العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٢ - الأحد ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

الثقافي

الدكتور محمد جابر الأنصاري في القرب.. وفي البعد

{ بقلم: علي عبد الله خليفة

السبت ٢٨ ديسمبر ٢٠٢٤ - 02:00

عند‭ ‬أوائل‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كان‭ ‬بعض‭ ‬شباب‭ ‬البحرين‭ ‬يتلمس‭ ‬الطريق‭ ‬لنشر‭ ‬نتاجه‭ ‬الأدبي‭ ‬الجديد‭ ‬المغاير‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬سائدًا‭ ‬وقتها،‭ ‬وكانت‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬هنا‭ ‬البحرين‮»‬‭ ‬الشهريّة‭ ‬التي‭ ‬تصدرها‭ ‬دائرة‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬حكومة‭ ‬البحرين‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬تلقّـف‭ ‬التجارب‭ ‬الأولى‭ ‬لمحمد‭ ‬عبد‭ ‬الملك‭ ‬وخلف‭ ‬أحمد‭ ‬خلف‭ ‬وشيئا‭ ‬من‭ ‬أشعاري،‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬صدرت‭ ‬جريدة‭ ‬‮«‬الأضواء‮»‬‭ ‬الأسبوعية‭ ‬للراحل‭ ‬محمود‭ ‬المردي‭ ‬منتصف‭ ‬الستينيات‭ ‬حتى‭ ‬انفتح‭ ‬مجال‭ ‬نشر‭ ‬أكثر‭ ‬رحابة‭.‬

كان‭ ‬ذلك‭ ‬النتاج‭ ‬الأدبي‭ ‬النشط‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬حركة‭ ‬نقدية‭ ‬توازي‭ ‬ذلك‭ ‬النشاط‭ ‬العارم‭ ‬لـتُخرجه‭ ‬من‭ ‬الجلسات‭ ‬المنزلية‭ ‬الأسبوعية‭ ‬التي‭ ‬يتولى‭ ‬الأستاذ‭ ‬أحمد‭ ‬المناعي‭ ‬في‭ ‬أبرز‭ ‬تلك‭ ‬الجلسات‭ ‬دور‭ ‬الناقد‭ ‬والموجه،‭ ‬فإذا‭ ‬بكاتب‭ ‬جديد‭ ‬هو‭ ‬محمد‭ ‬جابر‭ ‬الأنصاري‭ ‬يفاجئنا‭ ‬بسلسلة‭ ‬مقالات‭ ‬نقدية‭ ‬أسبوعية‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬مسامرات‭ ‬جاحظية‮»‬‭ ‬لمواصلة‭ ‬النظر‭ ‬في‭ ‬النتاج‭ ‬الأدبي‭ ‬الجديد‭ ‬مستعرضاً‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬نشرت‭ ‬مُبشرا‭ ‬بحركة‭ ‬أدبية‭ ‬جديدة‭ ‬جاهدا‭ ‬في‭ ‬توجيهها‭ ‬من‭ ‬مقالة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭.‬

وأذكر‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬ديسمبر‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1966‭ ‬وفي‭ ‬أولى‭ ‬مسامراته‭ ‬الجاحظية‭ ‬تناول‭ ‬قصيدتين‭ ‬من‭ ‬قصائدي‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬الحادية‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬وبشر‭ ‬بميلاد‭ ‬شاعر‭ ‬بحريني‭ ‬جديد،‭ ‬وعندما‭ ‬التقيته‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬عام،‭ ‬وعرّفت‭ ‬نفسي‭ ‬إليه‭ ‬نظر‭ ‬إليّ‭ ‬باسما‭ ‬مستغربا‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬‮«‬حسبتك‭ ‬أكبر‭ ‬سنا‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬حينها‭ ‬امتدت‭ ‬بيننا‭ ‬مع‭ ‬الأيام‭ ‬صداقة‭ ‬حميمة‭ ‬تجذرت‭ ‬وتعمقت‭.‬

وحين‭ ‬اشتد‭ ‬عود‭ ‬تلك‭ ‬الحركة‭ ‬الأدبية‭ ‬الجديدة‭ ‬تم‭ ‬التنادي‭ ‬بتأسيس‭ ‬كيان‭ ‬أدبي‭ ‬كرابطة‭ ‬الأدباء‭ ‬في‭ ‬الكويت‭ ‬واتحاد‭ ‬الأدباء‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬وغيرهما‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬العربية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬السلطات‭ ‬الاستعمارية‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬وقتها‭ ‬اعترضت‭ ‬على‭ ‬تأسيس‭ ‬كيان‭ ‬أدبي‭ ‬لمجموعة‭ ‬من‭ ‬المثقفين،‭ ‬وعندما‭ ‬اجتهد‭ ‬الأنصاري‭ ‬في‭ ‬تذليل‭ ‬تلك‭ ‬العقبة‭ ‬بالتفاهم‭ ‬مع‭ ‬السلطات‭ ‬الوطنية‭ ‬البحرينية‭ ‬لم‭ ‬تتم‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬تسمية‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬الجديد‭ ‬رابطة‭ ‬أو‭ ‬اتحاد،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬إلاّ‭ ‬أن‭ ‬أصدر‭ ‬حضرة‭ ‬صاحب‭ ‬العظمة‭ ‬الشيخ‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬حاكم‭ ‬البحرين‭ ‬الراحل‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه‭ ‬أمراً‭ ‬أميريا‭ ‬بالموافقة‭ ‬على‭ ‬تأسيس‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬الأدبي‭ ‬الجديد‭ ‬بمسمى‭ ‬‮«‬أسرة‭ ‬الأدباء‭ ‬والكتّاب‮»‬‭ ‬بضمانة‭ ‬الجهود‭ ‬والتأكيدات‭ ‬التي‭ ‬قدمها‭ ‬الأنصاري‭ ‬لأهمية‭ ‬بروز‭ ‬كيان‭ ‬أدبي‭ ‬جديد‭ ‬يحتضن‭ ‬أفكار‭ ‬الجيل‭ ‬ويمثل‭ ‬البحرين‭ ‬في‭ ‬نهضتها‭ ‬الحديثة،‭ ‬فكان‭ ‬أول‭ ‬رئيس‭ ‬لأسرة‭ ‬الأدباء‭ ‬والكتاب،‭ ‬وهو‭ ‬واضع‭ ‬شعارها‭ ‬الدال‭ ‬على‭ ‬نهج‭ ‬نتاجها‭ ‬وتوجهها‭ ‬‮«‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الإنسان‮»‬‭.‬

ظل‭ ‬الأنصاري‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬ومن‭ ‬بعيد‭ ‬خلال‭ ‬دراسته‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬وباريس‭ ‬على‭ ‬اتصال‭ ‬مباشر‭ ‬لاستطلاع‭ ‬كل‭ ‬جديد‭ ‬طارئ‭ ‬في‭ ‬الحركة‭ ‬الأدبية‭ ‬محللاً‭ ‬وناقداً‭ ‬وموجهاً،‭ ‬له‭ ‬فضل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬تجنب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المزالق‭ ‬والعثرات‭ ‬والوقوع‭ ‬في‭ ‬مطبات‭ ‬زمن‭ ‬البحرين‭ ‬الصعب‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭. ‬فقد‭ ‬نبه‭ ‬إلى‭ ‬عديد‭ ‬مما‭ ‬اعتور‭ ‬الحركة‭ ‬الشعرية‭ ‬المحلية‭ ‬من‭ ‬غلو‭ ‬جانب‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬التأثر‭ ‬بالموجات‭ ‬الفنية‭ ‬والسياسية‭ ‬الرائجة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭ ‬وقتها،‭ ‬ولا‭ ‬يمكنني‭ ‬أن‭ ‬أنسى‭ ‬أبدا‭ ‬وهو‭ ‬يجتاز‭ ‬بي‭ ‬في‭ ‬السبعينيات‭ ‬دهاليز‭ ‬مترو‭ ‬الأنفاق‭ ‬بباريس‭ ‬عندما‭ ‬أبديت‭ ‬انبهاري‭ ‬وإعجابي‭ ‬بجهود‭ ‬الأيدي‭ ‬العاملة‭ ‬التي‭ ‬حفرت‭ ‬تلك‭ ‬الأنفاق‭ ‬بمستويات‭ ‬ارتفاعها‭ ‬وانخفاضها‭ ‬وتعرجات‭ ‬مسالكها‭ ‬تحت‭ ‬سطح‭ ‬الأرض‭ ‬حين‭ ‬استوقفني‭ ‬مذكرا‭ ‬بجهود‭ ‬من‭ ‬خطط‭ ‬وهندس‭ ‬وقاد‭ ‬هؤلاء‭ ‬العمال‭ ‬للإنجاز‭ ‬الذي‭ ‬نراه‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬الأنصاري‭ ‬مجرد‭ ‬ناقد‭ ‬أدبي‭ ‬حصيف‭ ‬فحسب،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬مفكراً‭ ‬عروبياً‭ ‬أصيلاً‭ ‬ذا‭ ‬نظرة‭ ‬شمولية‭ ‬تنحو‭ ‬لوسطية‭ ‬قومية‭ ‬في‭ ‬معالجة‭ ‬تأزمنا‭ ‬الحضاري،‭ ‬وضع‭ ‬لها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المؤلفات‭ ‬التي‭ ‬ناقش‭ ‬عبرها‭ ‬أعلى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يطرح‭ ‬على‭ ‬ساحة‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭.‬

إلى‭ ‬جانب‭ ‬كل‭ ‬ذلك،‭ ‬وقف‭ ‬الدكتور‭ ‬الأنصاري‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬أدق‭ ‬المواقف‭ ‬وأصعبها،‭ ‬وحين‭ ‬كنت‭ ‬وبعض‭ ‬ذوي‭ ‬الاختصاص‭ ‬نخطط‭ ‬لإصدار‭ ‬هذه‭ ‬المجلة‭ ‬العلمية‭ ‬المحكّمة‭ ‬‮«‬الثقافة‭ ‬الشعبية‮»‬‭ ‬كان‭ ‬الأنصاري‭ ‬حاضراً‭ ‬بدعمه‭ ‬ومسانداته‭ ‬والتماعاته‭ ‬الفكرية‭ ‬وإضاءاته‭ ‬الموجهة‭ ‬والموسّعة‭ ‬أمامنا‭ ‬في‭ ‬الأفق،‭ ‬فهو‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬أمامنا‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬رسالة‭ ‬التراث‭ ‬الشعبي‭ ‬من‭ ‬البحرين‭ ‬إلى‭ ‬العالم‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬العبارة‭ ‬التي‭ ‬رافقت‭ ‬إصدارات‭ ‬المجلة‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬عاماً‭ ‬من‭ ‬انتظام‭ ‬الصدور‭.‬

إن‭ ‬الأثر‭ ‬الأدبي‭ ‬والفكري‭ ‬الذي‭ ‬تركه‭ ‬الأستاذ‭ ‬الدكتور‭ ‬محمد‭ ‬جابر‭ ‬الأنصاري‭ ‬في‭ ‬حركتنا‭ ‬الأدبية‭ ‬والفكرية‭ ‬بشمولية‭ ‬أفكاره‭ ‬وفاعلية‭ ‬جهوده‭ ‬وصلات‭ ‬علاقاته‭ ‬الواسعة‭ ‬الممتدة‭ ‬سيظل‭ ‬بليغا‭ ‬لن‭ ‬يفي‭ ‬به‭ ‬مقال‭ ‬أو‭ ‬تجميع‭ ‬عدة‭ ‬مقالات‭ ‬عابرة‭ ‬مهما‭ ‬بلغت‭ ‬من‭ ‬الثراء،‭ ‬وحسناً‭ ‬فعلت‭ ‬هيئة‭ ‬البحرين‭ ‬للثقافة‭ ‬والآثار‭ ‬بتنظيم‭ ‬احتفالية‭ ‬وطنية‭ ‬لاستذكار‭ ‬سيرة‭ ‬هذا‭ ‬المفكر‭ ‬واستعراض‭ ‬مآثره،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سنحتاجه‭ ‬لأمثاله‭ ‬من‭ ‬الأعلام،‭ ‬وهم‭ ‬كثر‭ ‬يحتلون‭ ‬الذاكرة‭.‬

حري‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نُعنى‭ ‬بجمع‭ ‬الآثار‭ ‬الفكرية‭ ‬والأدبية‭ ‬المطبوع‭ ‬منها‭ ‬والمخطوط‭ ‬للدكتور‭ ‬الأنصاري‭ ‬وإخضاعها‭ ‬للتحليل‭ ‬والفرز‭ ‬لتكون‭ ‬مادة‭ ‬أصيلة‭ ‬من‭ ‬مواد‭ ‬الدرس‭ ‬في‭ ‬جامعاتنا‭ ‬وأفكارا‭ ‬للحوار‭ ‬والمناقشة‭ ‬في‭ ‬منتدياتنا،‭ ‬وفاء‭ ‬مستحقا‭ ‬لمفكر‭ ‬وأستاذ‭ ‬عربي‭ ‬جليل‭..‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا