يُعدّ الدكتور محمد جابر الأنصاري واحداً من أهمّ المفكرين العرب في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ومطلع هذا القرن، سواء في المشرق أو المغرب، ممن اعتنوا بمناقشة وتحليل بنى الثقافة العربية – الإسلامية، وتأثيرها في حاضرنا المعقد، ونجد أنّه من المناسب أن نُصنف الأنصاري بأنّه خلدوني الهوى، هو الذي خصص أحد مؤلفاته عنه، وفي هذا المؤلف يقف الأنصاري على مفارقةٍ مهمة في سيرة ابن خلدون، فهو رغم بروزه كعالم اجتماع، كان أيضاً فقيهاً، حتى أنّه أصبح قاضي القضاة في مصر التي أقام فيها الجزء الأخير من حياته وفيها توفي، ولعل ميله الفقهي كان وراء موقفه المعلن من الفلسفة، حيث كتب عن «إبطال الفلسفة وفساد منتحليها»، لكنّ الأنصاري محقّ تماماً في قوله إن ابن خلدون، رغم ذلك، وفي ضوء فلسفته الاجتماعية والتاريخية، يعتبر في مقدّمة الروّاد «الذين أنزلوا الفلسفة من السماء إلى الأرض، من أجل فهم العالم، فقد أبطل فلسفة الميتافيزيقيا لتحلّ محلها فلسفة الفيزيقيا المجتمعية التي يمكن لعقل الإنسان أن يتعامل معها».
حضر ابن خلدون في الكثير من مؤلفات الدكتور الأنصاري، بينها الكتاب الذي خصصه لابن خلدون ولنتأمل جيداً في مفردات عنوان الكتاب: لقاء التاريخ بالعصر، الخلدونية بأبعادها المعاصرة، بذرها في وعي الشعب، تأسيس ثقافة العقل.
ويلفتنا الأنصاري إلى أنّه ليس صدفة أنّ ابن خلدون عندما شرح علمه الجديد في العمران البشري والاجتماع الإنساني حرص على التنبيه “أنّه ليس من علم الخطابة” لعلمه بغلبة هذا الجانب البلاغي في التكوين العربي على الجانب العقلي. هكذا فوعي التاريخ علميّاً، مقدمة لفهم العالم المعاصر موضوعياً ولا يمكن لأية سياسة أو حركة أو أمة تعيش أوهاماً أو رومانسيات منسوبة للتاريخ، أن تواجه العالم وتتمكن من تغييره لصالحها، فهما - التاريخ والعالم - وجهان لحقيقة واحدة.
وبالمقارنة يلاحظ الأنصاري أنّ بدايات النهضة العربية الأولى مطلع العصر الحديث كانت نهضة إحياء أدبي بالدرجة الأولى ولم تنشغل أساساً بالفكر الاجتماعي أو التاريخي المنهجي، وإذا كان بعض رجال النهضة كالإمام محمد عبده قد اهتم بمقدّمة ابن خلدون فقد كان اهتماماً نخبوياً أو فردياً محدودا، أما الثقافة «النهضوية» العامة فقد اتجهت إلى الإحياء الشعري متمثلاً في الشعر العباسي وما قبله، وكان ابن خلدون أبرز النماذج التي جرى تجاهلها، إلى جانب سلسلة غنية من النماذج نظير مؤلفات الجاحظ والكندي والفارابي وابن سينا وأبي حيان التوحيدي وابن طفيل في «حي بن يقظان» وابن حزم في «طوق الحمامة». مثل هذا التراث العقلي النثري ظلّ مهملاً في تدريس اللغة العربية بالمدارس لاحتوائه على مضامين عقلية تخشاها الثقافة التقليدية البلاغية الإنشائية، وهو إهمال شمل العصر الحديث تعليميا وثقافيا.
وبتقدير الأنصاري فإنّ «الثقافة العربية حتى وقت قريب لم تلتفت إلى البعد المجتمعي الذي له أعمق الأثر في بلورة الأفكار والتكوينات الاجتماعية والسلوكيات السياسية، ويعطي مثلاً على ذلك أنّه عندما درس طه حسين ابن خلدون، أخذ عليه التفاته إلى الحالات الاجتماعية الخاصة في الأوضاع العربية وعدم وقوفه عند العموميات المطلقة التي تصحّ على المجتمعات في كل زمان ومكان، ما حمل الأنصاري على القول إنّ «ثقافتنا كانت ثقافة (العام) دون (الخاص) حتى لدى ابرز أعلامها»، متسائلاً: كيف سيكون التفاعل بين مفهوم كوني في منتهى العمومية وأوضاع في القاع المجتمعي في منتهى «الخصوصية»، وبينهما عصور وعصور ليس من الزمن فحسب وإنّما من التطور الحقيقي في الواقع البشري المعاش الذي تجاوز التنظير والتجريد الفكري».
الفكرة هنا أنّ العام، إذا كان على شكل نظرية ومفاهيم، على أهمية ذلك، غير كاف لفهم خصوصيات أي واقع ملموس، وخاصة إذا كان كواقعنا العربي المعقد والشائك، لا في حاضره فقط، وإنما في ملابسات تطوّره التاريخي، ويستشهد الأنصاري بمقولتين لابن خلدون جديرتين بالوقوف عندهما، الأولى قوله «إنّ الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة» وهو ملحظ يحتمل، بتقدير الأنصاري، «مجلدات في إشكالات الدولة العربية الحديثة والمعاصرة، وتكفي للفت الأنظار إليه ما تحمله أنباء النزاعات الداخلية العربية». أمّا المقولة الخلدونية الثانية التي استوقفت الأنصاري فهي تحذير ابن خلدون من «الترف المؤذن بخراب العمران»، وهو يحذّر من أنّ التحوّل من الشدّة إلى الترف المهلك يفقد الأمم فضيلة المدافعة والممانعة عن بقائها ووجودها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك