لسنا نريد أن ندخل في فلسفة العقل، وماهيته، وما إلى ذلك، ولكن حتى يمكن أن نتعرف على الموضوع الذي نرغب في التحدث فيه، نجد أنه من الضروري أن نعرف العقل، فقد ورد في المراجع أنه مجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن الوعي، المعرفة، التفكير، الحكم، اللغة والذاكرة. وهو غالبًا ما يعرف بملكة الشخص الفكرية والإدراكية. ويملك العقل القدرة على التخيل، التمييز، والتقدير، وهو مسؤول عن معالجة المشاعر والانفعالات، مؤديًا إلى مواقف وأفعال. وإن كان هنالك جدال في الفلسفة، الدين، والعلوم المعرفية حول ماهية العقل وصفاته المميزة، إلا أننا لا نريد الخوض فيه.
ونحن نعلم اليوم أن كل الكائنات الحية تمتلك ما يعرف بالدماغ، أو المخ، وهو الذي يتحكم في الأعضاء والعمليات الحيوية مثل المشي والجلوس والتذوق والشعور بالرائحة والحواس الخمس وما إلى ذلك، أما العقل فقد اختص به الإنسان، فالعقل هو من يقوم –مثلاً– بربط الأسباب بمسبباتها، وإدراك الغائب من الشاهد، والكليات من الجزئيات، والبديهيَّات من النظريات، والمصالح من المفاسد، والمنافع من المضار، والمُستحسَنِ من المُستقبَح، وإدراك المقاصد وحسنِ العواقب، بمعنى آخر التفكير والتخيل وحرية الاختيار والإبداع والابتكار وما إلى ذلك.
وفي غمرة هذا النقاش العلمي والجدل وتنمية مهارات العقل والتفكير، والتفكير الإبداعي والابتكار، برز مفهوم متطور وهو (العقلية المنتجة)، ثم تطور هذا المفهوم ليصبح (العقلية المنتجة المبتكرة)، لذلك ركز أصحاب هذا الاتجاه على ضرورة تنمية هذا المفهوم وعدد من الاستراتيجيات لتتوافق مع هذا العصر الذي نعيش. لذلك اخترعوا لهذا المفهوم تعريفًا، وهو:
هي العقلية التي تستفيد من إمكانياتها، ووقتها، وطاقتها، ومجهودها استفادة تامة، فهي تحاول ألا تستنزف طاقتها بكل شيء، أو أن تؤدي كل الأمور على عجالة دون إتقان، فهي تقوم بمهامها بمتعة وجودة، مستغلة أفضل قدراتها وفي أقل فترة زمنية ممكنة.
هذه العقلية، تتميز عن غيرها ببعض العناصر والسمات التي تساعدها على إنجاز مهامها وفق المنظور الذي عادة ما يكون أفضل من المتوقع، ومن تلك العناصر:
1. الرغبة والدافعية: الرغبة والدافعية هما عنصران أساسيان في تحفيز سلوك الفرد وتحقيق مهامه وأهدافه، فالرغبة؛ هي الشعور الداخلي بالحاجة أو الرغبة في شيء معين. وهي نقطة البداية التي تدفع الإنسان إلى السعي نحو تحقيق شيء معين، أما الدافعية فهي القوة الداخلية التي تدفع الإنسان إلى اتخاذ إجراءات لتحقيق رغباته وأهدافه. وتشمل عوامل متعددة مثل الحوافز الداخلية؛ كالشعور بالإنجاز والتقدير الذاتي، والحوافز الخارجية؛ مثل المكافآت والاعتراف من الآخرين، وكذلك فإن الدافعية تحدد مدى الجهد والاستمرار الذي يبذله الشخص لتحقيق أهدافه.
وببساطة، فإنه من غير الرغبة والدافعية لن يكون هناك ما يدفعنا نحو التقدم أو التحسين، وبالمقابل فإن التقاعس والذي هو عكس الرغبة سيسهم في تدمير تقدمنا.
2. الإصرار: معظم الأمور لا تأتي بسهولة، لذلك يجب أن يكون المرء قادرًا على مواجهة العقبات والمحن وتجاوزها، لذلك على المرء أن يتحدى نفسه، وأن يصر على بلوغ الأهداف، وهنا يأتي مصطلح الإصرار والذي يعني القوة الداخلية التي تدفع الشخص للاستمرار في مواجهة التحديات والعقبات دون الاستسلام. فالإنسان يجب أن يكون ثابتًا على هدفه، ولكنه يمتاز بكثير من المرونة لتحقيق ذلك الهدف، وعليه في الأول والأخير أن يثابر ويتحمل الفشل والإحباط دون فقدان الحماس والدافع لتحقيق الهدف، وبمعنى آخر إن الإصرار يتطلب مزيجًا من الصبر، والعزيمة، والتفاؤل، والإيمان بالقدرة على التغلب على التحديات. إنه يعكس قوة الشخصية والإرادة لتحقيق النجاح مهما كانت الصعوبات.
3. التفكير النقدي: يعرف التفكير الناقد أنه امتلاك القدرة على تقييم موقف ما بطريقة موضوعية أو رؤيته على حقيقته، وهي كذلك عملية ذهنية تهدف إلى تحليل المعلومات وتقييمها بموضوعية، للوصول إلى استنتاجات مدروسة ومعقولة. يتطلب التفكير الناقد الشك البنّاء والتفكير المتأني والقدرة على طرح الأسئلة المناسبة، إنه مهارة مهمة تساعد الأفراد في اتخاذ قرارات أفضل وفهم العالم من حولهم بطريقة أكثر عمقًا.
4. الاستبصار: وهي الرؤية الثاقبة التي تساعد على معرفة ما يريد المرء، وهذه الرؤية ستمنحه القدرة على التركيز، وذلك ليس عن طريق التخمين والتنبؤ وإنما يتعلق الأمر بفهم عميق ورؤية داخلية للأمور والمشكلات ومحاولة رؤية الجوانب الخفية والأبعاد العميقة للمواقف والمشكلات، ويساعده في ذلك الوعي الداخلي والقدرة على إدراك المشاعر والأفكار الداخلية وفهم تأثيرها في السلوكيات والقرارات، بالإضافة إلى التعلم من التجارب والقدرة على استخلاص الدروس والعبر من التجارب السابقة وتطبيقها في المستقبل، لذلك فإن الاستبصار تزيد من الكفاءة في حل المشكلات واتخاذ القرارات، إنه يعكس نضج الشخص وقدرته على التعامل مع الحياة بوعي وإدراك أكبر.
5. العقلية المنفتحة: هو النهج الذي يتبناه الفرد عند التعامل مع الأفراد والمعلومات والأفكار والمواقف الجديدة بنهج متقبل وغير متحيز. فالعقلية المنفتحة تتسم بالقدرة على قبول الأفكار والآراء المختلفة دون إصدار أحكام سريعة، وكذلك الرغبة في استكشاف المفاهيم والتجارب الجديدة والتعلم منها، والقدرة على تعديل الأفكار والمعتقدات بناءً على معلومات جديدة أو تجارب مختلفة، بالإضافة إلى الاستعداد لتجربة أساليب جديدة والتكيف مع التغيرات في البيئة المحيطة. وبناء على ذلك فإن العقلية المنفتحة تتيح للفرد فرصة اكتساب مهارات جديدة، وتوسيع مدارك المعرفة، وتعزيز العلاقات الإنسانية من خلال التفاهم والاحترام المتبادل، إنها تعكس توجهًا إيجابيًا مبنيًا على التعلم المستمر والنمو الشخصي، وابتكار أفكار جديدة.
6. التوازن: قطعًا لكي يؤدي المرء مهامه في الحياة على أكمل صورة، فإن عليه أن يركز على مبدأ التوزان، فهي حالة من الاستقرار والتناغم بين مختلف جوانب الحياة، سواء كانت جسدية، أو نفسية، أو اجتماعية أو مهنية. التوازن يتضمن تحقيق التوازن بين العمل، والراحة، والأنشطة الترفيهية، بما يضمن الحفاظ على الصحة النفسية والجسدية، وكذلك يتعلق بإيجاد الوقت الكافي للعائلة والأصدقاء، بالإضافة إلى الحفاظ على علاقات اجتماعية صحية، وإن كنا نتحدث عن التوازن المهني فإنه يتضمن إدارة الوقت بين العمل والمسؤوليات الأخرى بطريقة تحقق الإنتاجية وتجنب الإرهاق، والعديد من الأمور الأخرى التي تسهم في تجديد النشاط والحيوية بين فترة وأخرى، وتحسين جودة الحياة والرفاهية العامة، ويقلل من التوتر والإجهاد، ويسهم في الشعور بالرضا والسعادة.
7. الثقة بالنفس والذات: الثقة بالنفس والذات تعني أنك مؤمن أنك قادر، وأنك تستطيع فعل ما تريد، فهي الاعتقاد والإيمان بقدرات الذات وقيمتها. وتشمل الثقة بالنفس عدة جوانب، منها؛ الاعتزاز بالنفس، والشعور بالفخر بما يحققه الإنسان وما هو عليه، التفاؤل والنظرة الإيجابية للمستقبل والإيمان بقدرته على تحقيق الأهداف باستقلالية، والتي تعني القدرة على اتخاذ قراراتك بنفسك دون الاعتماد المفرط على الآخرين، والقدرة على التعبير عن الأفكار والمشاعر بوضوح وثقة. وهذه الثقة تعزز من قدرة الإنسان على التعامل مع المواقف الصعبة واتخاذ القرارات الجريئة، كما أنها تسهم في تحسين العلاقات الاجتماعية والمهنية، وهذا يعني أنها تعكس الإيمان الداخلي بقيمة الذات وقدراتها.
8. التصرف بإيجابية: التصرف بإيجابية يمكن أن يحسن من جودة الحياة ويعزز العلاقات ويسهم في تحقيق النجاح والسعادة، وذلك عن طريق التعامل مع المواقف والأشخاص بنظرة تفاؤلية وإيجابية، مع التركيز على الحلول والفرص بدلاً من المشاكل والعقبات. والإيجابية تعني التفاؤل والنظر إلى الجانب المشرق في كل موقف والاعتقاد أن الأمور ستتحسن، والشكر والامتنان وتقدير النعم والأشياء الجيدة في الحياة، والتفاعل بشكل بناء مع الآخرين وتقديم الدعم والتشجيع، والبحث عن الحلول والفرص في المواقف الصعبة بدلاً من التركيز على السلبيات، وكذلك تجاوز الأخطاء والمشاكل مع الآخرين والنظر إلى الجوانب الإيجابية فيهم.
9. الفضول: وهو الرغبة الطبيعية والحماس الذي يأخذنا إلى أبعد لاستكشاف المجهول والتعلم عن العالم من حولنا. فهو يدفعنا نحو البحث والتساؤل واستكشاف الأفكار والمفاهيم الجديدة، وكذلك يتيح لنا فرص التعلم من خلال البحث عن المعرفة، وذلك لأن الفضول يحفز الأفراد على طرح الأسئلة والسعي إلى الحصول على إجابات، وبالتالي يدفع الأفراد إلى تجربة أشياء جديدة واكتشاف جوانب غير مألوفة من الحياة، وربما هنا يأتي موضوع التفكير الناقد الذي يعزز القدرة على تحليل المعلومات بشكل أعمق، من خلال التفكير خارج الصندوق وإيجاد حلول مبتكرة للمشكلات. فالفضول يعد من المحركات الأساسية للتقدم العلمي والتطور البشري، فهو يشجع على الاستكشاف والاكتشاف والابتكار.
أصحاب هذه العقول موجودون في كل مكان، وفي الأعمال وكذلك في المنازل والمدارس وفي الطرقات، والكثير منهم لم يتم الاستفادة منه، لأنه – ربما – يتعب المسؤول الإداري، أو حتى الآباء والمعلمين، لذلك فإننا عندما طرحنا هذا الموضوع فإننا نجد أنه ينبغي المحافظة على أصحاب العقول المبتكرة المنتجة، إذ تتطلب بيئة الأعمال أو البيئة المدرسية تشجيع هذه النوعية من الإبداع والابتكار وإلا فإن التطور والتنمية ستتوقف ولا يمكن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وكذلك لا يمكن الاستمرارية في التعلم. وإن كنا نحاول أن نقدم بعض طرق المساعدة فإنه يمكن أن نقول إنه ينبغي أن:
{ نقدم فرص التعلم المستمر؛ وذلك بتوفير التدريب وورش العمل التي يمكن أن يبقي الأفكار المبتكرة تتدفق.
{ تشجيع على التفكير خارج الصندوق؛ والدعوة إلى الإبداع وحل المشكلات بطرق جديدة وغير تقليدية.
{ تقدير النجاحات؛ والاعتراف بالابتكارات والتحفيز بالتقدير والمكافآت.
{ إيجاد بيئة عمل مرنة؛ والسماح للعمل من أماكن مختلفة وأوقات مرنة يمكن أن يعزز الإبداع.
{ التواصل المفتوح؛ من أجل دعم ثقافة التواصل المفتوح والمشاركة بالأفكار بحرية.
بالإضافة إلى ذلك كله، الاهتمام بالصحة العقلية والجسدية للإنسان، فذلك يعد جزءا أساسيا من المحافظة على الإبداع.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك