يقدّم الفيلم الأيسلندي Touch (2024)، المرشح لجائزة الأوسكار في فئة أفضل فيلم دولي، رؤية سينمائية عميقة تسلط الضوء على الحب بوصفه قوة متجددة تتحدى قيود الزمن والمكان. الفيلم، المستوحى من رواية الكاتب أولافور يوهان أولافسون، يحكي قصة كريستوفر، الرجل الذي يحمل في قلبه حبًا ضائعًا منذ خمسين عامًا. بمهارة سينمائية رفيعة، يأخذنا المخرج غورون أولافسون في رحلة تستكشف التأثير الموجع للذاكرة والزمن على العلاقات الإنسانية، مسلطًا الضوء على الصراعات الداخلية التي يعيشها الأفراد في مواجهة الفقد والخسارة.
وعن القصة فهي نسيج معقد من الحب والذكريات تدور أحداثها حول كريستوفر، الذي يعود بعد عقود طويلة ليبحث عن حبه الأول الذي اختفى فجأة، في محاولة أخيرة لاستعادته قبل أن تنفد فرصه. يتنقل الفيلم بين أيسلندا، لندن، واليابان، عاكسًا رحلته الوجدانية الممتدة عبر القارات والعقود. الحبكة رغم بساطتها الظاهرية، تتشابك مع قضايا أكبر مثل الحرب وتأثيرها الأخلاقي في الأفراد، حيث تثير تساؤلات عميقة حول كيفية تعامل الإنسان مع الزمن والندوب التي يتركها الماضي في الروح.
قدم المخرج غورون أولافسون رؤية بصرية تتحدث بلغة الزمن، فقد أظهر براعة سينمائية ملحوظة في معالجة موضوعات معقدة عبر إيقاع بطيء لكنه مليء بالتأمل، واختياره لتداخل الأزمنة لم يكن عشوائيًا؛ إذ عكس مفهوم الذاكرة بوصفها تجربة حية تتشابك بين الماضي والحاضر. بفضل مونتاج متقن، بدت الانتقالات بين الأزمنة وكأنها تدفق طبيعي للذكريات، مما أسهم في تعزيز الشعور بالحميمية والانغماس في رحلة كريستوفر العاطفية.
أما التمثيل فقد تميز بقوة الأداء الفردية والجماعية، فقدّم إنغفار سيغوردسون (كريستوفر الكبير) أداءً استثنائيًا يتسم بالعمق العاطفي، حيث استطاع بأسلوبه الهادئ أن ينقل الألم من الخسارة إلى شجاعة التمسك بالأمل.
على الجانب الآخر، أضفى أريان سيغوردسون (كريستوفر الشاب) طاقة متدفقة وحضورًا كاريزميًا، مما جعل قصة الحب الأولى نابضة بالحياة، وتجلى ذلك بالطريقة التي يبتسم بها لفتاته، وعندما يتلعثم في حديثه معها، وفي حركاته المترددة المليئة بالبراءة، كما في مشاهد تفاعلهما البسيطة – مثل التنزه في شوارع لندن أو لحظات الرقص الهادئة – نرى كيف يُشع الحب في كريستوفر طاقة حية ومرحة، تقلب المزاج البصري والدرامي للفيلم، كل هذا جعل منه حاضرًا بشكل حيويّ وخفيف طوال الوقت.
وعن الأداء في الأدوار الثانوية، خاصة في مشاهد المطعم الياباني، فقد كانت مدروسة بدقة لتقديم شخصيات تشكل جزءًا من النسيج العاطفي للقصة، مما أضاف ثقلًا عاطفيًا جعل الشخصيات تتحدث بأكثر من مجرد الكلمات، كمشهد حديث السيدة اليابانية معه حول زوجها الراحل الذي فقدته بسبب الحرب، بهدوء تام ونبرة حزينة، تروي كيف أثر الفقد في حياتها وكيف عاشت «محاطة بذكريات لا تموت» هكذا وصفت حالها، هذا الحوار القوي الذي يتخلله صمت عاطفي مطبق، يضيف عمقًا للقصة الرئيسية حيث يربط فَقْد السيدة الفردي بفَقْد كريستوفر وندمه. وقد كان أداء الممثلة بسيطًا لكنه بالغ التأثير، وترك أثرًا عاطفيًا واضحًا كأنه انعكاس لصمت الحرب ومعاناة الأجيال.
التصوير السينمائي في العمل كان مرآة المشاعر والأماكن، حيث لعب دورًا محوريًا في تعزيز الطابع التأملي للفيلم. فالمشاهد اليابانية، بإضاءتها الدافئة وانعكاسات الضوء على الزجاج، نقلت أجواءً مليئة بالحياة والذكريات. على النقيض، جسدت المناظر الطبيعية الأيسلندية برودة العزلة، بينما أضفت ضبابية أمسيات لندن شعورًا بالتوهان والحنين. تناغم الألوان الباردة والدافئة كان أداة قوية لرسم التحولات النفسية للشخصيات، مما جعل كل مشهد يبدو كأنه لوحة فنية تنبض بالمشاعر.
وكانت الموسيقى صوت الذاكرة الصامتة طوال الوقت، فتميزت بحساسية استثنائية، حيث اعتمدت على مزيج من الصمت والإيقاعات الهادئة لتعكس العمق العاطفي للقصة. بينما في مشاهد معينة، مثل لقاء كريستوفر بحبه الأول بعد عقود، كان غياب الموسيقى تمامًا أداة درامية فعالة جعلت اللحظة أكثر قوة وواقعية.
«Touch»، يقدم تأملًا في الحب والزمن والحرب، ويطرح قضايا أكبر من قصة الحب الفردية. إذ عكست الأحداث بصمة الإجرام الأمريكي التي ترددت في ثنايا الفيلم بوصفها مأساة مستمرة عبر الزمان والمكان، وكان ذلك بمنزلة تذكير بالثمن الباهظ الذي دفعته البشرية نتيجة الوحشية الأمريكية التي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، وهو ما أضاف بُعدًا سياسيًا متشابكًا مع القصة الشخصية، في تجسيد تأثير الحرب في الأفراد والمجتمعات، وحوّل الماضي إلى صدى حاضر في كل لحظة. فبالإشارة إلى مأساة هيروشيما بوصفها جزءًا من النسيج السردي ربط بين المعاناة الفردية والألم الجماعي. وقدم تساؤلات عن تأثير الحرب في الأفراد والأجيال، إلا أنه في نفس الوقت طرح الحب كقوة تعيد للإنسانية قدرتها على التماسك رغم المآسي.
في النهاية، يدعو الفيلم إلى تقبل التغيرات بوصفها جزءًا من طبيعة الحياة، دون الخوف من فقدان الشغف أو المعنى.
ورغم عمق القصة وأداء الممثلين، إلّا أنّ العمل عانى من بطء زائد في بعض المشاهد، مما قد يُفقد السرد زخمه، وهذا ما تلمسه في مشهد تجول كريستوفر الكبير في مدينة لندن، بينما يسترجع ذكرياته بصمت تام المشهد يستمر لأكثر من دقيقتين وهو يسير ببطء بين الشوارع القديمة، مع تركيز الكاميرا على تعابير وجهه الشاردة. ومع ذلك فإنه من الممكن تفسير هذا البطء كعنصر يعزز التأمل، مما يمنح المشاهد فرصة لاستيعاب المشاعر والأفكار. هذا التوازن يجعله عملًا مميزًا يتجاوز قيود السينما التجارية ليقدم تجربة إنسانية أصيلة.
«Touch» ليس مجرد فيلم؛ إنه رحلة وجدانية تمتد بين الحميمي والعالمي، حيث يعيد صياغة مفاهيم الحب والذاكرة والزمن، بأسلوبه العاطفي والبصري المتقن، يترك الفيلم أثرًا لا يُنسى، ويدعو المشاهد إلى التأمل في علاقاته وذكرياته.
إنه تجربة إنسانية تتجاوز اللغات والثقافات لتلمسك في ذلك العمق الأبعد عن الجميع وعنك.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك