يبقى تاريخ النساء في البيئات المُحافظَة مُجتمعيًا رهينَ ذاكرة النصف الأنثوي الخجول من المُجتمع، محرومًا من حُريَّة التعبير والتداوُل بصورة تهَبُ الإجحاف الذي يتعرَّضنَ له عُمرًا أطول وسُلطةً أكثر امتدادًا، ومع نِعمة نيل المرأة حقها في التعليم والتعبير عن آمالها وأحلامها وطموحاتها ومخزون ذاكرتها بالكلمات المكتوبة القادرة على السفر من عقلٍ إلى آخر ومن أرضٍ إلى غيرها؛ يتمكَّن هذا التاريخ من كسر قيد التناقل الشفهي المحدود بين امرأة وأخرى مُمتطيا صهوة جواد حُريته المُجنَّحة التي تُحلِّق به في سماوات التعبير دون حدود، وهو ما يراهُ القارئ لـ «سيرة تعبة» التي دوَّنها قلم الأديبة د. جميلة الوطني؛ مُفصحةً عن خبايا حكاية دراميَّة حقيقيَّة نسجتها يد القدر على أرض الواقع لامرأةٍ من هذا المُجتمع.
يهتِف مضمون الكِتاب بصوتِ جُرأته الطاغية، التي يندر مُصادفتها بين سطور إصدارٍ عربي يحكي جانبًا من سيرةٍ ذاتيَّة أو أُسريَّة، فالكاتبة العربية الأنثى معروفة بالتزامها جانِب والتعتيم والتمويه في هذا السياق مُقارنة بالكاتبات الفارسيَّات أو اليابانيَّات والكوريَّات، من هُنا يمُكننا القول أنَّ تمكُّن قلم د. جميلة من القفز فوق تلك الأسلاك الشائكة لا يمكن اعتباره إلا فوزًا لكاتبة عربيَّة في معركتها ضد الخضوع للرهبة وصولاً إلى مرحلة الانعتاق من سطوة نظرة المُجتمع التي لا يحق لها سلبَ حق الأديب في البوح والإفصاح، ويبدو أن البسالة الكامنة في تلك الشخصيَّة تجلَّت منذ مرحلةٍ مُبكرة، منذ عهد الطفولة الذي تجرَّأت فيه تلك الطفلة المُتمرِّدة سائلةً والدتها: «أمّاه.. ليش انتين شكلش غير وما عندش ضروس قدَّام؟ وخالتي كلّش حليوه لكن انتين غير عنها؟ يعني بظّلّين هالشكل؟!.. صـ113»
تحت الحاح الابنة تحكي الأم حكايتها بعينين حزينتين تنضحان بالدموع، بدءًا من يوم خروجها إلى الدنيا من رحم والدتها التي واجهت خطرَ الموت عند الولادة حين أنجبتها في ثلاثينيَّات القرن العشرين «في منزلٍ بسيطٍ عبارة عن برستج مصنوع من سعف النخيل، دون كهرباء؛ حيث اقتصرَت الكهرباء على بعض المحلات وبعض البيوت في قلب المنامة العاصمة، أمَّا الماء فكان من صنابير المياه، أمَّا بقيَّة القُرى فقد اقتصر جلب الماء على البئر الموجود في إحدى زوايا الحوش، أو من الآبار البعيدة عن المنازل.. صـ52»، مرورًا بليلة إصابتها بمرضٍ غريب «لا يُعرف له تشخيص في تلك الفترة من الزمن، لوحِظ بعض الديدان البيضاء تخرج من جوف أنفها، وبعضها الآخر نخر عظمة الأنف.. صـ 58»، تلك المحنة أدَّت إلى آثار جسديَّة بارزة كان منها أن «أُصيبت بتشوُّه في أنفها جعله أفطس، لا يتكئ على عظمة الأنف بشكلٍ لافِت، ودون أسنان أماميَّة، قيل عنها أنها نتيجة نخر الديدان جذور الأسنان.. صـ67»، ثم مرض والدها الذي أقعده عن العمل ما أدى إلى تزويجها عند التاسعة من عمرها برجلٍ متزوِج له أطفال بعمرها مقابل حفنة من الروبيات، ليتركها العريس لأمّه التي مارست من خلالها ما مرَّ بها من مكرٍ سابق وتستغلّها في الخدمة الشاقَّة لكافة أفراد عائلة الزوج، وما أن زارتها دماء الإعلان عن الأنوثة أوَّل مرَّة حتى نقلت الخبر لابنها الذي طلب من أمه إخباره فور انتهائها ليهجم عليها مُتعاملاً معها بأسلوبٍ ينم عن وجهة نظر سريريَّة جسديَّة خالية من الرأفة والإحساس لتغدو امرأة مُكرَّسة للفراش والخدمة المنزليَّة، وتنجب أطفالاً ثلاثة يموتون رُضعًا قبل أن تفيض روح والدهم بعدهم فتُمسي أرملة في السابعة عشرة من عمرها، وتعود إلى منزل والدها لتعتني بوالدتها الضريرة وأختها المُعنَّفة، إلى أن جاء اليوم الذي يطرق فيه باب عائلتها «شابٌ وسيم، عيناه بُنيتان برموشٍ كثيفة، حنطي البشرة، ذو شعرٍ أسود ناعم، يعمل نجارًا، أرمل من ابنة عمّها مريم التي وافتها المنيَّة بعد ولادتها، وتركَت طفلها عيسى بعد ستة أشهُر.. صـ90»، ولا يتركها القدر لتلك السعادة حتى تُنكب بالإجهاض 15 مرَّة في زواجها الثاني، وتستكمل حياتها مع محطاتٍ حزينة لا تكاد تُختتم إلا بوفاتها.
نقل الكتاب مضمونهُ السردي للقارئ على زورق تعابير أدبيَّةٍ ساحِرة تجمع بين السهولة والأناقة، إذ لا يمكن أن يستوقفك الوصف في قول السَّاردة: «على مسامِع صهيل البحر..صـ13»، وفي قولها: «ظلَّ يُسدِل راحتهُ على الشواطئ..صـ18»، وصولاً إلى قولها بين سطور صـ40: «مرَّ وقتٌ يجرُّ خلفهُ الألم جرًا، ويركُلُ ويدوسُ بعرباته الأمَل..صـ40».. وامتاز بتصوير حياة المرأة في تلك الفترة بعيون ومشاعر أنثويَّة، عندما كان «يُعاب ذكر اسم الأنثى؛ حتى يُضطر المُتحدث إلى أن يُناديها باسم والدها لا بكُنية بناتها!.. صـ29»، و«صوت النسوة على الرغم من كل الأحداث، وبأي ظرفٍ ومكان؛ يُعد عورة.. صـ40»، وكيف كان الناس في المُجتمع طيبون بُسطاء «يؤمنون بالله، ويستعينون بالقرآن الكريم والأدعية والتوسُّل بالصالحين وبعض البخورات لتطهير المنازل، والحفاظ على أهم ما يملكون في تحديهم للطبيعة والظروف، وحربهم ضد الجان والشياطين والسحر والحسَد.. صـ59»، ولم يُغفِل الكتاب التوثيق التاريخي الأمين لمراحل من تاريخ البحرين كانت عُنصرًا زمنيًا لأحداثِه، وتضمَّن باقةً من الصور الضوئيَّة لبعض أماكن تلك السيرة وشخصيَّاتها، كما تخللتهُ مُصطلحات محليَّة من صميم البيئة المكانيَّة والمُجتمعيَّة مثل: الزرنوق، السّيف، امسيَّان، مِشمَر، البَرَستَج، القاعوديَّة، الرشوف، الكاروكة، المَنَز، الزيلة، الفنَر، البخنق، البنقلة.
بفضلِ شجاعة هذا القلم الأدبي الأنثوي أُنصِفَت بطلة تلك السيرة «تعبًة» بمنحها حياةً مُمتدة قادرة على النجاة والسفر أجيالاً قادمة، لكن تُرى كم «تعبةٌ» أُخرى باسمٍ وشكلٍ ومكانٍ مُختلِف أمسَت حكاياتها رمادًا تذروه رياح النسيان لأنها لم تحظَ بقلمٍ قادرٍ على إنجابها بهيئة كتابٍ يوثق بطولتها المُهمَلة؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك