القراء الأعزاء
حلُموا، فما ساءت لهم شيم
سمَحوا فما شحّت لهم مِنن
سلُموا فما زلّت لهم قدم
رَشدوا فلا ضلّت لهم سُنن
بضعة أبياتٍ من القصيدة الرجبية لإسماعيل ابن أبي بكر المقري، والتي تفنّن الشاعر فيها في بيان إعجاز اللغة العربية شعراً، في إمكانية اعتبار أبيات القصيدة مدحاً إن قُرئت على سياقها (من اليمين إلى اليسار) وهجاءً إن قُرئت بالمقلوب (من اليسار إلى اليمين)، وهي نموذج ضمن نماذج كثيرة في الشعر العربي التي تفننت في توظيف اللغة بحرفية تُبرز جمال وعمق وعراقة اللغة العربية.
استوقفتني هذه الأبيات بالتحديد فقط، لأن سعادة الدكتور محمد بن مبارك جمعة وزير التربية والتعليم، في لفتة غير مسبوقة، قد قام مشكوراً باستخدامها لإيضاح جمال اللغة العربية وإبداعها ضمن كلمته التي كانت رسالة موجهة إلى أبنائه الطلبة في اليوم العالمي للغة العربية والذي يُحتفى به في اليوم الثامن عشر من شهر ديسمبر باعتباره اليوم الذي أقرّت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة عام 1973، وبذلك أصبحت اللغة العربية لغة رسمية معترفا بها دولياً، في اعترف أممي بقيمتها وأهميتها كواحدة من أهم اللغات الحيّة التي لا يمكن بحال تجاوز وجودها ضمن اللغات الرئيسية عالمياً، وتتبوأ اللغة العربية المرتبة الأولى عالمياً من حيث ثراء مفرداتها ومصطلحاتها، إذ تفوق جميع مفردات اللغات الحيّة الأخرى بحيث يتجاوز عدد مفرداتها 12 مليون كلمة متقدمة على ثاني اللغات العالمية وهي الإنجليزية والتي لا يجاوز عدد مفرداتها 600 ألف مفردة وفقاً لدراسة مقارنة قامت بها جامعة البلقاء التطبيقية الأردنية مؤخراً.
ويعلم من يُحبّ اللغة العربية سواء كان من الناطقين بها أو غيرهم بمدى جمال وثراء هذه اللغة، والتي بلورت جمالها النصوص القرآنية العظيمة، وقبلها في قصائد الفطاحل من شعراء العرب قبل وبعد الرسالة النبوية الشريفة حتى يومنا هذا، فغالباً ما نقرأ أو نستمع إلى ابداعات مذهلة لشعراء هذا العصر.
والسؤال الذي لا يفتأ يُكرر نفسه، هو: ماذا فعلنا نحن الأمَنَاء على هذه اللغة بها؟ هل حافظنا عليها لتبقى وتستمر مُمثّلة لهويتنا العربية؟
ولا شك أن الإجابة هي أن الكثير منا قد أضاع اللغة ولم يسع لتمريرها بصدق وإخلاص إلى الأجيال القادمة، بل يظهر أن فخر البعض باللغات الأجنبية التي تبنّاها كلغة أصلية لأبنائه أكثر بكثير من فخره بتعليمهم اللغة العربية، ولعل من أكثر المواقف التي تزعجني -وأعتقد تزعج غيري أيضاً ممن لديهم الغيرة على اللغة العربية- حديث بعض الأمهات مع أبنائهم الصغار بلغة غير عربية، وفي رأيي إن السير في طريق الانسلاخ عن الهوية لن يوصل مُرتاده إلى شيء سوى فقدانها وتكرار قصة الطائر الذي حاول أن يُقلد مشية الحمامة التي أعجبته فلم يستطع أن يُتقنها، وفي أثناء رحلة محاولة تعلم مشيتها نسيَ مشيته الأصلية.
ومن المؤكد أن تعلّم اللغات الأجنبية مهم جداً، فمن تعلم لغة قومٍ أمِن شرّهم، بل وتفتّحت أمامه أبواب النجاح والتقدم، ولكن يتوجب أن تكون اللغة العربية أولاً، وتكون هي الأساس الذي ينطلق منه العربي إلى تعلّم اللغات الأخرى، وكلما زاد علمه ولغاته كان أفضل له وللإنسانية.
لذا وكمقترح لوزارة التربية والتعليم بضرورة التركيز على مساحة اللغة العربية في المناهج التعليمية سواء في المدارس الحكومية أو المدارس الخاصة لضمان ألا تُسهم المؤسسة التعليمية في الحؤول دون أبنائنا الطلبة ولغتهم الأم، مع رسالة إلى الأسرة بضرورة التمسك بهويتها المتمثلة في اللغة والحرص على أداء رسالتها في نقل المعرفة وتوارث الهوية باعتبارها الطرف الأهم في مهمة الحفاظ على الإرث الحضاري اللغوي.
ولعل هذه الأبيات الجميلة في مدح الرسول عليه الصلاة والسلام للشاعر السعودي أحمد الملا تكون خاتمة جميلة لهذا المقال:
النور يسألُ عن ترابك أسئلة
فقلت يا نور لن تتحمله
ذاك التراب يضمُّ أطهر نطفة
خُلقت قداستها لأرفع منزله
ذاك التراب، وليت نفسي رملة
في قبره وبوجهه متأملة
خُلق الجمال مثلُ صورة وجههِ
حتى الجمال إذا رآه تجمله
سبحان من بالحسن كمّل خلقه
سبحان من بالخلق ربي كمّله
كل اتجاهات الحياة متاهة
وبك الوصول وأنت سر البوصلة
منفاي انت على هداك سأهتدي
وإذا ظللت تلوتُ آي الزلزلة
تمضي الحياة ونحن بضع أهلّة
وبهديه هذي الحياة مُذلله
الله في القرآن أعلى شأنه
وهباهُ من وحي السماء تبتله
اواهُ يا أصحابه لو أنني
من أهل صفوته غسلت انامله
ولكنتُ أول من يراه صبيحة
ولكنتُ آخر من يفارق منزله
فإذا ذكرتك استعيد لياقتي
وكأن روحيِ في السماء مُهروله
وإذا رأيتُك في المنام لمحت لي
دمعاً يكفكفه الحنينُ من الوَله
صلّى عليك الله في ملكوته
ما مرّ ذكرُك في اللسانٍ وبلّله
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك