الترجمة الشعرية ليست مجرد نقل للكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي عبور حميم بين بيئتين لغويتين وثقافيتين؛ كأنها رحلة في نهر يتدفق بين ضفّتين متقابلتين لا تتشابهان، بل تتجاوران في انحياز كل منهما إلى نبرة وصوت وتاريخ مغاير، ولأن الشعر أكثر الأجناس الأدبية التصاقًا بالوجدان، والمجاز والموسيقى الخفية؛ فإن نقله إلى لغة أخرى يُعدّ اختبارًا بالغ الصعوبة، لا فقط من جهة المعنى، بل من جهة النبرة والوزن والدلالة، هنا تحديدًا، تتجلى إشكالية «الضفاف المتقابلة»؛ فهل يمكن أن تتجاور ضفتا اللغة دون أن تبتلع إحداهما الأخرى؟ وهل تُعد هذه البيئة المتقابلة بيئة مواتية حقًا لترجمة الشعر؟
ينبهنا جون سيمون (1925 - 2019) إلى أن «ما يُفقد في الترجمة، هو الشعر نفسه»، وهي مقولة لا تندرج في باب التهويل، بقدر ما تؤسس لوعي صلب بجوهر الشعر بوصفه طاقة لغوية محمّلة بالرنين الداخلي، والبناء الإيقاعي، والدلالات الثقافية التي لا يمكن استنساخها ببساطة؛ ذلك أن موسيقى اللغة الأصلية، بما فيها من تكرار ونبرات وإيقاعات، لا يمكن مطابقتها بنسق آخر من المفردات غير المتجانسة أصلاً من حيث البنية الصوتية.
ولأن هذا الفقد محتمل حدوثه؛ كان لا بد من ابتكار أدوات ترجمة تستوعب هذا الفارق من دون أن تقع في هوة الإخلال بروح النص.
من هنا، يتضح لنا أن هذه الضفاف المتقابلة لا تشكل بيئة عدائية متنافرة مع ترجمة الشعر، لكنها تفرض شروطًا دقيقة تتطلب حرفة وصبرًا وإدراكًا مزدوجًا بين بنيتين لغويتين لا تلتقيان إلا في لحظة إبداعية وامضة بالغة الحساسية.
كمثال من عديد، يمكن أن تبرز تجربة ترجمة أعمال الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا (1889 - 1966) نموذجًا مدهشًا للعبور بين هاتين الضفّتين؛ فأخماتوفا، التي تميزت بتكثيف لغوي رفيع وصفاء في صدق التجربة (للمزيد مأوى الغريب ح. بحراوي)، وبمجازات عاطفية وتاريخية مشحونة، كانت تمثل تحديًا صريحًا لكل من حاول نقل قصائدها إلى لغات أخرى، والسبب في ذلك يعود إلى أنها لا تكتب عن تجربة فردية فقط، بل عن سياق جمعي مأزوم، وعن ذاكرة جماعية مشبعة بالخذلان والانتظار والتوتر، من هنا؛ فإن ترجمة قصيدة واحدة لها لا تنفصل عن ترجمة تاريخ كامل من الوجع والحنين إلى اللغة بوصفها حاجز الدفاع الأول عن الهوية ومن ثم عن الوجود، بيد أن المترجمة جوديث هيمششماير حين وضعت نسختها الكاملة لأعمال أخماتوفا، لجأت إلى استراتيجيات دقيقة، مثل استخدام القافية غير التامة، أو التكرارات الصوتية الجزئية، والمجاورات النغمية؛ وذلك كي تحفظ للنص روحه حتى وإن لم تحفظ هيكله البنائي الصارم.
فهذه المقاربة التي تحاول أن تعيد إنتاج الإيقاع لا شكله، تُعد أحد أبرز الأمثلة على إمكان الترجمة الشعرية عندما تُمارس بوصفها فنًا مستقلاً، وليس فقط أداة توصيل بين مفردتين.
وفي المقابل، تُبرز المترجمة والباحثة رندا أبو بكر في تجربتها أهمية الحفاظ على الرنين العاطفي للنص الأصلي بوصفه معيارًا أسمى من مجرد الحفاظ على البنية الإيقاعية أو المجازية؛ لأن الشعر، في رأيها، يتجلى في الانفعال العميق أكثر مما يتجلى في هندسة اللفظ وتموضعه في سياق الجملة؛ وهو ما يجعل من الضفاف المتقابلة فضاءً خصبًا، لا للصراع أو التنازل، بل للتجاور الخلّاق، حين يلتقي شاعرٌ بلغته ومترجمٌ بلغته الأخرى؛ ليخلقا نصًا ثالثًا، لا هو الأصل ولا هو الفرع، بل هو كيان جديد ينتمي إلى الاثنين في آن.
وإذا أردنا أن نعود إلى البدايات المؤسسة لفهم الترجمة الشعرية بوصفها فعلاً مزدوجًا من الفهم والتأويل، فإن تجربة الشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821 - 1867) تستوقفنا بقوة،
لم يكن بودلير مجرد شاعر طليعي في أيقونة «أزهار الشر»؛ بل كان أيضًا مترجمًا حيويًا لأعمال إدجار آلان بو، وقد عبر بوضوح في مراسلاته ومقدماته عن أن الترجمة فعل إبداعي لا يقل عن التأليف نفسه، فلم يكن ينقل قصائد بو من الإنكليزية إلى الفرنسية بصفته ناقلًا محايدًا، بل بصفته شاعرًا يتقمص الآخر؛ ليعيد توليده وإنتاجه، ويمنحه صوتًا داخليًا جديدًا يتماهى مع روح النص الأصلي من دون أن يذوب فيه.
لقد فهم بودلير أن الترجمة الشعرية هي نوع من «المرآة الكاسرة»، لا تعكس الصورة فحسب؛ بل تفككها وتعيد بناءها بضوء مختلف، وهو ما جعله من أوائل من أرسوا فكرة أن الشعر حين يُترجم لا يتحول إلى ظل باهت، بل يمكن أن يولد من جديد، إذا توفر للمترجم شرط الشاعرية، ويمكننا القول بأن بودلير، في ترجمته لقصائد بو، كان يؤمن أن الكلمة لا تُترجم إلا عندما تصير صدى داخل النفس، وهذا الإيمان هو ما أتاح له أن يخلق ترجمات تتجاوز الحرف إلى الروح، وتتجاوز الوظيفة إلى الشعرية الكامنة في جسد القصيدة.
ولعل أبرز ما يدعم هذا الطرح أيضًا ما ذهب إليه الشاعر جوزيف ألكسندرو?يتش برودسكي (1940 - 1996) حين أثنى على التعاون بين الشاعر والمترجم اللغوي بوصفه الشرط الأمثل لإنتاج ترجمة شعرية ناجحة، لا سيما عندما تكون اللغة الأصلية نائية ثقافيًا عن المترجم؛ ذلك أن الشعر لا يُفهم باللفظ فقط، بل يُعاش؛ وبالتالي، فإن العبور بين ضفتي النص يتطلب أن يتنفس المترجم النبرة نفسها التي كتب النص الأصلي بها، وأن يستبدل الإيقاع بإيقاع، لا أن يطابقه، وأن يترجم النداء لا الكلمة فقط.. بل وحتى الصمت، يجب عليه أن ينفذ إلى عمقه
لذا فإن ترجمة الشعر، حين تتم في بيئة «الضفاف المتقابلة»، لا تكون انتقالًا من ضفة إلى أخرى، بل تكون بناءً لجسر جديد، له لغة ثالثة، وخيال ثالث، وإيقاع ينبض بالتراثين معًا، ومن هنا، فإن هذه البيئة ليست مواتية فقط، بل قد تكون أكثر وفاءً للشعر من أي محاولة لإعادة إنتاجه حرفيًا؛ فالضفاف لا تتطابق، لكنها تتجاور، وفي هذه المجاورة تتخلق الدهشة.
منال رضوان - ناقد أدبي (مصر)
الهوامش:
جون سيمون – قوله «ما يُفقد في الترجمة هو الشعر نفسه» شاعت نقلاً عن الشاعر الأميركي روبرت فروست، ومثبتة في:
جورج شتاينر، بعد بابل: جوانب من اللغة والترجمة، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، المركز الثقافي العربي، 2006.
رندا أبو بكر – «الشعر في زمن النثر: تحديات ترجمة الشعر إلى العربية»، مجلة المترجمين العرب، المركز القومي للترجمة، العدد 12، القاهرة، 2017.
جوزيف برودسكي – «الترجمة بوصفها فعلًا شعريًا»:
Joseph Brodsky, On Grief and Reason, Farrar, Straus and Giroux, 1995.
شارل بودلير – مقدمة ترجماته لأعمال إدغار آلان بو:
Charles Baudelaire, Histoires extraordinaires d'Edgar Allan Poe, Paris, 1856.
الترجمة العربية لسامي الدروبي، دار الآداب، بيروت، 1982.
بيت الشعر في المغرب – آنا أخماتوفا: قصائد مختارة، ترجمة د. مريّة التوفيق، تقديم عبد الرحيم العطاوي، سلسلة «ترجمان»، بيت الشعر في المغرب، 2014.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك