على خشبة الصالة الثقافية، عادت العصافير إلى أعشاشها، كل منها في حضن أمه، يتسامرون حتى يغلب النعاس مقلهم الصغيرة، مملوءة أفئدتهم بالدفء والحنان، وبين الحين والأخرى، ينتابهم الذعر، وتتوسط الهواجس القلوب، وعند اعتلاء الأصوات، تحلق غربان المدينة، فيشكون انطفاء الأنوار، يحتضنون بعضهم البعض، خوفاً من ظلمة الليل، وتداخلهم مشاهد ثكلى خلفتها غارة الشؤم، ليلتفوا حول جسد مكلوم، مثقل بالأسى، ينتظر فجر يومهم، وفي جانبه الآخر بصيص الأمل الذي لا يلين!
هكذا عبر العرض المسرحي لمسرحية «لنشرب القهوة» لمسرح الريف في اليوم الافتتاحي لملتقى الريف المسرحي الأول في الثاني من يناير 2025، حيث احتضن العرض بعض اللوحات التعبيرية لمعاناة الشعوب العربية، من حروب تشعل فتيل الفقد، ومن أبواق صادحة بالباطل، ومن تأوهات لا تخفى على الشارع العربي، الذي ظل متشبثاً بطرف حبل نجاة الغريق.
هذا العرض المسرحي الذي احتضن كوكبة من الشباب الذين لا تتجاوز تجربتهم حدود مسرح الريف، والثلة الأخرى هذا العرض، بينما كانت إبداعاتهم فضاء يبنى عليه مستقبل مشرق، فيما توسط الفنان علي بدر بخبرته السابقة قيادة دفة السفينة مبحراً بها نحو ميناء الصورة الفنية المبدعة.
تلك المشاهد الرمزية التي تجلى النص ووظفها الفنانون لتسليط الضوء على قضايا مهمة ما زال صداها مدوياً في وسائل الإعلام العربية، فالحركات التعبيرية لأجساد الفنانين الناقلة لرمزية الحرب ومقتضياتها، فتحت باباً آخر من الآلام غير الموصدة، وجرحاً لم يبرأ، فحيثيات الفقد التي تملأ الجرائد، ومعاناة الأم والطفل، وما تخلفه الحرب من أمور مادية، خلدت سطراً تضامنياً يضاف إلى نخبة السطور الأخرى للمسرحيات التي تتبنى قضايا الشعوب العربية في المسرح البحريني.
فعندما نتمعن بالمسرحية بشكل أكبر، نرى أن للكوميديا السوداء المندمجة بعبق الفن الأصيل الذي قدمه هؤلاء الشبان كانت أكثر من كوميديا عابرة، لتمسكها بخيط نسيج حبكة العرض، ليكسيه ثوباً مرقعاً بالمآسي، أما السينوغرافيا، فكان من المفترض أن تكون أفضل تطبيقاً مما رأيناه، سواء كان من إضاءة أو صوت أو ديكور، فعند النظر إلى الديكور نرى أنه متواضع جداً مقارنة بالمسرحيات الأخرى المعروضة في الفترة الأخير، وبالأحرى لمن حضر عرض مسرحية «ياسمينة» في مهرجان البحرين المسرحي الثالث، التي كانت لمسرح الريف أيضاً، فسيرى أن هناك تشابهاً كبيراً بين العرضين من ناحية الديكور، فالستار هو ذاته في العرضين، والسرير ذاته أيضاً، فالوافد الجديد فقط في مجموعة الأدوات تلك هو الكراسي والطاولات، فلم يكن هناك إبداعاً من تلك الناحية، أما الصوت، فقد افتقرت المسرحية في كثير من المشاهد إلى الموسيقى، حيث كانت المشاهد الموسيقية مجرد موسيقى تصويرية لم تساعد في إيصال الأحاسيس والمشاعر بصورة أعمق للجمهور، ولم نشاهد تلك الموسيقى التصويرية التي تحمل الصورة التي تجلت في المعاناة للأسف إلى في أربع مشاهد فقط، افتتاحية المسرحية، ومشهد التمثيل والرقص، ومشهد الدمى، والمشهد الختامي للعرض، ومن ناحية الإضاءة، فلم يكن لها من التنويع والإبداع نصيب، فأخذت المسرحية في غالبها طابعاً واحداً فقط وهو الإضاءة الكاملة للمسرح، بالإضافة إلى إضاءة دائرية في المنتصف، وإضاءة من الجهة اليمنى للمسرح موجهة للمنتصف، وفي خضم ذلك، تضمن العرض إضاءة بنفسجية لم يكن لها محل من العرض، بل كانت مشوشة ومزعجة للمشاهد.
ومن الناحية الإخراجية، فتم الإسهاب كثيراً في موضوع القهوة، حيث إن من المفترض أن تكون القهوة رمزية لأحداث معينة، ولكنها برزت في بعض المشاهد بصورة غير مهمة، ولا تخدم العرض، بل كانت زيادة عدد على مشاهد المسرحية.
وأعرب مخرج المسرحية الفنان الشاب علي محسن حول شعوره تجاه بعض الانتقادات الموجهة قائلاً: «إنني أعتبر هذا العرض أول تجربة فعلية بالنسبة لي في الإخراج المسرحي، حيث كانت تجربتي الأولى قصيرة، عبارة عن مقطع قصير جداً تمتد إلى أقل من 20 دقيقة، وفي عملي هذا، واجهت فيه صعوبات كثيرة، أهمها ضيق الوقت في إيجاد ممثلين، وذلك يعود إلى الجدول المزدحم بالفعاليات في الفترة الأخيرة، وأن بعض الممثلين قد عملوا معنا في فترة وجيزة جداً، وأشكرهم على تضحياتهم العائلية والشخصية من أجل إنجاح العمل، حيث كانت «بروفاتنا» قليلة جداً، وقد عملنا أربع ساعات في كل «بروفة» للتجهز للعرض، وبالنسبة إلى الانتقادات الموجهة للديكور وتشابهه مع ديكور مسرحية «ياسمينة» فهذا أمران ملتقيان ومتضادان في الوقت نفسه، فهو الديكور ذاته ولكنه يرمز لأشياء مختلفة عما كان يرمز لها في مسرحية «ياسمينة».
وأضاف علي: أنني حريص في كل تجربة أعمل بها أن يكون معي طاقم شبابي جديد، وأصررت أن تكون الشخصيتان الجدد معنا (ريم الرويعي، غيداء عبد العزيز)، أن يكونوا ضمن هذا العمل، وأن تكون لهم فرصة للظهور، وأشيد بأداء الفنانة ريم الرويعي، حيث إنها من أول لقاء جمعنا وأعطيتها خلاله النص قد أبهرتني بدخولها وتقمصها السريع للشخصية، بتفاصيلها وأبعادها، جميل ورائع جداً، ولا يستثنى من ذلك المدح الفنانة غيداء عبد العزيز، حيث إنها فنانة متميزة وقادمة بقوة، حيث إننا عملنا معها في أقل من 10 «بروفات»، وذلك يعود لانضمامها للعمل في وقت متأخر، إلا إنها كانت تحاول جادة أن تخرج كل إمكانياتها من أجل العرض.
الجدير بالذكر، أن مسرحية «لنشرب القهوة» تأتي على هامش ملتقى الريف المسرحي الأول، والذي من المفترض أن يكون مؤرخاً من الثاني إلى الخامس من شهر يناير 2025، ولكن للظروف الحالية ووصول منتخبنا الوطني لنهائي بطولة كأس الخليج، فقد تم تأجيل العروض المتبقية في الملتقى إلى إشعار آخر.
وكان العرض من تأليف الكاتب فيصل العبيد، وإخراج علي محسن، ومساعد مخرج فراس حميد، وإدارة إنتاج مهند عبد الحسن، وديكور وأزياء سلمان باسل، وتصميم وتنفيذ وإضاءة علي حسن، وتمثيل كل من: علي بدر، محمد البيراوي، محمود الشيخ، محمود عبدالحسن، ريم الرويعي، غيداء عبدالعزيز.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك