مُنذُ أن صافَحَت الشاعرة «نبيلة زُباري» قُلوبِ عُشَّاق الشِّعر عام 1994م بمجموعتها «حواجز رماديَّة؛ وهي تخطو على درب اللغة المُرهفة بكلماتٍ تعزف على أوتار مشاعر القارئ والسامع في إصدارتها الأدبيَّة المُتتالية تحتَ عناوين «عسى أن يرجع البحر»، «همسٌ أزرق»، «نبضٌ.. على أوراقي»، «لُغةُ السفَر/ صوتُ بُلبُلٍ في دفاتر الأسفار»، «ليتَكَ بقيتَ حُلمًا/ حكاية الليلك»، وصولاً إلى مجموعتها الشعريَّة «أُطلُّ على هذا القلب» التي احتضنَ تدشينها مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث.
استُهِلَّت الأُمسيةً بتقديمٍ من الشاعِر البحريني المُبدِع حسن كمال الذي أشار إلى جانبٍ من السيرة الثقافية والأدبيَّة للشاعرة بقوله: «نبيلة زُباري أكاديميَّة، تعمل في الجامعة، كما أنها من أعضاء تحرير مجلَّة البحرين الثقافيَّة، وعضو في أسرة الأدباء والكُتَّاب ومركز عبدالرحمن كانو الثقافي، صدرَت لها ست مجموعاتٍ شعريَّة فُصحى، كُلها من الشعر الرصين الحديث، ونترقَّب صدور مجموعتها الشعريَّة القادمة باللهجة الشعبيَّة.. لقد شاركت في العديد من الجلسَات الشعريَّة والندوات والأُمسيات في البحرين والخليج وأقطار عربيَّة أُخرى، ولها حضورٌ دائمٌ في المحافِل الثقافيَّة.. أطلَّت علينا مؤخرًا بومضات قصيرة، نَبضات على الورق عبر صحيفة الأيَّام.. نُحيّي هذا الجُهد من شاعرتنا نبيلة زُباري، ونُحيي حضوركم، ولا ننسى من سيُصاحبها بدندناتٍ على عودِه العازف الفنَّان محمَّد العبيدلي».
وقفت الشاعرة نبيلة زُباري على مِنصَّة الإلقاء متوجةً حديثها بآيات الشُّكر والامتنان لكُل من ساهم في إنجاح صدور الكِتاب وإقامة حفل التدشين، وأشارَت إلى أن هذا الإصدار كُتِبَ له أن يرى النور منذ عام 2020م؛ لكن الأحداث المُفجِعة التي اجتاحت العالم ومنها جائحة كوفيد19 ثم أحداث غزَّة كانت حاجزًا أجَّل إطلاق حفل تدشينه إلى أن أُتيحت الفُرصة أخيرًا بعد أربع سنوات، ومن باب ترجمة مشاعرها تجاه أحداث غزَّة باعتبارها قضيَّة انسانيَّة لا يُمكن لشعورٍ مُرهف إلا التفاعُل معها قالت: «يا غزَّة العِز والإباء/ يا جُرحًا في خاصِرة الأوطان العربيَّة/ الجُرحُ مازالَ ينزف/ لكنَّ طُهرَ الدماء/ وبركات القُرآن والأنبياء/ ونور الشهادة وسطوة الجوع/ ما فتئوا يرصفونَ للتاريخِ نصرًا.. عنوانُ دربُ الرجوع».
ولأنَّ «الوطن» شريانٌ دائمٌ يُغذي قصائد د. نبيلة ويمدها بالإلهام مُستحوذًا على روح أكثرها، وهو المتوِّج للعلاقة بين الطبيعة والإنسان في تلك النصوص الشعريَّة كما أشار رئيس تحرير مجلة البحرين الثقافيَّة د. كمال الذيب في قراءته النقديَّة للمجموعة المُدشَّنة بقوله: «فالشاعِرة تبدأ بالطبيعة وبالمكان والزمان البحرينيين، ثم يأتي الوطنُ متوجًا للعلاقة بين الطبيعة والإنسان، ويأتي الحبُّ من رحم العلاقة بين الطبيعة والمكان والإنسان، ثُم يأتي البُعدُ الإنسانيُّ بعد ذلكَ ليُكمل الصورة.. صـ10»، كان لهذا الوطن من نصوصها المُلقاة خلال حفل التدشين النصيب الأوفى، وأكَّدَت على تلكَ العلاقة النابضة بالحُب بينهما قائلة: «الوطن منهُ نبدأ وإليهِ ننتهي، فالوطن بأحيائه، بمُدُنه، بقُراه وطُرقاته، كلهُ داخل قلوبنا، لذا ستكون بدايتي مع قراءة جزء من النص الشعري الأوَّل في هذا الكتاب بعنوان: «أُطلُّ على الوطَن»: أيها الوطَن.. كتبتُ على سُحنتي أنّي منكَ.. وأنَّكَ منّي!/ وهذا البحرُ معي يشهدُ للقلاع/ والنخلُ يزخرف بالرّطب لوحة الفضاء/ وأشجار الياسمين تلوّنُ بالأخضرِ وجه الصبحِ وقلوب الأوفياء”.. ثم استطردَت بقولها: «نُحبّ كل ارجاء الوطن، ولكن يبقى لبعض الأماكن، بعض المدُن، بعض القرى مكانتها الدافئة في أعماق النفس.. كتبتُ عن المنامة لأنها مسقطُ رأسي، ونشأتي في القضيبيَّة، ومسقط رأس والدي وأجدادي وأعمامي، ما كانَ له دورًا في الهامي نصًا بعنوان «يا منامة» أقول فيه: «لا تنامي.. يا منامة/ فبينَ حروفكِ يتأرجحُ النعاسُ ويتثاءبُ النوم/ لتستريحي مع سُبات الجسور/ فتُطلُّ عليكِ المحرَّقُ وأنتِ تُغالبينَ رغبة اليقظة/ فتضحك وتُدندنُ معكِ أُغنية السلام/ مع نورسٍ يتمطَّى على رُذاذ السواحِل، ويُداعبُ نُدف الغيماتِ حولَ الصَّواري».
ومن عشقها لمدينة المنامة وجَّهت دفَّة ولعها نحو المحرَّق، مسقط رأس والدتها رحمها الله، حيث كانت تصطحبها خلال مرحلة الطفولة إلى بيت الجدَّة والأخوال وبقيَّة الأهل في «البيت العود»، وهناكَ كانت ذاكرتها تستمتع باختزان مشاهد لم تُنسَ مثل لعب الأطفال، وجبة القدوع، حكايا الغوص، البيوت المنقوشة، الطواويس المرسومة على الجدران، كل هذا ألهمها نص «يا المحرَّق.. يا الدَّانة!» في ستة مشاهِد، يبدأ النص بـ: «تحكي لذ الذاكرة/ وأنا أعبر الجسر العتيق/ وتعودُ بي أعوامًا وسنين/ فأتشوَّقُ إليكِ يا محرَّق/ ومن أعماق الطفولة أكتُبُ الحروفُ التي سطَّرها الحنين/ عندما كنتُ أشبكُ أصابعي الصغيرة في أطراف عباءتكِ.. يا أمي.. ونمشي».
بعدَ القاء باقةٍ من النصوص الشعريَّة برفقة أنغام عود العازف محمد العبيدلي؛ حان وقت النص الأخير بعنوان: «في كُل عام» ليُطلَّ على العام الجديد بالحُب والأمل عبرَ هذه الكلمات: «سأبدأ العام الجديد.. بحُبّك/ بعصفورٍ تركَ صوتهُ على أذرُعِ سدرةٍ خضراء/ وبفراشاتٍ استعارَت ألوانها من لونِ الفرَح!/ وبموجةٍ جاءت تُحيي سواحِلَ الجزيرة/ وتحضنُ بها الرذاذ الجميل/ سأبدأ العام الجديد.. بشوقِك/ بالندى يُطلُّ من مُحيَّا المزارِع/ بالعطرِ يملأ الطرقات حولَك/ بصدى مواويل الصيف.. وأغنيات الشِّتاء/ بالوردِ يكسو كوبَ الشاي حينما أحتسيهِ في الصباح/ بقطعِ الكعكِ تستلقي على طبق البلّور.. وتبتسمُ لصورتكَ التي انطبعَت في عيوني».
ومع آخر كلمات النصوص المُلقاة في حفل التدشين، يتأكد للمُنصتين مصداقيَّة رأي الناقد د. كما الذيب الذي رأي أن الشاعرة «تمتلك القُدرة على شحن القصيدة بالوجدان، والبحث الجمالي الذي لا ينضب ولا يتوقف عند حد، ولذلك فإن المُتابع لهذه التجربة لا يُخطئ تلك الغنائيَّة الرومانسيَّة المغموسة في عشق الوطن، فيكتشف أنها وفيَّة لذات الرؤية التي أسست لها منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، إلا أنها انتقلت داخلها، ومن دون قفزٍ أو عناء إلى تجربةٍ شِعريّةٍ مُكتملةٍ من الناحية الفنيَّة في ديوانها (أُطلُّ على هذا القلب)».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك