أن يتفاءل اللبنانيون باختيار جوزيف عون رئيسًا للجمهورية، فهم على حق. وأن يتسع فضاء تفاؤلهم بتسمية رجل القانون نواف سلام رئيسًا للوزراء، فإن ذلك يشير إلى أن أملهم في أن مرحلة التغيير قد أصبحت حقيقة. غير أن تفاؤلهم سيظل ناقصًا ما لم يتمكنوا من تنحية الطبقة السياسية المكرسة تاريخيًّا جانبًا، فتلك الطبقة التي حوّلت لبنان عبر الخمسين سنة الماضية إلى إقطاعيات لمصالحها هي الوباء الذي جلب كل الكوارث التي عاشها لبنان، بدءًا بحربه الأهلية منتصف سبعينيات القرن الماضي وانتهاءً بهيمنة إيران من خلال تابعها حزب الله، والتي ما كان لها أن تنتهي لولا الجنون الذي أصيبت به إسرائيل بعد هجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر 2023، ودخول حزب الله في مواجهة مع إسرائيل بعد ذلك.
ومن المهم هنا التذكير بأن تلك الطبقة السياسية لم تكن راغبة في الانتقال بلبنان إلى مرحلة سياسية جديدة تقع خارج وصاية حزب الله حتى بعد أن صفّت إسرائيل قيادتي الحزب السياسية والعسكرية وباتت إيران عاجزة تماما عن مد يد العون لكتلة الحزب البشرية الضائعة التي صارت مكشوفة بما يمنعها عن العمل المسلح إلا إذا قررت أن تنتحر عن طريق حرب أهلية لا أعتقد أنها ستحظى بقبول الطائفة الشيعية التي هي أدرى بما تفعله الحرب.
لم يكن أصحاب الإقطاعيات يميلون إلى فتح صفحة سياسية جديدة في لبنان لأنهم يدركون أن طي صفحة الماضي لا بد أن تتضمن خروجهم من المشهد بشكل نهائي.
وإذا ما عدنا إلى ماضي العلاقة بين معظم أولئك الإقطاعيين الذين هم ورثة العمل الطائفي في السياسة لا بد أن تحضر صورهم وهم يحجّون إلى الضاحية لملاقاة زعيم حزب الله الراحل أو الجلوس في الصفوف الأولى أمام الشاشة الكبيرة التي يلقي من خلالها خطاباته التي كان أحيانا يسخر من خلالها منهم.
بطريقة أو بأخرى أسهمت تلك الطبقة في وضع لبنان تحت حزب الله. وفي المقابل فإن حسن نصرالله كان لا يتأخر عن تقديم الحماية لهم وهم يعيثون بالاقتصاد اللبناني فسادا. كان هناك نوع من تبادل المنفعة ذهب لبنان بشعبه ضحية له. حتى المحكمة الدولية التي أصدرت أحكامها في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري كانت عاجزة عن اختراق السياج الحكومي الذي التف حول حزب الله.
على مدار سنتين ظل لبنان عاجزا عن اختيار الرجل الذي يدير البلاد من قصر بعبدا كرئيس للجمهورية وظل يُدار بطريقة عرجاء من قبل حكومة تصريف الأعمال. أما مجلس النواب فلم يكن سوى واجهة للأطراف المستفيدة من شلل الدولة ولم يكن الشعب ينتظر منه ما ينفع في حل أزماته التي صغرت فيها سرقة أموال المودعين في المصارف أمام الانفجار العظيم الذي تعرض له مرفأ بيروت وكان القضاء واضحا في توجيه الاتهام إلى حزب الله باعتباره صاحب المخازن التي انفجرت.
لقد تواطأت الطبقة السياسية مع حزب الله في كل جرائمه التي همّش من خلالها الدولة اللبنانية وكان مجلس النواب هو الأداة التي تم استعمالها لتأكيد ذلك التهميش.
بعد كل ما جرى لحزب الله عاد لبنان إلى الواجهة لكن ليس من خلال المنظار الفرنسي بل من خلال المنظار الأمريكي. ولأن أفراد الطبقة السياسية خبراء بالفرق بين المنظارين فقد سارعوا إلى مجلس النواب لانتخاب قائد الجيش السابق رئيسا للجمهورية. غير أن ذلك الإجراء على أهميته لا يشكل جوهر التحول الذي يحتاجه لبنان.
إن لبنان في حاجة إلى طبقة سياسية جديدة. طبقة تمثل حاضره. طبقة تنتصر لشعبه الذي ظل منبوذا ومقادا بطريقة ذليلة من قبل العوائل السياسية التي هي عبارة عن عائلات إقطاعية. تلك هي مهمة الشعب اللبناني في المرحلة القادمة.
لن يتغير لبنان ما لم يتغير مجلس النواب فيه، بدءا من رئيسه الذي هو من بقايا الحرب الأهلية إلى أصغر أفراده الذين يمثلون عوائلهم. ذلك يتطلب أن يتغير الشعب اللبناني ليكون مناسبا لبناء دولة حديثة، تستحق أن يثق العالم بها بعد ما شهدته من معاناة عبر الخمسين سنة الماضية.
ما يحتاج إليه لبنان يكمن في أن يكف اللبنانيون عن خدمة العوائل الإقطاعية التي استعبدتهم من خلال الوهم السياسي. لبنان المعاصر هو دولة تستحق أن تتنفس هواء العصر، لا من خلال كمالياته بل من خلال جوهره الحي الذي يضع العدالة الاجتماعية في مقدمة أهدافه.
{ كاتب عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك