في مجموعته القصصية البكر لعام 2024 «انبجس»، وقف الكاتب البحريني الشاب محمد خالد محمود، على ضفاف الإبداع السردي، بقارب حداثي جريء. مبحراً بنا في مجموعة من بنات قلمه المبدع، شاء لها أن تكون مختلفة، بعيدة عن مألوف البدايات. في قفزة عالية إلى أفق القص، بعيداً عن التدرج الذي هو ديدن كل كاتب مبتدئ يسعى متلوناً بألوان المدارس الإبداعية قبل أن يستقر على لونه ومدرسته المفضلة. فلم يبدأ كلاسيكياً ولا رومانسياً ولا واقعياً صرفاً.
أولجنا الكاتب إلى باحة قصره السردي، من عتبة عنوان وغلاف لم يوضعا بشكل اعتباطي. فقد شكلا معاً أجمل عتبة نصية قدمت المجموعة لمتلقيها أحسن تقديم. ومع ذلك فإن تعانقهما لم يخلُ من إرباك. فالعنوان والصورة صمما بصورة تخلق حالة من الفضول والتشويق معاً وإمعاناً في الدهشة، فاجأ القارئ بإهداء مختلف وقائمة محتويات صفرية صادمة.
يحدق فينا الغلاف بصورة بصرية، لجسم إنسان يشبه عين الحياة، انبجست منها قنوات كالأحبال السرية، هي أقرب للوحة سوريالية، اتصلت بعالم مكتظ من نفس نسيجها المتشابك اللامتناهي نحو فضاءات خارج إطارها السردي. ربما هي أفكار متناقضة، أو رؤى متلاطمة، أو مشاعر متفجرة. يتدفق الإبداع من جوانب ذلك الجسم المنتصب في شموخ وبياض ناصع.
وعندما نلتفت من الجسم إلى العنوان، نجده تربع أسفل الصورة، ليرسخ حقيقة الانبجاس. فإن لفظة «انبجس» تشي بأن المجموعة هي أول الغيث، وباكورة الأعمال. انبجست نصوصها للتو من هذا الكيان الإنساني وأعماقه اللامرئية. من قاع عقله الواعي وغير الواعي. فقد كشف العنوان والغلاف عن ثنائي يخاطب القارئ المتلقي، يكاد يفصح عن طبيعة النصوص، وأسلوب الكتابة وزاوية الرؤية والراوي في هذه المجموعة. وقد عبرا بصدق عن تواشج مع مكنونات الراوي ودواخله.
ومن أجل أن يكشف لنا عن لونه الحداثي، كسر قاعدة الإهداء المألوفة، فأسالَ مشاعره الرقراقة على ثلاث صفحات، ليهديها لأنثى أحبها (هوتكِ الروح)، إنما لم يفصح عن هوية تلك الأنثى ليصل صدى هذا الشعور لكل أنثى، بشرية أو معنوية، ممن تستحق حبّه. فكان حباً روحياً مترفعاً عن المألوف والسائد بين شباب جيله. وليترجم صدق الإهداء، سلم أنثاه دفة الكشف والاستطلاع، لتجوس في خبايا قصصه الجامحة: «هذه أجنحتي حلقي بها كما تشائين».
كما عمد إلى عنصر من عناصر الكتاب وأعمدته التقليدية الثابتة وهي «قائمة المحتويات»، فأزالها من طريق المتلقي، ليخلي له السبيل، يقطف من بستانه ما يشاء، دون تراتبية أو دليل مرشد. أو ليقول إن مجموعتي هذه ما إلا رواية قصصية متصلة، روحها أنا.
لقد أثار في فضول المتلقي سيلاً من التوقعات، لما سيستقبله في هذه المجموعة من مفاجآت. فتطالعك فرادة العناوين الداخلية، إذ لم يجعل لكل قصة عنوانا، بل ثلاثة عناوين شكلت لافتات كل واحدة تنبئك بخطاب مستفز، يصدمك ويزيد من حيرتك وفضولك. كأنه بهذه اللافتات قد رسم طريقاً موجها يأخذ إليه المتلقي، حتى لا يضل طريقه، في فضاءاته الملتبسة. قبل أن تقرأ قصة اندثار على سبيل المثال، تنفتح لك بوابة كتب عليها عبارة:(اعلم أن روحك دائماً معي، وأنك لا تتركني أبداً)، فيتبادر مفهوم الوحدة والضياع والاتكاء على روح الحبيب المهومة حولك. ثم تقلب الصفحة فينفتح لك باباً آخر، لافتة كتب عليها كلمة (عجز)، فيذهب بك إلى انقطاع الحيلة. ثم تقلب على لافتة ثالثة كتب عليها: (اندثار)، كمن يأخذك لخاتمة مأساوية في اللاشيء والتلاشي. هكذا تكتمل القصة على عتباتها قبل أن تبدأ. أسلوب جديد، يجعل المتلقي يبني منظومة من التوقعات تتنامى أو تنحسر عبر ثلاثة نصوص متوازية ومتكاملة قبل أن يبدأ قراءة النص. فيقيم توقعاته المتخيلة في ضوء حبكة وسردية ذلك النص.
علا صوت الراوي بضمير المتكلم على أغلب قصص المجموعة، ففي قصة (دواخل لا أكثر) يفتتح القصة بعبارة «ستخبرني في أحد الأيام..»، وفي قصة (إغفال) يفتتح القصة بعبارة؛ «وسط هذا الهدوء المزعج أربعة أعمدة حولي». وفي قصة (إتشوو)، يفتتحها بعبارة «لم أظن يوماً أني سأكتب عن قطة». راوٍ غير متسلط يعلم ما يرى ويسمع وما يجول في نفسه هو، بينما لا يعلم بما يجول في نفوس غيره أو ما خفي عن ناظره أو غاير نفسه. أسلوب حداثي انسجم مع طريقته السردية، التي قامت على تدفق الأفكار والرؤى، متماهياً بين الهذيان، بأسلوب أقرب إلى تداعي الأفكار الفرويدي تارة، وما عرف بتيار الوعي تارة أخرى، دون أن يبتعد كثيراً عن السرد الواقعي الذي ألبسه لباساً حداثياً جميلاً. تأمل هذه الفقرة يصف فيها نفسه في موقف هذياني: (ما خطب هذه الجثة؟ توقعت أن تكون شاحبة لا لون فيها.. ربما هذا لون الاضمحلال.. تبدو هذه الجثة كأنها تنتظر شيئاً، أو تتوق إلى شيء لا تعرف ماهيته، ولا تتعب نفسها لاكتشافه، فهي فقط تتمدد على هذه الأرضية الباردة.. هذه الجثة الغريبة تبدو شاحبة، أين تلاشى هدوؤها؟). كما أنه سرد أقرب إلى الشعرية.
لغة السرد ارتفعت فوق الوصف المباشر، الذي يعرقل تدفق الزمن، مستعيضاً بوصف متحرك في الزمن من خلال الجمل الفعلية (تبدو هذه الجثة كأنها تنتظر شيئاً)، (هذه الجثة الغريبة تبدو شاحبة). وكما أن قصص المجموعة لا تبدأ بوصف مباشر، فإنها تنتهي بنهايات غرائبية مثل: (أخرجتها من حوضها ورميتها في القمامة، أصبح المكان يعمه الضجيج بعد أن رميت السمكة).
وقد نجد أن القصص وإن رسمت لها نهاية، فإنها تتكامل مع قصص أخرى في نفس السياق والموضوع، في صيغة أشبه بفصول رواية. ففي هذه القصة يحلم أو يصاب بالهذيان، ليرى نفسه في القصة الثانية أنه في أجواء العمل، وفي القصة الثالثة يغفو فيرى نفسه ممدداً في المكتبة التي يعمل أمينا لها.. وفي النهاية تدرك من تلك الثلاثية القصصية الموجزة، أن كل المسألة أنه شخص مصاب بالهوس أو النسيان أو مريض بالنوم القسري.
في مجموعة (انبجس)، كل شيء ينبجس وينبع من مكان ما من نفس الراوي، في مشاهد متماهية متداخلة أو مواربة، بصورة حداثية معبرة عن حالة الراوي وما يدور بداخله وحوله، حيث تمتزج الحقيقة بالخيال، والواقع بالمتخيل، في توليفات قصصية جميلة للغاية، بعيدة عن التكلف والنمطية المعتادة.
كاتب وشاعر بحريني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك