في تلك اللحظة، بين أروقة الفن حيث تتلاقى الأرواح دون حاجة إلى كلمات، وجدت نفسي أمام لوحة حملتني بعيدا عن حدود الزمان والمكان. لم تكن ألوانها انعكاسا لمشهد عادي، بل كانت دعوة إلى التأمل في معنى الحياة، في قصص البشر التي تخفق خلف كل ضربة فرشاة. أدركت أن الفن، سواء في أشهر المتاحف العالمية أو في قلب البحرين، يتجاوز كونه وسيلة تعبير، ليصبح نافذة على الروح الإنسانية، وجسرا يربط بين الماضي والحاضر، وبين الشعوب رغم اختلاف ثقافاتها.
كيف استطاع الفن أن يصمد في وجه الزمن؟ وكيف تتحول لوحة واحدة إلى رسالة تتجاوز آلاف الكلمات والخطابات؟
في القرن الخامس عشر، وسط عصور مضطربة، غير الأخوان هوبرت وجان فان آيك مسار الفن عبر تطوير تقنية الرسم الزيتي، مما منح أعمالهما بعدا بصريا لم يكن معروفا من قبل. لوحاتهما كانت تضج بالحياة، كأنها تضيء من الداخل، على نحو يوحي بأنهما أرادا، من خلال الفن، مقاومة العتمة التي فرضتها الحروب والطاعون على زمانهم.
أما فان جوخ، فقد جسد التلاقي بين العبقرية والمعاناة، حيث تحولت عزلته واضطراباته النفسية إلى أعمال خالدة مثل لوحة ليلة النجوم، التي لم تكن تصويرا بسيطا للسماء، بل تعبيرا بصريا عن صراعه الداخلي. السماء في لوحته بدت وكأنها تنبض بالحياة، وتعكس اضطرابه، لكنها في الوقت ذاته تحمل بريقا من الأمل، وكأن الفن يمكن أن يكون نافذة للروح حتى في أشد لحظات الألم.
على الجانب الآخر، كان ليوناردو دافنشي فنانا وفيلسوفا وعالما، رأى العالم بطريقة مختلفة تماما، حيث لم يكتف بتصوير السطح، بل غاص في أسرار الطبيعة والإنسان. الموناليزا، أشهر أعماله، ابتسامتها تحمل ألف كلمة، بل هي لغز بصري يحمل في طياته أسرارًا عن الإنسان، نظرتها الغامضة تطرح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات.
أما بيكاسو، فقد جعل من فنه سلاحا سياسيا، كما في الجورنيكا، التي لم تكن عملا فنيا تقليديا، بل صرخة احتجاج ضد الحرب، مجسدة الألم والفوضى بأسلوب تجريدي حاد. لم يكن الهدف إظهار الجمال فحسب، بل تسليط الضوء على المأساة، وتحويلها إلى شهادة بصرية لا يمكن تجاهلها. وهنا يبرز تساؤل مهم: كيف يمكن للفن أن يحمل رسائل تتجاوز الإطار الجمالي ليصبح جزءًا من خطاب مجتمعي وثقافي أوسع؟
في البحرين، يزدهر المشهد الفني بتجارب متعددة تعكس روح الإبداع والتجديد، حيث أصبح الفن مساحة ديناميكية تجمع بين التراث والحداثة، وبين المحلي والعالمي.
ومن أبرز المحطات التي تعكس هذا التنوع، معرض البحرين السنوي للفنون التشكيلية، الذي احتضنه متحف البحرين الوطني مؤخرا، في نسخته الحادية والخمسين تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء. والذي شارك فيه سبعون فنانا من البحرينيين والمقيمين، مقدمين أعمالا تتنوع بين اللوحات، النحت، الفنون الرقمية، والتراكيب الفنية، مما يعكس ثراء التجربة الفنية البحرينية وقدرتها على التفاعل مع القضايا الإنسانية والتجارب الشخصية بأساليب غير تقليدية.
ما يميز هذا المعرض هو أنه لا يقتصر على عرض اللوحات، بل يشكل منصة للحوار البصري. فالأعمال النحتية تعكس تجليات الإنسان في لحظات قوته وضعفه، بينما تعيد الفنون الرقمية تشكيل مفهوم الحداثة باستخدام التكنولوجيا. الصور الفوتوغرافية تأخذ الزائر إلى لحظات عابرة من الزمن، بينما تبرز التراكيب الفنية قدرة الفنانين على مزج مختلف العناصر لإنشاء لغة مرئية جديدة.
المرأة البحرينية كان لها حضور لافت في المشهد الفني، ليس فقط كمصدر إلهام، بل كصانعة تغيير. في المعرض الأخير، برزت أعمال الفنانات البحرينيات التي تناولت قضايا انسانية، فنية، ثقافية وتحولات الاجتماعية، من خلال أساليب متعددة، تراوحت بين التجريد والواقعية، وبين التقليدي والتجريبي. هذا الحضور يرسخ حقيقة أن الفن النسوي في البحرين اليوم يتجاوز كونه مساحة للتعبير العاطفي، بل يعد أداة نقدية تعيد تعريف دور المرأة في المجتمع المعاصر.
ويلاحظ في الحراك الفني البحريني بروز حضور عالمي متصاعد، حيث استطاع عدد من الفنانين والفنانات البحرينيين الوصول إلى المعارض والمتاحف العالمية، بعدما قدموا نماذج مشرفة للفن البحريني في المحافل الدولية. هذا الحضور العالمي يفتح آفاقا جديدة للجيل القادم من المبدعين البحرينيين، ويؤكد قدرة الفن البحريني على التواصل مع الثقافات المختلفة.
ومع تطور المشهد الفني العالمي وتعدد المنصات الرقمية، تتزايد الفرص أمام الفنانين المحليين لتوسيع نطاق حضورهم الدولي. فالسؤال اليوم لم يعد عن إمكانية الوصول العالمي، بل عن كيفية تعزيز هذا الحضور وتطويره. وكيف يمكن لصانع الجمال البحريني أن يستثمر التكنولوجيا الحديثة للوصول إلى جمهور أوسع؟ وما السبيل لتطوير استراتيجيات جديدة تدعم انتشار الفن البحريني عالميا؟
في النهاية، الفن ليس لوحة تعلق على الجدار، بل هو تجربة متغيرة تنبض بروح من يراها. عندما نقف أمام عمل فني، ربما لا ينبغي أن نسأل: ماذا تعني هذه اللوحة؟ بل ماذا تعني لي؟ لأن الفن ليس حقيقة ثابتة، بل لغة متعددة الأصوات، كل شخص يقرؤها بطريقته الخاصة.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك