العدد : ١٧٢٥٦ - السبت ٢١ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٥ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٥٦ - السبت ٢١ يونيو ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٥ ذو الحجة ١٤٤٦هـ

الثقافي

كشف هيئة

بقلم: محمد فيض خالد

السبت ٢١ يونيو ٢٠٢٥ - 02:00

اجتمع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬في‭ ‬مندرة‭ ‬الحج‭ ‬‮«‬سعفان‮»‬‭ ‬كبير‭ ‬عائلة‭ ‬‮«‬المرازقة‮»‬،‭ ‬امتلأ‭ ‬بهم‭ ‬الكنب،‭ ‬أما‭ ‬‮«‬سعدية‮»‬‭ ‬فجلست‭ ‬ملتصقة‭ ‬بالجدار،‭ ‬افترشت‭ ‬الأرض‭ ‬مغمومة،‭ ‬لم‭ ‬يبق‭ ‬لها‭ ‬غير‭ ‬فتات‭ ‬الأمل،‭ ‬قد‭ ‬اعتمدت‭ ‬يدها‭ ‬تسند‭ ‬رأسها‭ ‬المثقل‭ ‬بالهموم‭ ‬التي‭ ‬تخوض‭ ‬أوحالها،‭ ‬توزعت‭ ‬العيون‭ ‬‮«‬رمضان‭ ‬الدكش‮»‬‭ ‬ابنها‭ ‬الوحيد،‭ ‬ساد‭ ‬صمت‭ ‬خانق،‭ ‬لكن‭ ‬ورغم‭ ‬جدية‭ ‬المشهد،‭ ‬فقد‭ ‬بلل‭ ‬الابتسام‭ ‬الوجوه‭ ‬المتصلبة،‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬دارت‭ ‬كؤوس‭ ‬الشاي‭ ‬الفواح،‭ ‬انتهبت‭ ‬الأيدي‭ ‬الصينية‭ ‬في‭ ‬غمغمة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتناوب‭ ‬الجلوس‭ ‬غابة‭ ‬الجوزة‭ ‬يمتصون‭ ‬دخانها‭ ‬ثم‭ ‬يقذفونه‭ ‬في‭ ‬انتشاء،‭ ‬في‭ ‬الخارج،‭ ‬توقفت‭ ‬تماما‭ ‬حركة‭ ‬الزقاق،‭ ‬اغرق‭ ‬المكان‭ ‬في‭ ‬صمته،‭ ‬لملمت‭ ‬الكلاب‭ ‬أذيالها‭ ‬وانكمشت،‭ ‬وتربع‭ ‬النسوة‭ ‬أمام‭ ‬البيوت‭ ‬يأكلهن‭ ‬الفضول‭ ‬الجائع،‭ ‬وأسماعهن‭ ‬تلعق‭ ‬جدران‭ ‬المندرة‭.‬

أما‭ ‬‮«‬رمضان‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬تلهى‭ ‬بكوب‭ ‬الشاي‭ ‬الكبير،‭ ‬يدسه‭ ‬بين‭ ‬شفتيه‭ ‬العراض،‭ ‬يتتابع‭ ‬مصه‭ ‬متلذذا‭ ‬في‭ ‬بله،‭ ‬كتم‭ ‬الرجال‭ ‬ضحكاتهم‭ ‬بين‭ ‬تلافيف‭ ‬ثيابهم،‭ ‬بدت‭ ‬المرأة‭ ‬وقد‭ ‬توشحت‭ ‬بحيرتها،‭ ‬تعلق‭ ‬قلبها‭ ‬بالوجوه‭ ‬من‭ ‬حولها،‭ ‬تطالعهم‭ ‬في‭ ‬ترجي‭ ‬وانكسار،‭ ‬تعود‭ ‬سريعا‭ ‬تغرق‭ ‬ابنها‭ ‬في‭ ‬اشفاق،‭ ‬حدد‭ ‬الحاج‭ ‬‮«‬سعفان‮»‬‭ ‬هذه‭ ‬الجلسة‭ ‬الطارئة،‭ ‬واختار‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬العائلة‭ ‬أرشدهم،‭ ‬أرادت‭ ‬المرأة‭ ‬أن‭ ‬تفرح‭ ‬بوحيدها،‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬هالة‭ ‬من‭ ‬الانشراح،‭ ‬تخايل‭ ‬وجهها‭ ‬الأسمر‭: ‬‮«‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يجلو‭ ‬عقله‭ ‬ويعدل‭ ‬مزاجه،‭ ‬ويمنحه‭ ‬النباهة‭ ‬غير‭ ‬الزواج‮»‬،‭ ‬جلس‭ ‬الحاج‭ ‬‮«‬سعفان‮»‬‭ ‬يشيع‭ ‬صاحبنا‭ ‬بعين‭ ‬كليلة،‭ ‬عدل‭ ‬ياقة‭ ‬جلبابه‭ ‬الكشمير،‭ ‬قائلا‭ ‬في‭ ‬رزانة‭: ‬‮«‬تقدر‭ ‬تعد‭ ‬الفلوس‭ ‬كويس‭ ‬يا‭ ‬ولد‮»‬،‭ ‬مد‭ ‬يده‭ ‬إلى‭ ‬جيبه‭ ‬واخرج‭ ‬حفنة‭ ‬من‭ ‬الفكة‭ ‬،‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬وبدأ‭ ‬يقلبها‭ ‬في‭ ‬صرامة،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ينثرها‭ ‬في‭ ‬حجر‭ ‬صاحبنا‭ ‬الذي‭ ‬زاغت‭ ‬عيناه‭ ‬مع‭ ‬كثافة‭ ‬الرنين،‭ ‬شرع‭ ‬في‭ ‬تقليبها‭ ‬ضاحكا،‭ ‬أخذ‭ ‬الصمت‭ ‬بأعناق‭ ‬الرجال،‭ ‬عاود‭ ‬‮«‬رمضان‮»‬‭ ‬النظر‭ ‬لوالدته‭ ‬مرارا،‭ ‬حينها‭ ‬جعلت‭ ‬المرأة‭ ‬تجمع‭ ‬طرف‭ ‬ثيابها‭ ‬،‭ ‬تحكمها‭ ‬من‭ ‬حول‭ ‬قدميها،‭ ‬هزت‭ ‬رأسها‭ ‬مشجعة‭ ‬إياه،‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬يلا‭ ‬وري‭ ‬أعمامك‮»‬،‭ ‬هرش‭ ‬شعره‭ ‬الهائش،‭ ‬ابتلع‭ ‬ريقه،‭ ‬يستعد‭ ‬لمهمته‭ ‬العسيرة،‭ ‬أطرق‭ ‬طويلا‭ ‬يحدق‭ ‬في‭ ‬النقود‭ ‬المتناثرة‭ ‬في‭ ‬حجره،‭ ‬مسها‭ ‬بيده‭ ‬المعروقة‭ ‬مسا‭ ‬خفيفا،‭ ‬وفي‭ ‬حماس‭ ‬شرع‭ ‬يعد‭: ‬‮«‬عشرة‭....‬عشرين‭...‬تلاتين‭..‬‮»‬،‭ ‬غاب‭ ‬في‭ ‬حسابه،‭ ‬تهللت‭ ‬أساريره‭ ‬أخيرا‭ ‬بالفرح،‭ ‬ليردد‭ ‬صارخا‭: ‬‮«‬أربعة‭ ‬وخمسين‭ ‬جنيه‭ ‬وتلاتين‭ ‬قرش‮»‬،‭ ‬شاغبت‭ ‬ابتسامة‭ ‬دافئة‭ ‬وجه‭ ‬الشيخ،‭ ‬تحركت‭ ‬على‭ ‬إثرها‭ ‬حبات‭ ‬مسبحته‭ ‬الكهرمان‭ ‬في‭ ‬رضا،‭ ‬توالت‭ ‬الأسئلة‭ ‬من‭ ‬أعمامه،‭ ‬لم‭ ‬تخرج‭ ‬في‭ ‬أغلبها‭ ‬عن‭ ‬ذكر‭ ‬أسماء‭  ‬قرى‭ ‬الزمام‭ ‬وترتيبها،‭ ‬أخفت‭ ‬المرأة‭ ‬وجهها‭ ‬داخل‭ ‬حرامها‭ ‬الصوف‭ ‬،وقد‭ ‬نبتت‭ ‬في‭ ‬عينيها‭ ‬الدموع،‭ ‬آن‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تطمئن‭ ‬على‭ ‬المسكين‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬ترحل،‭ ‬ليرزق‭ ‬بابنة‭ ‬الحلال‭ ‬التي‭ ‬ترعاه‭ ‬من‭ ‬بعدها،‭ ‬وتهبه‭ ‬الذرية،‭ ‬قفزت‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬همة،‭ ‬دست‭ ‬يدها‭ ‬في‭ ‬عبها‭ ‬واخرجت‭ ‬منديلا،‭ ‬حلت‭ ‬عقدته‭ ‬بأسنانها‭ ‬،‭ ‬فردته‭ ‬أمام‭ ‬الشيخ،‭ ‬تدحرجت‭ ‬لفافة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الورق‭ ‬لفئات‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬العملة،‭ ‬عاجلتها‭ ‬في‭ ‬انكماش‭: ‬‮«‬تحويشة‭ ‬العمر،‭ ‬ادخرتها‭ ‬مهرا‭ ‬لهذا‭ ‬المسكين‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬غابت‭ ‬في‭ ‬نهنهة‭ ‬مفتعلة،‭ ‬جعلت‭ ‬تتعثر‭ ‬في‭ ‬دموعها،‭ ‬نظر‭ ‬الجميع‭ ‬إليها‭ ‬وابتسامة‭ ‬تتجمد‭ ‬فوق‭ ‬الشفاه،‭ ‬إنهم‭ ‬يعرفون‭ ‬‮«‬الدكش‮»‬‭ ‬ويدرون‭ ‬مصائبه،‭ ‬وانفلات‭ ‬خلقه‭ ‬،لدرجة‭ ‬لم‭ ‬تسلم‭ ‬منها‭ ‬امرأة‭ ‬أو‭ ‬فتاة،‭ ‬ولولا‭ ‬شوكة‭ ‬عائلته،‭ ‬لأصابه‭ ‬ما‭ ‬يصيب‭ ‬كل‭ ‬متفسخ‭.‬

ابتسم‭ ‬‮«‬رمضان‮»‬‭ ‬ابتسامة‭ ‬لزجة‭ ‬وهو‭ ‬يردد‭ ‬في‭ ‬انتشاء‭: ‬‮«‬اريد‭ ‬عائشة‭ ‬ابنة‭ ‬شيخ‭ ‬الخفر‭ ‬سباعي‮»‬،‭ ‬عاود‭ ‬الابتسام‭ ‬يندي‭ ‬الوجوه،‭ ‬أما‭ ‬هي‭ ‬فظلت‭ ‬عيناها‭ ‬لا‭ ‬تطرفان‭ ‬عنه،‭ ‬كان‭ ‬كلامه‭ ‬كفيلا‭ ‬بأن‭ ‬يدير‭ ‬الرؤوس‭ ‬إليه،‭ ‬لازم‭ ‬الحاج‭ ‬‮«‬سعفان‮»‬‭ ‬صمته،‭ ‬وعشرات‭ ‬الأسئلة‭ ‬تنتهب‭ ‬رأسه،‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع‭ ‬بالتمام‭ ‬فاضت‭ ‬الدار‭ ‬بالزغاريد،‭ ‬زفت‭ ‬إليه‭ ‬الفتاة،‭ ‬وافق‭ ‬شيخ‭ ‬الخفر‭ ‬دون‭ ‬تفكير،‭ ‬كيف‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬يضيع‭ ‬من‭ ‬يده‭ ‬عشرة‭ ‬أفدنة‭ ‬من‭ ‬أجود‭ ‬الأراضي،‭ ‬وخمس‭ ‬بقرات،‭ ‬خلاف‭ ‬المال‭ ‬المكنوز،‭ ‬عما‭ ‬قريب‭ ‬سيصبح‭ ‬هذا‭ ‬الأخرق‭ ‬عجينة‭ ‬سهلة‭ ‬في‭ ‬يده‭ ‬ابنته‭  ‬‮«‬صفية‮»‬‭ ‬تشكلها‭ ‬كيف‭ ‬شاءت‭.‬

مرت‭ ‬الأيام‭ ‬رتيبة،‭ ‬ليعود‭ ‬من‭ ‬بعدها‭ ‬‮«‬الدكش‮»‬‭ ‬سيرته‭ ‬الأولى‭ ‬ملء‭ ‬السمع‭ ‬والبصر،‭ ‬يقضي‭ ‬سحابة‭ ‬نهاره‭ ‬عند‭ ‬الموردة،‭ ‬يتغزل‭ ‬في‭ ‬المارة،‭ ‬فشلت‭ ‬‮«‬صفية‮»‬‭ ‬في‭ ‬ترويضه،‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬‮«‬سعدية‮»‬‭ ‬وقد‭ ‬عادت‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬تفترش‭ ‬مندرة‭ ‬الحاج‭ ‬‮«‬سعفان‮»‬‭ ‬تنثر‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬منديلها،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬الاختبار‭ ‬ينعقد،‭ ‬وكبير‭ ‬العائلة‭ ‬ينفض‭ ‬غضبه،‭ ‬والمرأة‭ ‬تجلس‭ ‬في‭ ‬استسلامها،‭ ‬ووجوه‭ ‬القوم‭ ‬تشيعها‭ ‬وولدها‭ ‬بابتسامة‭ ‬مرة،‭ ‬تلي‭ ‬الرجل‭ ‬سؤاله‭ ‬بصوت‭ ‬متحشرج‭: ‬‮«‬واد‭ ‬يا‭ ‬رمضان‭ ‬تعرف‭ ‬السنة‭ ‬فيها‭ ‬كم‭ ‬شهر،‭ ‬والشهر‭ ‬اللي‭ ‬قبل‭ ‬رمضان‭ ‬اسمه‭ ‬إيه؟‮»‬‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا