العدد : ١٧٠٩٥ - السبت ١١ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٩٥ - السبت ١١ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١١ رجب ١٤٤٦هـ

الثقافي

الأنصاري العائد لابن خلدون

{ بقلم د. حسن مدن.

السبت ١١ يناير ٢٠٢٥ - 02:00

يُعدّ‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬جابر‭ ‬الأنصاري‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أهمّ‭ ‬المفكرين‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬ومطلع‭ ‬هذا‭ ‬القرن،‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬المشرق‭ ‬أو‭ ‬المغرب،‭ ‬ممن‭ ‬اعتنوا‭ ‬بمناقشة‭ ‬وتحليل‭ ‬بنى‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬‭ ‬الإسلامية،‭ ‬وتأثيرها‭ ‬في‭ ‬حاضرنا‭ ‬المعقد،‭ ‬ونجد‭ ‬أنّه‭ ‬من‭ ‬المناسب‭ ‬أن‭ ‬نُصنف‭ ‬الأنصاري‭ ‬بأنّه‭ ‬خلدوني‭ ‬الهوى،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬خصص‭ ‬أحد‭ ‬مؤلفاته‭ ‬عنه،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬المؤلف‭ ‬يقف‭ ‬الأنصاري‭ ‬على‭ ‬مفارقةٍ‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬سيرة‭ ‬ابن‭ ‬خلدون،‭ ‬فهو‭ ‬رغم‭ ‬بروزه‭ ‬كعالم‭ ‬اجتماع،‭ ‬كان‭ ‬أيضاً‭ ‬فقيهاً،‭ ‬حتى‭ ‬أنّه‭ ‬أصبح‭ ‬قاضي‭ ‬القضاة‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬التي‭ ‬أقام‭ ‬فيها‭ ‬الجزء‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬وفيها‭ ‬توفي،‭ ‬ولعل‭ ‬ميله‭ ‬الفقهي‭ ‬كان‭ ‬وراء‭ ‬موقفه‭ ‬المعلن‭ ‬من‭ ‬الفلسفة،‭ ‬حيث‭ ‬كتب‭ ‬عن‭ ‬‮«‬إبطال‭ ‬الفلسفة‭ ‬وفساد‭ ‬منتحليها‮»‬،‭ ‬لكنّ‭ ‬الأنصاري‭ ‬محقّ‭ ‬تماماً‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬إن‭ ‬ابن‭ ‬خلدون،‭ ‬رغم‭ ‬ذلك،‭ ‬وفي‭ ‬ضوء‭ ‬فلسفته‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والتاريخية،‭ ‬يعتبر‭ ‬في‭ ‬مقدّمة‭ ‬الروّاد‭ ‬‮«‬الذين‭ ‬أنزلوا‭ ‬الفلسفة‭ ‬من‭ ‬السماء‭ ‬إلى‭ ‬الأرض،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فهم‭ ‬العالم،‭ ‬فقد‭ ‬أبطل‭ ‬فلسفة‭ ‬الميتافيزيقيا‭ ‬لتحلّ‭ ‬محلها‭ ‬فلسفة‭ ‬الفيزيقيا‭ ‬المجتمعية‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬لعقل‭ ‬الإنسان‭ ‬أن‭ ‬يتعامل‭ ‬معها‮»‬‭.‬

حضر‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬مؤلفات‭ ‬الدكتور‭ ‬الأنصاري،‭ ‬بينها‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬خصصه‭ ‬لابن‭ ‬خلدون‭ ‬ولنتأمل‭ ‬جيداً‭ ‬في‭ ‬مفردات‭ ‬عنوان‭ ‬الكتاب‭: ‬لقاء‭ ‬التاريخ‭ ‬بالعصر،‭ ‬الخلدونية‭ ‬بأبعادها‭ ‬المعاصرة،‭ ‬بذرها‭ ‬في‭ ‬وعي‭ ‬الشعب،‭ ‬تأسيس‭ ‬ثقافة‭ ‬العقل‭.‬

ويلفتنا‭ ‬الأنصاري‭ ‬إلى‭ ‬أنّه‭ ‬ليس‭ ‬صدفة‭ ‬أنّ‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬عندما‭ ‬شرح‭ ‬علمه‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬العمران‭ ‬البشري‭ ‬والاجتماع‭ ‬الإنساني‭ ‬حرص‭ ‬على‭ ‬التنبيه‭ ‬أنّه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬الخطابة‭ ‬لعلمه‭ ‬بغلبة‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬البلاغي‭ ‬في‭ ‬التكوين‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬العقلي‭. ‬هكذا‭ ‬فوعي‭ ‬التاريخ‭ ‬علميّاً،‭ ‬مقدمة‭ ‬لفهم‭ ‬العالم‭ ‬المعاصر‭ ‬موضوعياً‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬لأية‭ ‬سياسة‭ ‬أو‭ ‬حركة‭ ‬أو‭ ‬أمة‭ ‬تعيش‭ ‬أوهاماً‭ ‬أو‭ ‬رومانسيات‭ ‬منسوبة‭ ‬للتاريخ،‭ ‬أن‭ ‬تواجه‭ ‬العالم‭ ‬وتتمكن‭ ‬من‭ ‬تغييره‭ ‬لصالحها،‭ ‬فهما‭ - ‬التاريخ‭ ‬والعالم‭ - ‬وجهان‭ ‬لحقيقة‭ ‬واحدة‭. ‬

وبالمقارنة‭ ‬يلاحظ‭ ‬الأنصاري‭ ‬أنّ‭ ‬بدايات‭ ‬النهضة‭ ‬العربية‭ ‬الأولى‭ ‬مطلع‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬كانت‭ ‬نهضة‭ ‬إحياء‭ ‬أدبي‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬ولم‭ ‬تنشغل‭ ‬أساساً‭ ‬بالفكر‭ ‬الاجتماعي‭ ‬أو‭ ‬التاريخي‭ ‬المنهجي،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬رجال‭ ‬النهضة‭ ‬كالإمام‭ ‬محمد‭ ‬عبده‭ ‬قد‭ ‬اهتم‭ ‬بمقدّمة‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬اهتماماً‭ ‬نخبوياً‭ ‬أو‭ ‬فردياً‭ ‬محدودا،‭ ‬أما‭ ‬الثقافة‭ ‬‮«‬النهضوية‮»‬‭ ‬العامة‭ ‬فقد‭ ‬اتجهت‭ ‬إلى‭ ‬الإحياء‭ ‬الشعري‭ ‬متمثلاً‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬العباسي‭ ‬وما‭ ‬قبله،‭ ‬وكان‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬أبرز‭ ‬النماذج‭ ‬التي‭ ‬جرى‭ ‬تجاهلها،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬سلسلة‭ ‬غنية‭ ‬من‭ ‬النماذج‭ ‬نظير‭ ‬مؤلفات‭ ‬الجاحظ‭ ‬والكندي‭ ‬والفارابي‭ ‬وابن‭ ‬سينا‭ ‬وأبي‭ ‬حيان‭ ‬التوحيدي‭ ‬وابن‭ ‬طفيل‭ ‬في‭ ‬‮«‬حي‭ ‬بن‭ ‬يقظان‮»‬‭ ‬وابن‭ ‬حزم‭ ‬في‭ ‬‮«‬طوق‭ ‬الحمامة‮»‬‭. ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التراث‭ ‬العقلي‭ ‬النثري‭ ‬ظلّ‭ ‬مهملاً‭ ‬في‭ ‬تدريس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬بالمدارس‭ ‬لاحتوائه‭ ‬على‭ ‬مضامين‭ ‬عقلية‭ ‬تخشاها‭ ‬الثقافة‭ ‬التقليدية‭ ‬البلاغية‭ ‬الإنشائية،‭ ‬وهو‭ ‬إهمال‭ ‬شمل‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭ ‬تعليميا‭ ‬وثقافيا‭.‬

وبتقدير‭ ‬الأنصاري‭ ‬فإنّ‭ ‬‮«‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬حتى‭ ‬وقت‭ ‬قريب‭ ‬لم‭ ‬تلتفت‭ ‬إلى‭ ‬البعد‭ ‬المجتمعي‭ ‬الذي‭ ‬له‭ ‬أعمق‭ ‬الأثر‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬الأفكار‭ ‬والتكوينات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والسلوكيات‭ ‬السياسية،‭ ‬ويعطي‭ ‬مثلاً‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أنّه‭ ‬عندما‭ ‬درس‭ ‬طه‭ ‬حسين‭ ‬ابن‭ ‬خلدون،‭ ‬أخذ‭ ‬عليه‭ ‬التفاته‭ ‬إلى‭ ‬الحالات‭ ‬الاجتماعية‭ ‬الخاصة‭ ‬في‭ ‬الأوضاع‭ ‬العربية‭ ‬وعدم‭ ‬وقوفه‭ ‬عند‭ ‬العموميات‭ ‬المطلقة‭ ‬التي‭ ‬تصحّ‭ ‬على‭ ‬المجتمعات‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬ما‭ ‬حمل‭ ‬الأنصاري‭ ‬على‭ ‬القول‭ ‬إنّ‭ ‬‮«‬ثقافتنا‭ ‬كانت‭ ‬ثقافة‭ (‬العام‭) ‬دون‭ (‬الخاص‭) ‬حتى‭ ‬لدى‭ ‬ابرز‭ ‬أعلامها‮»‬،‭ ‬متسائلاً‭: ‬كيف‭ ‬سيكون‭ ‬التفاعل‭ ‬بين‭ ‬مفهوم‭ ‬كوني‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬العمومية‭ ‬وأوضاع‭ ‬في‭ ‬القاع‭ ‬المجتمعي‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬‮«‬الخصوصية‮»‬،‭ ‬وبينهما‭ ‬عصور‭ ‬وعصور‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬فحسب‭ ‬وإنّما‭ ‬من‭ ‬التطور‭ ‬الحقيقي‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬البشري‭ ‬المعاش‭ ‬الذي‭ ‬تجاوز‭ ‬التنظير‭ ‬والتجريد‭ ‬الفكري‮»‬‭. ‬

الفكرة‭ ‬هنا‭ ‬أنّ‭ ‬العام،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬نظرية‭ ‬ومفاهيم،‭ ‬على‭ ‬أهمية‭ ‬ذلك،‭ ‬غير‭ ‬كاف‭ ‬لفهم‭ ‬خصوصيات‭ ‬أي‭ ‬واقع‭ ‬ملموس،‭ ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬كواقعنا‭ ‬العربي‭ ‬المعقد‭ ‬والشائك،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬حاضره‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬ملابسات‭ ‬تطوّره‭ ‬التاريخي،‭ ‬ويستشهد‭ ‬الأنصاري‭ ‬بمقولتين‭ ‬لابن‭ ‬خلدون‭ ‬جديرتين‭ ‬بالوقوف‭ ‬عندهما،‭ ‬الأولى‭ ‬قوله‭ ‬‮«‬إنّ‭ ‬الأوطان‭ ‬الكثيرة‭ ‬القبائل‭ ‬والعصائب‭ ‬قلّ‭ ‬أن‭ ‬تستحكم‭ ‬فيها‭ ‬دولة‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬ملحظ‭ ‬يحتمل،‭ ‬بتقدير‭ ‬الأنصاري،‭ ‬‮«‬مجلدات‭ ‬في‭ ‬إشكالات‭ ‬الدولة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬والمعاصرة،‭ ‬وتكفي‭ ‬للفت‭ ‬الأنظار‭ ‬إليه‭ ‬ما‭ ‬تحمله‭ ‬أنباء‭ ‬النزاعات‭ ‬الداخلية‭ ‬العربية‮»‬‭. ‬أمّا‭ ‬المقولة‭ ‬الخلدونية‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬استوقفت‭ ‬الأنصاري‭ ‬فهي‭ ‬تحذير‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭ ‬من‭ ‬‮«‬الترف‭ ‬المؤذن‭ ‬بخراب‭ ‬العمران‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬يحذّر‭ ‬من‭ ‬أنّ‭ ‬التحوّل‭ ‬من‭ ‬الشدّة‭ ‬إلى‭ ‬الترف‭ ‬المهلك‭ ‬يفقد‭ ‬الأمم‭ ‬فضيلة‭ ‬المدافعة‭ ‬والممانعة‭ ‬عن‭ ‬بقائها‭ ‬ووجودها‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا