ماذا لو انقلبَ الواقع إلى عالمٍ تملك فيه المرأة زمام السُّلطَة المُطلقة؛ لتحكُم وتُشرّع القوانين التي تحُدُّ من شأن إرادة الرجُل أو تُلغيها مُنتقمةً من ماضٍ استغلَّت فيه السُّلطة الرجوليَّة نفوذها وقوَّتها المُتراكمة عبر تسلسُل أحداث التاريخ لتجاوز حدود العدل والتعدّي على حقوقها؟ سؤالٌ تمتدُّ إحدى إجاباته المُحتملة على صفحات رواية «الاستدارة الأخيرة» لمؤلفها الأديب الكويتي أحمد الزمام، لتحرّض أحداث الرواية ذهن القارئ نحو قرع أبواب المزيد من التساؤلات التي اختارت هيئة البحرين للثقافة والآثار بالتعاون مع جمعيَّة «كُلُّنا نقرأ» مُحاوَلة فك بعض ألغازها باستضافته في نادي البحرين ضمن مُبادرة «كتاب ومكان».
في مكتبة النادي التي تقف الكتُب على رفوفها حُرَّاسًا لهيبة أجوائها المحفوفة بقدسيَّة الحروف والكلمات؛ التقى عُشَّاق القراءة بالمؤلّف ورئيس اللجنة الثقافيَّة في رابطة الأدباء الكويتيين الذي استمتعَت مُخيّلاتهم بالتحليق في عالم أحداث روايته، وكانت رئيس جمعية «كلنا نقرأ» القارئة النهمة أمينة الرويعي همزة الوصل التي تدير الحوار بين الأديب وٌقُرَّائه في رحلة السؤال والجواب، وكانت الآذان تُصغي باهتمامٍ لكلماته حين قال: «دعوني أحكي لكُم ما أدَّى إلى ميلاد هذه الرواية.. كانت الفكرة – مع بدء تأليف الكِتاب- اختيار قالب المُراسلات بين امرأةٍ ورجُل يتناولان القضايا التي تطرَّقَت إليها الرواية بما في ذلك محطَّات زيف التاريخ والصراع بين الرجُل والمرأة عبر التاريخ، لكنني – فيما بعد- شعرتُ بأن هذا القالب قد يكون تقليديًا إلى حدٍ ما، فجنحتُ إلى اختيار القالب الروائي بأسلوبٍ حاولتُ قدر المُستطاع أن يتجنَّب الوقوع في فخ التكرار.. أمَّا عن سبب الانطلاق من رؤية تاريخيَّة للأحداث؛ فهو اهتمامي الخاص بالتاريخ؛ لا سيما بمسألة ثبات المواقِف مع تغيُّر الأشخاص على مرّ الأزمان، لذا فإن من يتمتع بالسُّلطة لا بُد أن يقرأ التاريخ للاستفادة من تجارب الماضي، كما أنَّ مساحات الزيف التاريخي وتناقضاته مُحرّضة لسِباحة العقل في بِحاره على أمل الوصول إلى مرافئ إجاباتٍ قادرة على الإقناع».
وعن الوسيلة المُثلى للإمساك بالأفكار وبلورتها على الصفحات من وُجهة نظره أجاب: «لكُل كاتب طريقته في الكِتابة، قد يكون من الحِكمة الخط العريض لفكرتنا أولاً لتقليل احتمالات التشتُّت؛ ثم يأتي دور البحث عن الرّداء الأدبي القادر على احتوائها بأجمل طريقة مُمكنة تتلاءم مع أهدافها ومع شريحة الجمهور المُتوقَع لتلقّيها. بالنسبة إلي خلال وقت كتابة رواية «الاستدارة الأخيرة» شعرتُ بما يُشبه الضياع في دائرةٍ من التّيه، لا سيما مع تشعّب الأفكار العميقة المُرتبطة بالصِّراعات التاريخية والحضارات العتيقة والأساطير إضافةً لبعض المُعتقدات الفلسفيَّة، فسجلتُ نقاطًا تكون أقرب إلى الشموع التي أهتدي على ضوئها في طريقي الغامِض، بينما تركتُ الأحداث والنهايات تنساب شيئًا وشيئًا وفق تطوّر الشخصيَّات دون قيود».
عنوان «الاستدارة الأخيرة» هو الآخر نال نصيبه من التساؤلات التي أجاب عنها بقوله: «من أين يبدأ بطل الرواية؟ غالبًا ما تنطلق تلك البداية مع ولادة سؤالٍ مُلِحٍ، يتطور السؤال إلى مُحاولاتٍ محمومةٍ للبحث عن إجابة، بالنسبة لي وجدتُ نفسي سائرا في دوائر تاريخيَّة مُتتالية ومُتداخِلة، ومن هُنا جاء العنوان». أما عن بناء الشخصية لتلائم الفكرة فقد قال: «لا بد من وضع الشخصية في صراع، وصراع البطل في هذه الرواية بدأ من الطفولة، عندما كانت عمّته تُملي عليه تعاليم مفادها أن الرجال هم أصحاب السُّلطة والنفوذ وصُنع القرار، لكنه يُصدم فيما بعد بواقعٍ يتناقض مع ما تلقَّاه، لذا نشأ في بيئة مُضطربة إلى حدٍ ما أدَّت إلى نشوب هذا الصراع»، ويُضيف: «أعترف أنني عشتُ حالةً تُشبه الضياع مع بدايات كتابة الرواية، فوددتُ أن يجتاز القارئ تلك المشاعر معي ويجرّبها ويغوص فيها من خلال مُعايشته الأحداث.. فأي كتابة لا تسمح للمُتلقي بتقمُّص هذا النوع من المشاعر المتنوعة لن تُقدم له تلك اللذة الروحيَّة التي يستحقها».
سر نجاحه كرجُل في سرد الرواية من وُجهة نظر المرأة ومُحاولة الإفصاح عن مشاعرها بعيدًا عن المُباشَرة لم يعُد سرًا للقرَّاء بعد أن أفصح قائلاً: «ما دمتُ قد تبنيتُ تلك الفترة واعتمدتُ عليها فلا بد وأن أجتهد في البحث والاستقصاء بشأنها، عندما حاولتُ متابعة تاريخ النساء من بدء التاريخ حتى اليوم فوجئت بالشح الواضح في عدد المؤرِّخات، أكثر المعلومات التي تصل عن المرأة كانت شفهيَّة، بدا وكأن ثمة تعمدٌ واضح لطمس حقائق كثيرة تخص حياتها في تلك الأزمان.. لقد حاولتُ التنفيس عن غضب المرأة بصوت قلمي، لا سيما أن تعاملي مع والدتي وأخواتي وزوجتي وبناتي وهبني بعض المعرفة التي يمكن توظيفها في هذا النص الروائي»، ليستطرد بعدها موضحًا: «لقد اعتمدتُ في كتابة روايتي على التاريخ، ومن خلال قراءتي التاريخ وجدت أن المرأة هي أوَّل ما تم اعتباره إلها معبودا في الحضارات القديمة، وبالنظر إلى حال المرأة الآن – مُقارنة بالتقديس في ذاك الزمان- لا بُد وأن نتساءل عن التسلسل التاريخي الذي أدى إلى هذه النتيجة.. ثمة نساء كثيرات لهُن صولات وجولات وبصمات مُضيئة على صفحات التاريخ بما فيها أحداث الحروب بين القبائل العربية مع مؤشرات مُريبة لطمس مواقفهن، ما تسبب بإيقاظ شكوكي المعرفيَّة ودفعني للبحث أكثر ثم الكتابة».
الصوت المُتألم وراء عبارة «المعرفة شقاء، وربما تلك هي التي ترتبط بحقيقتنا المأساوية» من روايته كان محورًا من محاور المُناقشة، فهل يعتقد أن سعي بطل روايته وراء الحقيقة بهدف تغيير خط سير أحداث حياته صورة من صور الشقاء التي مرَّ بها؟.. هُنا رد بثقة: «ما قصدته بالشقاء في الرواية هو ما يرتبط بالصراع الحاصل على مسرح أحداثها، فالبطل في انشغالٍ دائم بالبحث عن إجابة ما تجعله في مواجهةٍ مع انفجارات الحقائق غير المتوقعة، وبالمُقابل نرى وجهًا آخر لاستخدام سلاح المعرفة مُتمثلاً بأسلوب استخدام شخصيَّة الأستاذة الجامعيَّة في الرواية لهذا السلاح في سبيل خدمة القضيَّة التي تؤمن بها».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك