تتبوأ مراكز الفكر ومؤسسات البحث دورا بارزا في عملية صياغة وتطوير التشريعات في الولايات المتحدة، حيث تتألف من أكاديميين، وقانونيين، ودبلوماسيين، فضلاً عن مسؤولين سابقين رفيعي المستوى في الحكومات والجيوش الغربية، وتعد مؤثرة بشكل خاص في مجالات الشؤون الخارجية، وسياسة الدفاع، سواء من خلال إنتاج التقارير ومقالات الرأي للتأثير على صناع السياسات، أو الإدلاء بشهادات أمام الكونجرس الأمريكي، أو المساعدة بشكل مباشر في صياغة السياسات والتشريعات الجديدة.
وتوظف أبرز مراكز الأبحاث في الشؤون الخارجية والدفاع بالولايات المتحدة، مثل (مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومؤسسة راند، والمجلس الأطلسي)، آلاف الأشخاص، بما في ذلك عدد من الخبراء في المجالات الدولية، والتي غالبًا ما تظهر تعليقاتهم وتحليلاتهم في التقارير المطبوعة في وسائل إعلامية مرموقة، مثل (نيويورك تايمز، واشنطن بوست، الغارديان، ووول ستريت جورنال)، بالإضافة إلى تقديم تحليلات لتغطية الأخبار على مدار الساعة عبر شبكات، مثل (بي بي سي، سي إن إن، الجزيرة، إن بي سي نيوز)، وغيرها من المنصات الإعلامية الكبرى.
ووفقًا لتقرير صدر في يناير 2025 بعنوان الأفكار الكبرى والأموال الطائلة.. تمويل مراكز الفكر في أمريكا، أعده بن فريمان، ونيك كليفلاند ستاوت، من معهد كوينسي للحكم الرشيد؛ فإن مراكز الفكر في الدول الغربية، تعتمد على المصالح الخاصة والحكومات في دعمها السياسي وتمويلها. وعلى الرغم من أن هذا الدعم غالبًا ما يكون مشروطًا، فإن القوانين لا تُلزم هذه المراكز بالإفصاح عن تفاصيل تمويلها لعامة الناس، وهو ما يُعتقد أنه ساهم في تزايد أزمة الثقة العامة بمراكز الفكر خلال السنوات الأخيرة.
وفي تعليق من مايكل شافر، بمجلة بوليتيكو، أشار إلى أن صناعة معاهد الفكر في واشنطن، تطفو على ملايين الدولارات الخاصة بدول الحكومات الأجنبية، وأموال مقاولي البنتاجون، والتي تؤثر بشكل مباشر على تحليلات هذه المعاهد، وبالتالي، على سياسات الإدارة الأمريكية، فلا عجب أن هناك أزمة متزايدة في الثقة بين الأمريكيين العاديين تجاه معاهد الفكر وآراء الخبراء المرتبطين بها.
ومن خلال تقديم تحليل مفصل لمستويات الدعم السياسي والمالي الذي تلقته أفضل خمسين مؤسسة بحثية في السياسة الخارجية الأمريكية، إلى جانب بعض المنظمات الأجنبية في السنوات الأخيرة؛ تم قياس شفافية مراكز الفكر، استنادًا إلى مدى توافر قوائم المانحين والتقارير السنوية للجمهور، بالإضافة إلى ما إذا كانت مبالغ التبرعات الدقيقة قد تم الكشف عنها أم لا.
ووفقًا لهذه المقاييس، فإن تسعة فقط من أفضل خمسين مؤسسة بحثية في الولايات المتحدة (18%)، تعتبر شفافة بشكل كامل، أو بشكل كبير فيما يتعلق بمصدر تلقيها للدعم المالي والسياسي، في حين أن 18 مؤسسة (36%)، يكتنفها غموض كُلي فيما يخص تمويلها، وترفض الكشف عن هوية أي من مانحيها أو مقدار ما قدموه من مساعدة.
وعلى مقياس يتراوح من (0 - 5) لقياس مستوى الشفافية -حيث تشير (0-1) إلى المؤسسات التي تكشف القليل جدًا أو لا تكشف شيئًا عن مصادر تمويلها، بينما تعكس من (4-5) مستوى شفافية كامل تقريبًا يكشف جميع معلومات المانحين أو معظمها- حصل معهد بيرجروين، ومقره بروكسل، ومركز ستيمسون، ومقره واشنطن العاصمة، على تقييم مثالي بدرجة 5/5، مما يعكس التزامهما التام بالكشف عن مصادر تبرعاتهما ومساعداتهما المالية.
وجاء من بين المؤسسات التي تم تصنيفها في الفئة الثانية من الشفافية (مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومعهد الشرق الأوسط، ومجلس شيكاغو للشؤون العالمية، ومعهد كوينسي). وتشمل المؤسسات التي سجلت (3/5) في الشفافية، (المجلس الأطلسي، ومؤسسة بروكينجز، ومؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، ومجلس العلاقات الخارجية، ومؤسسة راند). وعلى الجانب الآخر من المقياس، شملت المؤسسات التي سجلت صفر في الشفافية (معهد أمريكان إنتربرايز، ومركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية، ومؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، ومؤسسة هوفر، ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى).وعلق شافر، بأن هذه النتائج المتعلقة بدرجات الشفافية لتلك المعاهد، قد تكون بها الكثير من المحاباة والتحيز؛ إلا أن الأمر الأكثر إثارة للقلق، هو أن معاهد الفكر الأمريكية الكبرى، على عكس مديري المعاهد من الوكلاء الأجانب المسجلين ولجان العمل السياسية، التي تعمل أيضًا للتأثير على صناعة السياسات في واشنطن، ولا يتعين عليها الكشف عن مصادر تمويلها.
وكما أوضح فريمان، وكليفلاند ستاوت، ففي حين تلقى معهد بيرجروين تمويله من قبل مانح أوحد -صندوق نيكولاس بيرجروين الخيري- فإن مركز ستيمسون، هو مركز الفكر الوحيد المُدرج لديه مصادر متعددة للتمويل، كما وفر قائمة كاملة بالمانحين والممولين للسنة المالية المنقضية، ومن ثّم فهو واحد فقط من ثلاثة إلى جانب (معهد الشرق الأوسط، ومجلس شيكاغو للشؤون العالمية)؛ أفصحوا بدقة المبالغ المقدمة بالدولار الأمريكي.
وفيما يتعلق بمصادر تمويل أفضل 50 مؤسسة بحثية يقيمها معهد كوينسي، فقد سُجِّل تقديم الولايات المتحدة، لمؤسسات البحث الرائدة زُهاء 1.5 مليار دولار تمويل منذ 2019، مع تلقي مؤسسة راند الغالبية العظمى من ذلك المبلغ؛ بسبب تعاونها المباشر مع الحكومة الأمريكية. وفيما يتعلق بمصادر التمويل الأجنبية، فمنذ عام 2019، كان (المجلس الأطلسي، ومؤسسة بروكينجز، وصندوق مارشال الألماني)، أكبر المتلقين للدعم المالي المعلن من الحكومات الأجنبية، حيث تلقوا 20.8 مليون دولار، و17.1 مليون دولار، و16.1 مليون دولار على التوالي. ومن بين أبرز الحكومات الأجنبية والكيانات المملوكة للحكومات التي تبرعت بمبلغ إجمالي تراكمي يزيد على 110 ملايين دولار لأكبر 50 مؤسسة بحثية منذ 2019، جاءت من دول عربية، والمملكة المتحدة. وكما أشار شافر، فإن الأمريكيين العاديين لديهم اهتمام كبير بمعرفة من يمول الآراء التي تؤثر على صانعي السياسات في واشنطن.
ومن الجدير بالذكر، أن نتائج معهد كوينسي، لم تشر إلى حجم تمويل إسرائيل، ومؤسساتها، والجماعات والمنظمات المؤيدة لها، التي تؤثر على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. وفي تحليله، أشار التقرير إلى أن التمويل الذي تقدمه إسرائيل والجماعات والمنظمات المؤيدة لها للمراكز الفكرية الأمريكية الرائدة، لم يتم الكشف عن مصادره، وهو أمر ليس غريبا إذا أخذنا في الاعتبار أن هذه المؤسسات لا تكشف علنًا عن مصادر تمويلها والمتبرعين لها، ومن بينها مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات الأمريكية، التي تنشر تقريرًا يوميًا تقريبًا بعنوان إسرائيل في الحرب للاحتفال بالهجمات التي تقوم بها ضد أهداف في أنحاء الشرق الأوسط، وهو التوجه ذاته الذي اعتمده معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، الذي كان من مؤسسيه السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل، مارتن إنديك. ومن ثمّ، ليس من المستغرب أن هذه المؤسسات -نادرًا إن لم يكن أبدًا- ما تتناول الكارثة الإنسانية الناتجة عن حرب القصف والتدمير التي شنّتها إسرائيل على غزة، بل تركز تحليلاتها على التهديدات المرتبطة ببرنامج الصواريخ الباليستية، والأسلحة النووية الإيرانية للأمن الإقليمي.
وبالنظر إلى حجم الأموال التي أنفقها اللوبي المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة، والتي تم توثيقها بمئات الملايين من الدولارات خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024، لضمان تأمين مرشحين موالين لإسرائيل في الكونجرس؛ فإن نطاق الدعم المقدم لها والمساعدة الأمريكية المستمرة في الحرب ضد غزة واحتلال الأراضي الفلسطينية، لا شك أنه ضخم بكل المقاييس.
وعلى الرغم من أن عدم الشفافية في المؤسسات الأمريكية الكبرى، يجعل من الصعب تحديد مبلغ الأموال الموجهة لهذا الهدف؛ إلا أن الروايات التي تتبناها هذه المعاهد تُظهر كيف أن الدعم غير المشكوك فيه لإسرائيل، أصبح أمرًا شائعًا وراسخًا في الدوائر السياسية والاستشارية في واشنطن.
وإضافة إلى التمويل الحكومي الأمريكي والأجنبي للمراكز الفكرية؛ يجب أيضًا الإشارة إلى أن الشركات العالمية الرائدة في مجال المقاولات الدفاعية، قد قدمت ما يزيد على 34.7 مليون دولار لهذه المراكز الفكرية منذ عام 2019، ومن بينها هذه الشركات، قدمت نورثروب جرومان، ولوكهيد مارتن، مبلغ 5.6 ملايين دولار، و2.6 مليون دولار على التوالي لهذه المعاهد، بينما تبرعت الشركات المتعاقدة مع وزارة الدفاع الأمريكية بمجموع 10.2 ملايين دولار لـالمجلس الأطلسي، و6.6 ملايين دولار لـمركز الأمن الأمريكي الجديد، و4.1 ملايين دولار لـمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية.
كما ذكر التقرير أن المجلس الأطلسي، تلقى إجمالي 2.96 مليون دولار من شركات التصنيع الدفاعية الكبرى؛ مثل نورثروب جرومان، ولوكهيد مارتن وإيرباص، ولهذا ليس غريبا أن يكون هذا المعهد من أقوى المطالبين لواشنطن بمواصلة إرسال الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا، ورفض أي اتفاق دبلوماسي لإنهاء النزاع. علاوة على ذلك، نادرًا ما تذكر هذه المعاهد دور الأسلحة الأمريكية في استخدامها ضد المدنيين الفلسطينيين من قبل الجيش الإسرائيلي في غزة، وهي انتهاكات للقانون الدولي أدانتها منظمات حقوق الإنسان، مثل العفو الدولية.
وفي إدراك لذلك، أشار شافر، إلى أن الآراء التي يعبر عنها بعض معاهد الفكر في واشنطن تم شراؤها ودُفع مقابلها من قبل حكومات وأطراف عسكرية وصناعية ذات مصالح شخصية، وفي تلك العملية يتم تجاهل التأثيرات الاقتصادية والسياسية للمانحين الآخرين الداعمين للصناعات التكنولوجية والدوائية على حد سواء، الذين يسعون أيضًا إلى توجيه دفة السياسة الأمريكية في الاتجاه الذي يفضلونه.
وكما أوضح فريمان، وكليفلاند ستاوت، فإن الدور الأساسي للمؤسسات البحثية يتمثل في إنتاج تحليلات مستقلة، تسهم في مساعدة صانعي السياسات على اتخاذ قرارات مستنيرة، معتمدين على خبرات المسؤولين السابقين والمعرفة التي يقدمها الخبراء المعاصرون. ومع ذلك، فإن انتشار عمليات التمويل التي تخدم المصالح الخاصة، يثير تساؤلات حول الاستقلالية الفكرية لهذه المؤسسات، ويزيد من الشكوك بشأن حيادها وتحفظها، فضلًا عن تقييد تنوع وجهات النظر. وتتفاقم هذه المخاوف في الحالات التي يشغل فيها الباحثون مناصب مزدوجة في معاهد فكرية مرتبطة بحكومات أجنبية، أو شركات معينة، ما يعزز الانطباع بتضارب المصالح وتأثير التمويل الخاص على توجهاتهم البحثية.
وفي هذا السياق، من المهم الإشارة إلى استطلاع للرأي أجرته شركة كاست فروم كلاي، بالمملكة المتحدة في سبتمبر 2022، والذي أظهر أن 48% فقط من الأمريكيين يعتقدون أن مراكز الفكر والخبراء في السياسة العامة، يقدمون دورًا قيمًا للمجتمع، وهي نسبة أقل بكثير من تلك التي حصل عليها الأطباء (82%)، والعلماء والمهندسون (79%)، وحتى الصحفيون والمراسلون (55%)، مما يعكس انخفاض الثقة العامة في هذه المؤسسات.
ومن بين التوصيات التي قدمها معهد كوينسي، لمعالجة نقص الشفافية في مراكز الفكر الأمريكية الكبرى، وتراجع الثقة العامة في هذه المؤسسات، هو أن تتبنى وسائل الإعلام الأمريكية معيارًا مهنيًا، للإبلاغ عن أي تضارب في المصالح، مع المصادر التي تتحدث عن مسارات السياسة الخارجية الأمريكية، وأن يمرر الكونجرس، تشريعات تطالب جميع المنظمات غير الربحية، التي تسعى للتأثير في السياسة العامة بـالكشف علنًا عن جميع متبرعيها من الشركات والحكومات الأمريكية والأجنبية التي تتجاوز تبرعاتهم 10,000 دولار. كما دعا التقرير وزارة العدل الأمريكية، إلى إصدار إرشادات أكثر وضوحًا، بشأن ما يمكن أن تفعله مراكز الفكر غير الممتثلة لقانون تسجيل الوكلاء الأجانب، والمعني بالكشف عن متبرعيها من الأجانب.
وبينما تعد هذه التوصيات محمودة في تغيير هيكل معاهد الفكر الأمريكية البارزة، فقد أبرز شافر، الحواجز المعقدة التي تحول دون تنفيذها، وأهمها أن الدستور الأمريكي يجعل من الصعب على الحكومة الأمريكية إلزام منظمة خاصة بفتح حساباتها للتدقيق والرقابة، في حين أن تصور هذه المعاهد باعتبارها مؤسسات بحثية رفيعة المستوى وعالية الموثوقية، يفسر رفضها في الكشف عن تمويلاتها، التي قُدمت إليها بطريقة طوعية.
ومن وجهة نظر إنريكي مينديزابال، من منظمة أون ثينك تانكس، فإن نموذج الدعم المالي والسياسي -المذكور- للمنظمات الموجودة في واشنطن، محكوم عليه بالفشل على المدى الطويل؛ لوقوف دوافع سياسية بحتة وراءه، حيث إنها تبيع نفوذها وهيمنتها على السياسة العامة، مقابل وصولها إلى صانعي السياسات وسماسرة القوة. وبالتالي، مع مرور الوقت ستواجه آراء العديد من معاهد الفكر هجومًا غير مسبوق، وعليه، أكد شافر، أن هذه المعاهد يجب أن تبذل جهدًا إضافيًا لإثبات أنها تتبع ممارسات مشروعة، حيث إن الاختباء وراء الدرجات العلمية العليا للباحثين، لن يكون كافيًا بعد الآن.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك