وسط ضجيج الحياة اليومية، نجد أنفسنا في سباق دائم، نطارد أحلاما لا تنتهي ونحاول جاهدين تحقيق التوازن بين العمل والعلاقات والذات. ولكن، ماذا يحدث عندما يتعب العقل من كل هذا الصخب؟ حين تتحول تلك الشرارة التي كانت تضيء حياتنا إلى نور خافت بالكاد يرى، ويبدو العالم من حولنا كأنه فقد ألوانه الطبيعية.
أمثلة هذه المعاناة تحيط بنا يوميا. نرى، أما مثقلة بالأعباء، تكافح لتبدو متماسكة رغم شعورها الداخلي بالإنهاك. موظفا ناجحا، لكنه بات يؤدي مهامه بلا شغف أو دافع. شابا يتجنب لقاء الأصدقاء تدريجيا من دون تفسير واضح. طالبة مثالية تخفي قلقا عميقا من الفشل الذي يلتهم ثقتها بنفسها. هؤلاء وغيرهم كثيرون، قد يكونون جزءًا من قصص نعيشها أو نراها دون أن ندرك عمق الألم الذي يعانونه.
الصحة النفسية ليست حالة منفصلة عن حياتنا اليومية، بل هي تنبع من تفاعل معقد بين الجسد والعقل والعوامل المحيطة بنا. لا يمكن حصرها في تعريف واحد بسيط، كونها تتأثر بجوانب شتى متشابكة تسهم في تشكيل استقرارنا النفسي.
في بعض الحالات، قد تلعب العوامل الوراثية دورًا في زيادة احتمالية الإصابة باضطرابات نفسية معينة، لكنها لا تعمل بمعزل عن باقي المؤثرات. فالبيئة التي نعيش فيها، والتجارب التي نخوضها، وحتى الضغوط اليومية البسيطة، يمكن أن تشكل تأثيرا كبيرا على استقرارنا النفسي. هذا الفهم المتقدم لتشابك العوامل يساعدنا على إدراك أن الاضطرابات النفسية، كالاكتئاب أو القلق، ليست لحظات عابرة من الضعف أو الاستسلام. بل إنها تعكس حاجة حقيقية للفهم والدعم، وهي جزء من واقع يمكن تجاوزه بالوعي الصحيح والعناية المناسبة.
كما نسارع لعلاج الأوجاع الجسدية، لا بد أن نتعامل مع الأوجاع النفسية بنفس الجدية. العقل ليس آلة تعمل بلا توقف، بل هو كيان حي يحتاج إلى اهتمام ورعاية. يقول عالم النفس سيجموند فرويد: «العقل له حد ومقدرة على تحمل الصدمات، فإذا زاد الحد تحطمت هذه المقدرة». إهمال هذه الحقيقة لا يؤثر في الفرد فحسب، بل يمتد ليشمل مجتمعات بأكملها.
في بيئات العمل المزدحمة، تظهر الصحة النفسية كعامل أساسي غالبا ما يتم تجاهلها. فبيئة العمل المثالية ليست تلك التي تقدم الحوافز المادية فقط، بل هي التي تفهم أن الإنتاجية تبدأ من عقل مطمئن ومستقر. عندما يشعر الموظف بالأمان النفسي، ينعكس ذلك على جودة أدائه، والعكس صحيح. الدراسات تشير إلى أن أماكن العمل غير الداعمة للصحة النفسية تؤدي إلى فقدان آلاف الساعات من الإنتاجية سنويا، مما يبرز أهمية توفير بيئة تحترم حاجات الأفراد النفسية.
لقد فتحت التكنولوجيا العالم أمامنا، لكنها في الوقت نفسه أغلقت كثيرين منا داخل أنفسهم. حين تصبح شاشات الهاتف نافذتنا الوحيدة إلى الحياة، تتعمق مشكلات الوحدة والعزلة. الشباب اليوم يقضون ساعات طويلة يطاردون الكمال في صور مثالية لحياة الآخرين، مما يؤدي إلى شعور بالقصور والخيبة. في السعي وراء الكمال في عالم غير مثالي قد يكون السبب الأول للشعور بالإخفاق. ربما يكمن الحل في إعادة التفكير في علاقتنا بالتكنولوجيا، واستعمالها كأداة تعزز تواصلنا الحقيقي بدلا من أن تعمق عزلتنا.
وفقا لمنظمة الصحة العالمية، الصحة النفسية هي أكثر من كونها تعبر عن غياب المرض؛ بل تتسع لتشمل القدرة على التكيف مع تحديات الحياة اليومية وإقامة علاقات صحية مع الآخرين.
وهذا يتجلى بشكل متزايد في مجتمعنا البحريني، حيث نشهد بفضل الله تطورًا إيجابيا في إدراك أهمية الصحة النفسية، مدعوما بتوفير خدمات صحية متقدمة. هذا التطور لم يسهم فقط في تغيير النظرة المجتمعية تجاه العلاج النفسي، بل جعل الوصول إلى الدعم أكثر سهولة ومرونة. الدول الرائدة تدرك اليوم أن بناء جيل متوازن نفسيا يبدأ من غرس الوعي منذ الصغر. فإدراج مفاهيم الصحة النفسية في المناهج الدراسية أصبح خطوة ضرورية نحو مجتمع أكثر وعيا واستقرارًا.
في روتيننا اليومي، قد نصادف إشارات بسيطة تشير إلى حاجة من نحب للدعم: تغييرات في السلوك، انسحاب غير مبرر، أو فقدان الحماس لأشياء كانوا يحبونها. الدعم في هذه الحالات لا يتطلب دائما حلولا كبيرة. أحيانا، مجرد الإنصات بصدق ودون إصدار أحكام قد يكون هو كل ما يحتاجه الشخص.
المجتمعات أصبحت أكثر انفتاحا في الحديث عن الصحة النفسية من قبل. الأمر الذي ساعد على كسر الكثير من الحواجز المرتبطة بهذا الموضوع. أصوات المشاهير والشخصيات العامة الذين شاركوا تجاربهم مع الاضطرابات النفسية لعبت دورا كبيرا في تغيير النظرة السائدة تجاه هذه القضايا. تلك القصص أثبتت أن المعاناة ليست نهاية الطريق، بل يمكن أن تكون بداية لرحلة تعاف جديدة إذا توافر الدعم المناسب.
من يعاني نفسيا لا يحتاج إلى شفقة تثقل عليه، بل إلى تفهم ودعم صادق يشعره بأنه ليس وحده في مواجهة هذه الرحلة. الوقوف إلى جانبهم لا يعني تحمل أعبائهم نيابة عنهم، بل يعني تقديم اليد التي تساندهم وهم يعيدون بناء أنفسهم بأمل. وكما تنمو الشجرة وتزهر عندما تلقى الرعاية، فإن العقل يزدهر بالعناية التي تمنحه القوة والصفاء.
لنجعل الحديث عن الصحة النفسية أمرا طبيعيا، لأن كسر حاجز الصمت حولها هو الخطوة الأولى نحو مجتمع أكثر قوة وترابطا، وأفراد يتمتعون بالوعي والسعادة الحقيقية.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك