سرني التعرف على صوت سردي من الخليج العربي وهو الكاتب البحريني أحمد المؤذن، وجدت مجموعـته القصصية الإلكترونية (وترقصين) الصادرة عن دار بـوفار للنشر في جمهورية مصر العربية / الطبعة الأولى 2022 تتكون من 134 صفحة بواقع ست عشرة قصة قصيرة، المجموعـة القصصية متوافرة للتحميل المتاح مجاناً عبر الشبكة وهذا ما يسهل الحصول عليها وتحميلها من قبل القراء.
وككاتبة ومهتمـة بالسرد العربي أجد هذه القصص التي أبدعها أحمد المؤذن والتي ترصد الواقع قد حازت من الجماليات ما يمنح السرد القصصي مذاقـاً آخَـر يستحق الوقوف عـليه ضمن قراءة سريعة نقدمها هنا بداية من العنونـة، يعتبر العنوان من المفاتيح الأولى لفهم فحوى النص، إلا أن هذا العنوان جاء مربكـاً إن جاز لنا التعبير (وتـرقصين) ما الذي يعنيه الكاتب؟ الرقص يمكن أن يكون من باب نصر، ولـهُ من التأويلات الكثير، فالرقص في الحلم على رأي ابن سيرين يدل على وجود مشاكل وأزمات مالية.
وهناك مثل مما جاء في الأثر يقول: يوم رامت ترقص قالت الميدان ضيق، وهذا المثل ينطبق على الفئـة التي ذهبت لغزو قبيلة وعـادت وهي تتجرع المر. بالعودة إلى مجموعـة كاتبنا فسنجد بأن لكل شخصية وجعها، ورقصها، لقد حرص الكاتب على تحميل شخصياته ما تواجهه في مجتمعها بدايةً من افتتاحية المجموعـة بقصة (حُلم منتهي الصلاحية) ص 4 ورصد معاناة الأنثى في حياتها الزوجية، معاندة المجتمع والصراع مع أمها بغرض الرضوخ للزوج والتسليم بحقيقـة المصير في تبعية المرأة للزوج، والرغبة بإنهاء تلك الفترة والعيش بحرية وما يتركه هذا القرار من ضغط نفسي متواصل.
يحق لنا القول إن الأدب هو عـراب للمجتمع، فعندما نتمعـن بتلك المفردات نجد أنفسنا ملزمين بقوانين أدبية أو معايير خاصة تؤطـر التجربة، لذلك هنا أديبنا المؤذن حارساً لما يكتب، معرياً جوانب سلبية كثيرة من محيطه المجتمعـي، مهمة الكاتب كشف هذا المناخ المحتدم بالصراع كيما يوقظ العقول. لنكتب أدبـاً رصينـاً فمراوغـة النصوص المفتوحة في باب النقـد، تعني يُـسر المعنى والتمكن منه ظاهرياً ومراوغـة الدلالة، لتقف اللغـة النصية في منطقـة وسطـى تقترب من الإفصاح ولا تفصح، منطقة محايدة ما بين الشمس والظل، تجعلنا كقراء نستظل بجماليات السرد، حيث يبتـرد الجسد وتبقى الروح معـذبة.
امتازت المجموعـة في جمال الوصف من خلال انتقاء المفردات المدروسة، كما أن الكاتب أستخدم عنصر المفاجأة في وضع حـد لنهاية القصة التي يكتبها كما جاء ببعض القصص، وفي قصص أخرى ترك النهاية مفتوحة أمام القارئ. المعاناة ظهرت جلية في أغلب القصص الواردة ففي قصة (من أجل الأيام الخوالي) ص 15 - هيفاء الشخصية الرئيسة، تريد تأمين دراستها لكنها لا تريد تقديم جسدها مثل أي مومس. (هيفاء بنت ناس خاف الله فيها) هذه الجملة التي قيلت ضمن حبكة القصة تلخص جملة الصراع من عمق حياة المدينة وتختزل شتى الأوجاع التي يواجهها الإنسان المعاصر بالذات الأنثى لكي يكون وسط مجتمعه، كأنه يدفع ضريبة الحياة!
في استمرارية القراءة يواصل المؤذن إدهاش القارئ، ففي قصة (حـفرة) عـرج الكاتب على رصد نهاية أب له أولاد قلوبهم قاسية عليه من حيث قلة الاهتمام به وتخليهـم عن مسؤولياتهم بشأن مرضه، ما يجعله يتجه للمقبرة ويحفـر لنفسه حفـرة لكي يموت فيها، تلك معاناة أي كبير ينتهي به المطاف محطمـاً يلملم ما تبقى من وجع الحياة وخيباتها ونكرانها وما يجلبهُ من غـدرها بأهلها. أما قصة (ذات صباح) ص 61 فهي قصة أي أنثى يمـر بها العمـر، لتقف أمام المـرآة وتجد كـل شيء فيها تغـير، هـي صرخـة تبثها عـبر قنوات ذاتها، تستشعـر فيها احتواء رجـل يكون لها، وتذكيرها بأنها ما زالت هي الحبيبـة الأولى.
أما في قصـة (ورطـة لذيذة) ص 108 - الكاتب عـبر عن مكنون تلك الشخصية، الشخص الذي يستشعـر جمال المرأة الغربية، بعطـرها النفاذ وملابسها الأنيقة، وحركاتها التي تمر كنسيم الهواء (هذا الجمال الغربي الممزوج بحمـرة هؤلاء القوم يجعل دمي العربي يضطـرب في رأسي). ولكن ما لبثت ومالت لغـة الكاتب للسخرية، فتلك الورطة كانت وكأنها المقلب في حياة بطل القصة، الحب المفاجئ واللـذة ببقاء رأسها على كـتفه، شيء مثل الحلم جاءت من بعدها لكمـة قوية على رأس البطل!
لم يكتف كاتبنا المؤذن بهذا المقلب ولكن تبعـه وجود صديق للبطـل كان يغمـز بعينـه كأنما يغبطـه على هذا النعيم! لكن مسار الأمور حيث انقلبت عمل الكاتب على وضع منحنيات أخرى في مشهديته السردية والخلط ما بين السخرية والواقعيـة، يجعلنا نستشعـر جمالية القصة.. يزيدها بالطبع روح اللغـة المتوثبـة التي تجعلنا كقـراء نلهـث فيما وراء الكلمات.
(ها أنا الآن أكـوي جرحـي) ص 102 العنوان هو قصة بحد ذاته، أما لو دخلنا في سرداب القصة لوجدناها جملاً تُغني عن كتاب.. (كيف أنساها، أخبرتني أختي أنه كي أنسى امرأة عليّ كيّ جرحها بامرأة أخرى). الكاتب أقترب من أحاسيس شخصياته ومرة أخرى أقتحم ذاك الأفق الذي يلامس جروحهم الشخصية، تركنا نتحد معهم بصدق ونتلمس ما يعانونه، هكذا هو الكاتب كأنه يمارس كيّ وعـي القارئ ليقدم العلاج، فهذه القصة قد تعني إنسانًا ما مر بذات التجربة فيجد نهاية النفق من بعد انتهاء تلقيها. استمتعت بالقصص وحاولت أن أسلط عليها الضوء وشعرت بأن قلم المؤذن فيه نبضات أنثوية، لكونه قلم جميل جدًا، لو لم أقرأ اسمـه على المجموعة القصصية لحسبت بأنه أنثى.
(أعـيد ترتيب أناي) تلك الجمل الشاعـرية في السرد قد أكسبت النصوص متانة في سياق المعنى وكأننا وقعـنا في شراك اللغة. الدلالة الذرائعيـة ككل الدلالات التي عـكسها الكاتب كانت تعبر عن الشخصيات التي رسمها بعناية فكانت من لحم ودم. أيضًا الجانب اللساني، الواقع ولكثرة غـنى ثقافة الكاتب، فقد انعكست على الجمل التي صاغـها في مجموعـته، فحين يكتب متقمصًا لسان الشخصية فهو يريد لها الانفلات من حالة اللاوعـي إلى الوعـي، يطلق حريتها لكنه يعرف بوصلتها. بهذه المجموعـة «وترقصين» الجنس الأدبي يمكننا أن نقول إنه ينضوي تحت عـنوان «الميتاسرد» فقد عـرفهُ (وليام غـاس) بأنه القص الذي يجذب الانتباه لنفسه، كونه صنعه ليطرح أسئلة عـن العلاقة بين القص والواقع، وهذا فعلاً ما لمسناه في قصص كاتبنا «المؤذن».. نجده في خاتمة قصصه التي ألفها بوعي جمالي أتت نهاياتها مغايرة لما يتوقع المتلقي. بواحدة من القصص نجد الشخصية تقول:
(ختامها كـأن ثمـة أشباحا ترقص في رأسي ولا أدري ما الذي يحدث لي).
أشباح هذا الكاتب تلاحقنا، لكنها في حقيقة الأمر عبارة عن أسئلة. هناك أسئلة كثيرة تبقى معلقـة حول هذه المجموعـة القصصية، تحتاج أكيد لقراءة أكثر عـمقًا حول مشوار كاتب عـربي من الخليج يقدم سرده بفن ووحده الناقد المختص من يجيب تلك الأسئلة ويضيء عـلى إشكالياتها، وخصوصًا أننا ككتاب عـرب نحتاج إلى الاقتراب من تجاربنا لكشف ما تتميز به كـل ساحة أدبية عـن نظيراتها من إبداع يستحق الاحتفاء به.
{ كاتبـة من الجمهورية العربية السورية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك