطراباته‭ ‬النفسية‭ ‬إلى‭ ‬أعمال‭ ‬خالدة‭ ‬مثل‭ ‬لوحة‭ ‬ليلة‭ ‬النجوم،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تصويرا‭ ‬بسيطا‭ ‬للسماء،‭ ‬بل‭ ‬تعبيرا‭ ‬بصريا‭ ‬عن‭ ‬صراعه‭ ‬الداخلي‭. ‬السماء‭ ‬في‭ ‬لوحته‭ ‬بدت‭ ‬وكأنها‭ ‬تنبض‭ ‬بالحياة،‭ ‬وتعكس‭ ‬اضطرابه،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬تحمل‭ ‬بريقا‭ ‬من‭ ‬الأمل،‭ ‬وكأن‭ ‬الفن‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬نافذة‭ ‬للروح‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أشد‭ ‬لحظات‭ ‬الألم‭.‬

على‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر،‭ ‬كان‭ ‬ليوناردو‭ ‬دافنشي‭ ‬فنانا‭ ‬وفيلسوفا‭ ‬وعالما،‭ ‬رأى‭ ‬العالم‭ ‬بطريقة‭ ‬مختلفة‭ ‬تماما،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يكتف‭ ‬بتصوير‭ ‬السطح،‭ ‬بل‭ ‬غاص‭ ‬في‭ ‬أسرار‭ ‬الطبيعة‭ ‬والإنسان‭. ‬الموناليزا،‭ ‬أشهر‭ ‬أعماله،‭ ‬ابتسامتها‭ ‬تحمل‭ ‬ألف‭ ‬كلمة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬لغز‭ ‬بصري‭ ‬يحمل‭ ‬في‭ ‬طياته‭ ‬أسرارًا‭ ‬عن‭ ‬الإنسان،‭ ‬نظرتها‭ ‬الغامضة‭ ‬تطرح‭ ‬أسئلة‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬تقدم‭ ‬إجابات‭.‬

أما‭ ‬بيكاسو،‭ ‬فقد‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬فنه‭ ‬سلاحا‭ ‬سياسيا،‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الجورنيكا،‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬عملا‭ ‬فنيا‭ ‬تقليديا،‭ ‬بل‭ ‬صرخة‭ ‬احتجاج‭ ‬ضد‭ ‬الحرب،‭ ‬مجسدة‭ ‬الألم‭ ‬والفوضى‭ ‬بأسلوب‭ ‬تجريدي‭ ‬حاد‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الهدف‭ ‬إظهار‭ ‬الجمال‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تسليط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬المأساة،‭ ‬وتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬شهادة‭ ‬بصرية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهلها‭. ‬وهنا‭ ‬يبرز‭ ‬تساؤل‭ ‬مهم‭: ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للفن‭ ‬أن‭ ‬يحمل‭ ‬رسائل‭ ‬تتجاوز‭ ‬الإطار‭ ‬الجمالي‭ ‬ليصبح‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬خطاب‭ ‬مجتمعي‭ ‬وثقافي‭ ‬أوسع؟

في‭ ‬البحرين،‭ ‬يزدهر‭ ‬المشهد‭ ‬الفني‭ ‬بتجارب‭ ‬متعددة‭ ‬تعكس‭ ‬روح‭ ‬الإبداع‭ ‬والتجديد،‭ ‬حيث‭ ‬أصبح‭ ‬الفن‭ ‬مساحة‭ ‬ديناميكية‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬التراث‭ ‬والحداثة،‭ ‬وبين‭ ‬المحلي‭ ‬والعالمي‭.‬

ومن‭ ‬أبرز‭ ‬المحطات‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬هذا‭ ‬التنوع،‭ ‬معرض‭ ‬البحرين‭ ‬السنوي‭ ‬للفنون‭ ‬التشكيلية،‭ ‬الذي‭ ‬احتضنه‭ ‬متحف‭ ‬البحرين‭ ‬الوطني‭ ‬مؤخرا،‭ ‬في‭ ‬نسخته‭ ‬الحادية‭ ‬والخمسين‭ ‬تحت‭ ‬رعاية‭ ‬صاحب‭ ‬السمو‭ ‬الملكي‭ ‬الأمير‭ ‬سلمان‭ ‬بن‭ ‬حمد‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬ولي‭ ‬العهد‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬الوزراء‭. ‬والذي‭ ‬شارك‭ ‬فيه‭ ‬سبعون‭ ‬فنانا‭ ‬من‭ ‬البحرينيين‭ ‬والمقيمين،‭ ‬مقدمين‭ ‬أعمالا‭ ‬تتنوع‭ ‬بين‭ ‬اللوحات،‭ ‬النحت،‭ ‬الفنون‭ ‬الرقمية،‭ ‬والتراكيب‭ ‬الفنية،‭ ‬مما‭ ‬يعكس‭ ‬ثراء‭ ‬التجربة‭ ‬الفنية‭ ‬البحرينية‭ ‬وقدرتها‭ ‬على‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬القضايا‭ ‬الإنسانية‭ ‬والتجارب‭ ‬الشخصية‭ ‬بأساليب‭ ‬غير‭ ‬تقليدية‭.‬

ما‭ ‬يميز‭ ‬هذا‭ ‬المعرض‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يقتصر‭ ‬على‭ ‬عرض‭ ‬اللوحات،‭ ‬بل‭ ‬يشكل‭ ‬منصة‭ ‬للحوار‭ ‬البصري‭. ‬فالأعمال‭ ‬النحتية‭ ‬تعكس‭ ‬تجليات‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬لحظات‭ ‬قوته‭ ‬وضعفه،‭ ‬بينما‭ ‬تعيد‭ ‬الفنون‭ ‬الرقمية‭ ‬تشكيل‭ ‬مفهوم‭ ‬الحداثة‭ ‬باستخدام‭ ‬التكنولوجيا‭. ‬الصور‭ ‬الفوتوغرافية‭ ‬تأخذ‭ ‬الزائر‭ ‬إلى‭ ‬لحظات‭ ‬عابرة‭ ‬من‭ ‬الزمن،‭ ‬بينما‭ ‬تبرز‭ ‬التراكيب‭ ‬الفنية‭ ‬قدرة‭ ‬الفنانين‭ ‬على‭ ‬مزج‭ ‬مختلف‭ ‬العناصر‭ ‬لإنشاء‭ ‬لغة‭ ‬مرئية‭ ‬جديدة‭.‬

المرأة‭ ‬البحرينية‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬حضور‭ ‬لافت‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الفني،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬كمصدر‭ ‬إلهام،‭ ‬بل‭ ‬كصانعة‭ ‬تغيير‭. ‬في‭ ‬المعرض‭ ‬الأخير،‭ ‬برزت‭ ‬أعمال‭ ‬الفنانات‭ ‬البحرينيات‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬قضايا‭ ‬انسانية،‭ ‬فنية،‭ ‬ثقافية‭ ‬وتحولات‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أساليب‭ ‬متعددة،‭ ‬تراوحت‭ ‬بين‭ ‬التجريد‭ ‬والواقعية،‭ ‬وبين‭ ‬التقليدي‭ ‬والتجريبي‭. ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬يرسخ‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬الفن‭ ‬النسوي‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬اليوم‭ ‬يتجاوز‭ ‬كونه‭ ‬مساحة‭ ‬للتعبير‭ ‬العاطفي،‭ ‬بل‭ ‬يعد‭ ‬أداة‭ ‬نقدية‭ ‬تعيد‭ ‬تعريف‭ ‬دور‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬المعاصر‭.‬

ويلاحظ‭ ‬في‭ ‬الحراك‭ ‬الفني‭ ‬البحريني‭ ‬بروز‭ ‬حضور‭ ‬عالمي‭ ‬متصاعد،‭ ‬حيث‭ ‬استطاع‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬والفنانات‭ ‬البحرينيين‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المعارض‭ ‬والمتاحف‭ ‬العالمية،‭ ‬بعدما‭ ‬قدموا‭ ‬نماذج‭ ‬مشرفة‭ ‬للفن‭ ‬البحريني‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬الدولية‭. ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬العالمي‭ ‬يفتح‭ ‬آفاقا‭ ‬جديدة‭ ‬للجيل‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬المبدعين‭ ‬البحرينيين،‭ ‬ويؤكد‭ ‬قدرة‭ ‬الفن‭ ‬البحريني‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الثقافات‭ ‬المختلفة‭.‬

ومع‭ ‬تطور‭ ‬المشهد‭ ‬الفني‭ ‬العالمي‭ ‬وتعدد‭ ‬المنصات‭ ‬الرقمية،‭ ‬تتزايد‭ ‬الفرص‭ ‬أمام‭ ‬الفنانين‭ ‬المحليين‭ ‬لتوسيع‭ ‬نطاق‭ ‬حضورهم‭ ‬الدولي‭. ‬فالسؤال‭ ‬اليوم‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬عن‭ ‬إمكانية‭ ‬الوصول‭ ‬العالمي،‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬كيفية‭ ‬تعزيز‭ ‬هذا‭ ‬الحضور‭ ‬وتطويره‭. ‬وكيف‭ ‬يمكن‭ ‬لصانع‭ ‬الجمال‭ ‬البحريني‭ ‬أن‭ ‬يستثمر‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الحديثة‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬جمهور‭ ‬أوسع؟‭ ‬وما‭ ‬السبيل‭ ‬لتطوير‭ ‬استراتيجيات‭ ‬جديدة‭ ‬تدعم‭ ‬انتشار‭ ‬الفن‭ ‬البحريني‭ ‬عالميا؟

في‭ ‬النهاية،‭ ‬الفن‭ ‬ليس‭ ‬لوحة‭ ‬تعلق‭ ‬على‭ ‬الجدار،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬تجربة‭ ‬متغيرة‭ ‬تنبض‭ ‬بروح‭ ‬من‭ ‬يراها‭. ‬عندما‭ ‬نقف‭ ‬أمام‭ ‬عمل‭ ‬فني،‭ ‬ربما‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نسأل‭: ‬ماذا‭ ‬تعني‭ ‬هذه‭ ‬اللوحة؟‭ ‬بل‭ ‬ماذا‭ ‬تعني‭ ‬لي؟‭ ‬لأن‭ ‬الفن‭ ‬ليس‭ ‬حقيقة‭ ‬ثابتة،‭ ‬بل‭ ‬لغة‭ ‬متعددة‭ ‬الأصوات،‭ ‬كل‭ ‬شخص‭ ‬يقرؤها‭ ‬بطريقته‭ ‬الخاصة‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

 

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا