في ظل التهديدات الأمنية الإقليمية الراهنة والتحولات العالمية تكتسب الحوارات بين الدول أهميتها بما تستهدفه من تسليط الضوء على ما تحقق من الشراكات بين الدول وأبرز التحديات التي تواجهها، من هنا تجيء أهمية الحوار الذي نظمه مركز أبحاث السياسات العامة بالهند بالتعاون مع وزارة الشؤون الخارجية الهندية في مدينة كوتشي بولاية كيرلا الهندية حوار كوتشي تحت شعار «سياسة الهند نحو الغرب: الشعب والرخاء والتقدم»، خلال يومي 16-17 يناير 2025 وشارك فيه كاتب هذه السطور، وضم نخبة متميزة من المسؤولين من الجانبين في مقدمتهم السيد جاسم محمد البديوي الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية وعدد من سفراء دول الخليج العربي في الهند، بالإضافة إلى مسؤولين من الجانب الهندي وعدد من الباحثين وسط حضور كبير من مختلف المؤسسات في الخليج والهند.
الحوار اكتسب أهميته من عدة نواحٍ منها أنه على الرغم من تعدد علاقات دول الخليج بالأطراف الآسيوية، فإن علاقات دول الخليج مع الهند لها خصوصية تاريخية من حيث التأثير والتأثر من خلال حركة التجارة عبر حقب زمنية مختلفة، فضلاً عن الأبعاد التنموية، فالعمالة الهندية تعد أكبر جالية أجنبية توجد في الخليج حيث تتجاوز 9 ملايين عامل في مختلف المهن منها الطب والتمريض والتكنولوجيا والبنوك والشركات الاستثمارية، بل إن هناك عوائل من الهند وخاصة المستثمرين قد انتقلوا للاستقرار في دول الخليج العربي، بالإضافة إلى معدل التبادل التجاري بين الهند والخليج الذي بلغ عام 2022 حوالي 174,2 مليار دولار بما يمثل حوالي 11,3% من إجمالي حجم التجارة لدول الخليج، كما أشار الأمين العام للمجلس في كلمته الافتتاحية، بالإضافة إلى التعاون في مجال الطاقة.
وعلى الرغم من تعدد شراكات دول الخليج العربي مع العديد من القوى الغربية والآسيوية، فإن بعضاً منها كان عبارة عن علاقات ثنائية والبعض الآخر من خلال مجلس التعاون كمنظمة إقليمية، والشراكة مع الهند تتخذ المسارين معاً، ولعل ما يلفت الانتباه المشاركة الرفيعة المستوى من جانب الأمين العام للمجلس الذي قدم كلمة توصف بأنها خارطة طريق لمستقبل الشراكة بين الجانبين والتي يتلخص مضمونها في تحديد مرتكزات العلاقات الخليجية – الهندية ثم واقع تلك العلاقات وصولا إلى تحديد الأولويات بالنسبة إلى المسار المستقبلي لتلك الشراكة، وفي تقديري أنها اتسمت بالصراحة والوضوح والأهم هو رغبة دول الخليج العربي في تطوير تلك الشراكة من خلال مجلس التعاون كمنظمة ارتكازاً على خطوات مهمة منها الاجتماع الوزاري الأول بين دول الخليج العربي والهند عام 2022 وتوقيع مذكرة تفاهم بين مجلس التعاون والهند تضمنت التعاون في العديد من المجالات، ثم الاتفاق على خطة عمل مشتركة بين الجانبين خلال الفترة 2024-2028، وهما إطاران مهمان لتلك الشراكة.
الحوار تضمن أيضاً مناقشات ثرية للغاية حول خمسة محاور أولاً: التجارة والاقتصاد والاستثمارات، ثانيا: الطاقة والابتكار، ثالثا: الرعاية الصحية والتعليم والتكنولوجيا، رابعا: الناس.. الرخاء.. التقدم، خامسا: الشراكة الاستراتيجية بين الهند والخليج في مجال الأمن البحري.
كانت هناك تفاصيل كثيرة خلال المناقشات في تلك المحاور التي اتسمت بالشفافية ويعد ذلك أمراً مهماً لأن الشراكة الحقيقية هي التي تبنى على التزام واضح من طرفيها وتتضمن أولويات الطرفين معاً والأهم مأسسة تلك الشراكة بحيث تكون ضمن أطر مستدامة سواء اتفاقيات أو مذكرات تفاهم وتحديد أهداف قصيرة المدى وأخرى بعيدة المدى يجب العمل عليها من الطرفين.
وبتحليل تلك المناقشات يمكن تحديد خمس ملاحظات أساسية أولها: على الرغم من أهمية التقدم الملحوظ في مجالات التجارة والاقتصاد والاستثمارات فإنه لا تزال هناك طموحات للجانبين منها توقيع المزيد من الاتفاقيات وخاصة في مجال الازدواج الضريبي لتشمل كافة دول الخليج العربي، بالإضافة إلى الإسراع بإقامة منطقة للتجارة الحرة بين الهند والخليج في ظل تعدد وتشابك المصالح الاقتصادية والتجارية، وثانيها: أن التعاون في مجال الطاقة والابتكار يجب أن يتجاوز مسألة الوقود الأحفوري في ظل توجه دول الخليج العربي نحو الطاقة النظيفة لتحقيق الحياد الصفري الكربوني وفق خطط محددة في هذا الشأن ويمكن الاستفادة من خبرات الهند في ذلك المجال ويرتبط ذلك بمفهوم أمن الطاقة بشكل عام وأولويات الجانبين، وثالثها: على الرغم من ثمار التعاون بين دول الخليج العربي والهند في مجالات الرعاية الصحية والتكنولوجيا والتعليم فقد أثيرت بعض التحديات التي تواجه تطور ذلك التعاون وتأكيد الجانبين عزمهما على إيجاد حلول فعالة لها بما يلبي احتياجات الطرفين، ورابعا: الأبعاد المجتمعية للشراكة بين الجانبين، فعلى الرغم من العدد الهائل للجالية الهندية في الخليج فإن الهند ليس لديها مؤسسات للقوة الناعمة ومنها مراكز لتعليم اللغة الهندية على سبيل المثال على غرار ما قامت به كل من الصين واليابان في دول الخليج العربي والهدف هو التعرف على المزيد من جوانب المجتمع الهندي عموماً، وخامسها: إثارة الجدل حول دور الهند في مجال الأمن البحري، فمع أن الحوار تضمن الكثير من المداخلات من الجانب الهندي حول جهود الهند في مجال الحفاظ على الأمن البحري ومنها مكافحة القرصنة في خليج عدن وكذلك تدريب القوات البحرية في مناطق مختلفة من العالم على حماية السواحل البحرية والتي بلغت 27 عملية خلال عام واحد، من بينها بعض تلك التدريبات مع دول الخليج العربي، وتطور صناعة السفن في الهند حيث يتم تصنيعها محلياً وجميعها مؤشرات يمكن لدول الخليج العربي الاستفادة منها فإن مداخلات باحثي دول الخليج العربي تركزت على رؤية شاملة للأمن البحري ومفادها ضرورة إسهام الهند في حل الصراعات الإقليمية التي هي سبب رئيسي لتهديدات الأمن البحري، بالإضافة إلى تهديد الميلشيات المسلحة للأمن البحري، والتساؤل الأساسي هو عن القيمة المضافة التي يمكن أن تقدمها الهند لدول الخليج العربي في مجال الأمن البحري في ظل طبيعة التحديات التي تواجه دول الخليج في هذا المجال منها بناء القدرات والتعامل مع الكوارث البحرية وتحقيق توازن القوى في القدرات البحرية مع الأطراف الإقليمية، ولا ينفي ذلك وجود مؤشرات مهمة حول دور الهند في المجالات الأمنية والدفاعية لدول الخليج عموماً ومنها توقيع مذكرة تفاهم للتعاون في مجال الدفاع مع دولة الكويت في ديسمبر 2024م خلال زيارة رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي للكويت، فضلاً عن الزيارات الدورية للسفن الهندية للموانئ الخليجية خلال العقد الأخير.
الحوار الأول بين دول الخليج والهند الذي ضم مسؤولين وباحثين كان فرصة مهمة لنقاشات موسعة اتسمت بالجدية بما يعكس حقيقة مفادها قناعة الطرفين بأن الشراكة بينهما هي هدف استراتيجي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك