قد يكون هذا آخر مقال أكتبه عن سوريا وأنا بعيدة وشاعرة بالفقدان. كنت قد توقفت عن الكتابة منذ قرابة السنة لعدم قدرتي على التكرار، وعلى جر القراء معي إلى منابع الحزن الذي حملته في قلبي بينما اشتدت الحرب وسفكت الدماء في بلدي. توقفت عن الكتابة حين شعرت بأنه لم يعد لدي ما أقوله في وصف بعدي، ولم أعد أستطيع أن أحكي عن كل ما كان.
ها نحن السوريين في يومنا الجديد نفتح شبابيك بيوتنا وقلوبنا لتدخلها الشمس. ننفض الغبار عن أرواحنا ونلملم ما تبعثر من أحاسيسنا خلال الأسبوع الأخير استعدادًا للملمة بلدنا وطمأنة سوريا أنها لجميع السوريين. نطوي صفحات دامية ونقرر معًا أننا لن نسمح بتكرارها قط.
سعادتنا جماعية وكذلك قلقنا. فرحنا صادق كما هو ترقبنا حقيقي. الخوف من هول ما نكتشفه يوازي فرحنا بما أنجزناه. وقد علمتنا سنوات الثورة والحرب أن كل شيء ممكن، الصداقات الجديدة العابرة للمناطق والأجيال والخلفيات، العداوات التي خسفت بعلاقات ظننا يوما أنها متينة.
تعلمنا خلال حربنا أيضًا أن الكرم قد يظهر من داخل خيمة اللجوء رغم الفقر، إذ قد تعطيك ست البيت، أو ست الخيمة، آخر ما تملكه من القهوة، وهي ترحب بك وتعتذر أن المكان ليس من مقامك. كما رأينا أن دناءة النفس قد تصدر من أكثر من ظنناهم يوما أكارم، فالبخل ليس بالمال إنما بالنفس.
أصدقائي ممن تحملتموني، اليوم، أريد أن أرد الجميل، فقد اتكأت عليكم سواء في الحياة الحقيقية أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، وقد وجدت كمًا هائلًا من الدعم والدفء.
أظن أن دفء أصدقائي كان لحاف قلبي حين شعر بالبرد، وكتاباتي كانت ملاذي حين كنت أحتاج إلى البوح، كما تحول الفضاء الافتراضي إلى زيارات أخذت فيها الأصدقاء إلى سوريا دون أن أذهب إليها بنفسي.
ممنونة أنا لكل من قرأ واستمع بصبر إلى قصصي وابتسم دون تعليق على تعصبي تجاه المطبخ السوري وإصراري على الاحتفاظ بعادات اجتماعية ربما لم تكن تتماشى مع البلاد التي عشت فيها منذ بدأت الحرب في سوريا، إذ أصبحت أكثر تعنتًا ومحافظة على ما قررت أنه ثوابت رغم قدمها بسبب البعد.
اليوم أريد أن أفتح باب بيتي في دمشق لمن فتحوا لي قلوبهم وبيوتهم وسألوني بصدق عن بلدي.
اليوم أريد أن أعود وأصدقائي ممن لم يزوروا سوريا من قبل أو زاروها قبل أن أعرفهم. أريدكم جميعًا في بيت عائلتي الكبير نعيد إليه الحياة، فتتحرك أمي بين المطبخ وصالة الاستقبال وتنهرنا، أبي وأنا، لأننا منشغلون بغير التحضير لقدوم الضيوف.
أريد أن أضع الكراسي قرب شجرة النارنج في الحديقة، أظن لا داعي للخوض في موضوع هوسي بمربى النارنج.. أليس كذلك؟
بيتي اليوم هو بيت كل صديق وصديقة ربت على روحي في السنوات الماضية، هو بيت يريد أن يرد بعض ما حصلت عليه من حب في بيوت أخرى حين كان قلبي يتفتت من شوقي لسوريا.
هذه رسالة لكل من نسجت معه صداقة في السنوات الأخيرة دامت حتى اليوم: امتناني عميق إذ اكتشفت أن الدفء الإنساني دواء لأكثر من داء، واليد التي كانت تمسك بيدي لطالما سحبتني من عمق السواد.
اليوم سوريا تفتح أبوابها ولن تنظر إلى الوراء، سوى لنحلف معا أننا لن نكرر ما حدث.
لن نسمح بما يتوقعه البعض، لن نرد على من يبتسم ابتسامة صفراء محذرًا أننا لن ننجح.
الطريق أمامنا طويل وخطر، ونحن لسنا من السذاجة أن نقتنع بأننا سننتقل بسلاسة كاملة تناسب الجميع. السياسة حلبة صراع دوما، نريدها ألا تكون دموية.
سنتعلم معنى التعايش دون رعب، سننبذ خطاب الكراهية والتمييز، سنلفظ عادات فاسدة نخرت جوهر صناعة الدولة والعلاقات الاجتماعية.
الطريق هش وصعب، لكن أظننا نحن السوريين متفقون على أننا دفعنا سلفًا بدمائنا، ربما كقربان لعهد جديد نجتمع فيه على مسلمات لن نتنازل عنها. بلد يضمنا ضمن الحد الأدنى من الاتفاق، هكذا بواقعية، إذ قد يكون أكبر درس نتعلمه هو أننا مختلفون ومتعددون ولا يجب حشرنا جميعًا في الزي الموحد والفكر الموحد.
اليوم أريد أن أرد الدّين لكل من فتح لي قلبه وبيته وعقله، وأرحب بأصدقائي في بيتي في الشام، اليوم بيتي هو بيتكم، كما جعلتم من بيوتكم بيتي.
هلا تجو معي عالشام؟
{ كاتبة سورية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك