العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٩ - الخميس ٢٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

الثقافي

سرديات: إيتالو كالفينو وسردياته الفينومينولوجية!

بقلم: د. ضياء عبدالله الكعبي {

السبت ٣٠ نوفمبر ٢٠٢٤ - 02:00

يعد‭ ‬الروائي‭ ‬الإيطاليَّ‭ ‬إيتالو‭ ‬كالفينو‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الأصوات‭ ‬الروائية‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬رواياته‭ ‬ذات‭ ‬العمق‭ ‬الفلسفيَّ‭ ‬في‭ ‬تأثره‭ ‬بالاتجاهات‭ ‬الفلسفية‭ ‬الفرنسية‭ ‬وخاصة‭ ‬رولان‭ ‬بارت‭ ‬والتفكيكي‭ ‬جاك‭ ‬دريدا‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬تأثره‭ ‬الواضح‭ ‬بالاتجاهات‭ ‬الظاهراتية‭ (‬الفينومينولوجيا‭). ‬وقد‭ ‬انعكست‭ ‬رؤيته‭ ‬الفلسفية‭ ‬على‭ ‬رؤيته‭ ‬للعالم‭ ‬في‭ ‬رواياته‭ ‬وأخص‭ ‬بالذكر‭ ‬روايتي‭ ‬مدن‭ ‬لامرئية‭) ‬وثلاثيته‭ (‬أسلافنا‭).‬

‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ (‬المرئي‭ ‬واللامرئي‭) ‬للفيلسوف‭ ‬الفرنسيَّ‭ ‬ميرلو‭ ‬بونتي‭ ‬يستشعر‭ ‬هذا‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الصورة‭ ‬المتجدِّدة‭ ‬للعالم‭. ‬يقول‭ ‬ميرلو‭ ‬بونتي‭ ‬‮«‬بمزيد‭ ‬من‭ ‬الاستشعار‭ ‬لروابط‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬تربطه‭ ‬بالعالم‭ ‬وبالتاريخ‭ ‬يجد‭ ‬الفيلسوف‭ ‬نفسه‭ ‬ليس‭ ‬أمام‭ ‬هاوية‭ ‬الأنا‭ ‬أو‭ ‬العالم‭ ‬المطلق،‭ ‬بل‭ ‬أمام‭ ‬الصورة‭ ‬المتجدِّدة‭ ‬لعالم،‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭ ‬التي‭ ‬يجد‭ ‬نفسه‭ ‬مغروسًا‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬الآخرين‮»‬‭. ‬ورواية‭ ‬إيتالو‭ ‬كالفينو‭ (‬مدن‭ ‬لامرئية‭)  ‬Invisible‭ ‬Cities‭ ‬تنتظم‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬الأدب‭ ‬اللامرئي‭ ‬لسبر‭ ‬أغوار‭ ‬العوالم‭ ‬الخفية‭ ‬لفضاءات‭ ‬المدن‭ ‬ومزج‭ ‬الواقع‭ ‬بالتاريخ‭ ‬بالعجائبي‭. ‬وأيُّ‭ ‬قارئ‭ ‬مغرم‭ ‬بفضاءات‭ ‬الأمكنة‭ ‬في‭ ‬أبعادها‭ ‬الفلسفية‭ ‬العميقة‭ ‬وليست‭ ‬الظاهرة‭ ‬لابدَّ‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬المذهلة‭ ‬بالفعل‭.‬

‮«‬المدن‭ ‬لا‭ ‬تخبرنا‭ ‬بماضيها‭ ‬إنَّما‭ ‬سنلمحه‭ ‬في‭ ‬تفاصيلها‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬تحتويها‮»‬‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬المدهشة‭ ‬يقارب‭ ‬كالفينو‭ ‬عددًا‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬العالم‭ ‬القديم‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الرحَّالة‭ ‬الإيطالي‭ ‬ماركوبولو،‭ ‬ولكن‭ ‬المدينة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬اختزلت‭ ‬مدن‭ ‬العالم‭ ‬كلها‭ ‬هي‭ ‬فينيسيا‭.. ‬نعم‭ ‬كانت‭ ‬فينيسيا‭ ‬دون‭ ‬سواها‭ ‬الفضاء‭ ‬الذي‭ ‬يرد‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬هذا‭ ‬الرحَّالة‭ ‬الإيطالي‭ ‬الذي‭ ‬كلما‭ ‬سأله‭ ‬أحد‭ ‬عن‭ ‬مدائن‭ ‬الشرق‭ ‬التي‭ ‬زارها‭ ‬وارتحل‭ ‬إليها‭ ‬ينسى‭ ‬السرود‭ ‬الأخرى‭ ‬ويتحدث‭ ‬فقط‭ ‬عن‭ ‬فينيسيا‭. ‬فينيسيا‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يخشى‭ ‬من‭ ‬تدوينها‭ ‬وكتابتها‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تضيع‭ ‬ذاكرته‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اتخذت‭ ‬شكلاً‭ ‬كتابيًا‭ ‬محدَّدًا‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يريدها‭ ‬دائمًا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬المطلق‭ ‬والكل‭ ‬وليس‭ ‬الجزء‭. ‬إذن‭ ‬كتاب‭ ‬ماركوبولو‭ (‬عجائب‭ ‬العالم‭) ‬هو‭ ‬كتاب‭ ‬لم‭ ‬يدوّنه‭ ‬بنفسه‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬ذلك‭ ‬أيضا‭ ‬الرحَّالة‭ ‬المسلم‭ ‬ابن‭ ‬بطوطة‭ ‬وكتبه‭ ‬بعده‭ ‬ابن‭ ‬جزي‭ ‬الكلبي‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬تحفة‭ ‬النظار‭ ‬في‭ ‬غرائب‭ ‬الأمصار‭ ‬وعجائب‭ ‬الأسفار‮»‬‭. ‬وكتاب‭ ‬ماركوبولو‭ ‬كتاب‭ ‬مصاغ‭ ‬من‭ ‬مئات‭ ‬السرود‭ ‬الشفاهية‭ ‬التي‭ ‬نثرها‭ ‬ماركوبولو‭ ‬على‭ ‬البحَّارة‭ ‬والمسافرين‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬المدهش‭ ‬آنذاك‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬البحري‭ ‬المائي‭ ‬تستحوذ‭ ‬فينيسيا‭ ‬بسطوة‭ ‬حضورها‭ ‬على‭ ‬سرود‭ ‬المدائن‭ ‬كلها‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬الإيطالي‭ ‬ماركوبولو‭ ‬طوال‭ ‬رحلته‭ ‬إلى‭ ‬مدائن‭ ‬الشرق‭ ‬المبهرة‭ ‬مأخوذًا‭ ‬بسحر‭ ‬فينيسيا‭ ‬وكرنفاليتها‭ ‬وعجائبيتها‭ ‬المائية،‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬السرد‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬يرد‭ ‬على‭ ‬لسانه‭ ‬هو‭ ‬سرد‭ ‬فينيسيا‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تتوارى‭ ‬المدن‭ ‬الأخرى‭ ‬رغم‭ ‬عجائبيتها‭ ‬أمام‭ ‬سطوة‭ ‬فضاء‭ ‬أوحد‭ ‬في‭ ‬قلبه‭ ‬وعقله‭. ‬وعندما‭ ‬سأله‭ ‬الإمبراطور‭ ‬المغولي‭ ‬قوبلاي‭ ‬خان‭ ‬عن‭ ‬المدن‭ ‬التي‭ ‬رآها‭ ‬ضاعت‭ ‬المدن‭ ‬الأخرى‭ ‬وتلاشت‭ ‬وحضر‭ ‬فقط‭ ‬سرده‭ ‬لفينيسيا‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أثار‭ ‬دهشة‭ ‬الحضور‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتهم‭ ‬إمبراطور‭ ‬المغول‭!‬

إيتالو‭ ‬كالفينو‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬المدهشة‭ ‬هذه‭ ‬يتابع‭ ‬سير‭ ‬رحلة‭ ‬ماركوبولو‭ ‬التي‭ ‬بدأ‭ ‬من‭ ‬الماء‭ ‬من‭ ‬فينيسيا‭ ‬التاريخية‭ ‬الأسطورية‭ ‬الكرنفالية‭ ‬إلى‭ ‬الماء،‭ ‬حيث‭ ‬أقاصي‭ ‬الشرق‭ ‬وإمبراطورية‭ ‬قوبلاي‭ ‬خان‭ ‬المترامية‭ ‬الأطراف‭ ‬التي‭ ‬تشتمل‭ ‬على‭ ‬مدن‭ ‬متوغلة‭ ‬في‭ ‬الغموض‭. ‬وكالفينو‭ ‬في‭ ‬سرده‭ ‬يحاول‭ ‬التعمق‭ ‬في‭ ‬طبائع‭ ‬المدن‭ ‬وخصائصها‭ ‬في‭ ‬أبعادها‭ ‬الفلسفية‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تتكشف‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬عمق‭ ‬التوغل‭ ‬فيها‭ ‬وعمق‭ ‬التأمل‭. ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السرد‭ ‬كله‭ ‬يبوح‭ ‬لنا‭ ‬كالفينو‭ ‬برؤيته‭ ‬اللامرئية‭ ‬للعالم‭. ‬وهذه‭ ‬الرواية‭ ‬تغريك‭ ‬بالقراءة‭ ‬مرات‭ ‬عدة‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬قراءة‭ ‬لها‭ ‬أتكشف‭ ‬أبعادًا‭ ‬لم‭ ‬أنتبه‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬قراءات‭ ‬سابقة‭: ‬اللامرئي‭.. ‬فضاءات‭ ‬المدن‭.. ‬سحر‭ ‬الذاكرة‭ ‬وعمق‭ ‬الأبعاد‭ ‬في‭ ‬رواية‭ ‬عميقة‭ ‬جدًا‭.‬

 

أستاذة‭ ‬السَّرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الحديث

‭ ‬المشارك‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا