(تمرُّ سنوات عمركِ في الغياب..
والبيتُ يا أمي صامتٌ حزين
يبحثُ عن طيفكِ في الدهاليز الضيقةِ،
لا ألفةٌ ظلّتْ..
ولا أنجمٌ انتظرتكِ..
ولا شجرةٌ كانت موطناً للعصافير..
بعدكِ بقتْ في الفناءِ الكبير)
لم تغب يوماً عن ذاكرتي، ولم انشغل عن سواها بما يبعدني عنها أو يأخذُ أحد مكانها، هي الروح وإن اكتظت بي الأيام وتجاسرت عليّ بخطوبها تظل معي حاضرة كأنها لم تغادرنا، ففي كل عام أرى في الضيف العزيز ما يوقظ ذاكرتي بوجودها بجنبي، تخيط فتق ثوبي وتلقمني (اللقيمات) وتملأ السفرة بأنواع كثيرة بينها الحلو والمالح، هي الأول في الحب وهي الآخر في تجوسقها فوق قلبي، هي العشق العفيف الذي لا يمكن استبداله بآخر.
إنها تقدمت يوم تأخر الآخرون، أعطتني دون مقابل ودون أن اطلب منها، كونها تعرف ما بداخلي وما الذي كنتُ أريده، هداياها ليس لها حدود، وعطاؤها لا يضمحل أو تجف أوراق ربيعه، تقدمت بعيد حبها قبل أن أدرك أن للأم عيد حب يحتفل به كل عام نساء العالم في 21 من مارس، فهل تدرك أمي أي عيد هي وأي رسالة إلهية خالدة في قلبي، تنمو كلما شدّ الزمان وقسا!
في كل عام يحل علينا شهر رمضان المبارك تبرز صورة أمي أمامي بشموخها وبحنانها وبصلابتها وخوفها ولهفتها على أولادها وإدارتها القوية والمتمكنة منها في توزيع المهام البيتية وما يجب القيام به في هذا الشهر الكريم، من دون أن تلين في الواجبات أو تستعطف أحداً، تؤكد أن الصيام له واجبات كما أوجبها الله وأوصانا بها نبينا والعترة الطاهرة التمسك بها وأدائها بأمانة وإخلاص، بقلب إيماني حمل مهمة واجبات الشهر الكريم، تنبه كبيرنا قبل صغيرنا بأهمية صيام هذا الشهر الفضيل.
وقبل بضعة أيام تستعد للضيف القادم، تزين البيت بما يجب أن يكون عليه في استقبال خصوصية شهر رمضان عن الأشهر الأخرى.
نلتف جميعاً أخوتي وأخواتي، حول أمي، ننصتُ لها ولا أحد يستطيع مخالفتها، فهي ربان السفينة وهي التي لا تهادن في الواجبات.
توزع يومها في استقبال الشهر بين العبادة وبين المطبخ وهي العارفة بمذاق كل واحد منا وماذا يحب أن يأكل في هذا الشهر رغم التعتير والفقر الذي نعيشه فلا تشعرنا أمي بأن هناك ما يعكر صفوتنا، لا نحس ولا نعرف كيف لأمي توضيب سفرة الفطور بأنواع مختلفة بينها جميع أصناف الطعام وهي التي ودعتنا في السادس من شهر رمضان قبل سنوات رحمة الله عليها.
ورغم مرور تلك السنوات فإنني لا زلتُ اشعر في كل عام يهل فيه هلال مقدمه بأن امي مازالت معنا، ففي ذكرياتها ما يفيض علينا بالحب برغم ما نحسه بألم الفقد، فنشغل أنفسنا بتلاوة القرآن والأدعية التي تصب أجواءها الهدوء والسكينة على النفس، كونها نفحات رحمانية تدعنا أن نترحم على من كانوا بالأمس معنا واليوم غادرونا.
وفي اكتظاظ صعوبة الحياة ومشاغل الدنيا التي لا تنتهي اتذكر ان أمي لو كانت بجنبي للاطفتني بحنانها وبما تحمله من طيبة ومحبة، لم أر بعد عينها ما يشبه حنان امي وخوفها ولهفتها علي وعلى إخوتي وأخواتي، كانت كالطير المذبوح إذا تأخر أحدنا في الرجوع إلى المنزل كما هي تريد، تراها تقيس المسافة بقدميها وبين فناء البيت وبابه، تترقب بلهفة من يفتح الباب وعينيها تحمر تارة وأخرى تدمع بالبكاء، ولحظة رجوع غائبها كل هذه العوارض التي صبغتها بالحزن تختفي، تبتسم وهي مطمئنة أن أولاده الذكور والإناث بين جناحيها، عندها تطمئن أن جميع فلذات أكبادها بين حضنها في أمان.
كل شي يذكرني بها، فهل كان لأمي يوم يسمى بعيد الحب في تلك السنوات؟
لا يوجد ما يشبه اليوم، عيد أمي هو عيد وجود أحبتها بينها، لا تسأل من يقدم لها هدية ولا من يساعدها في إعداد الفطور، هي التي تتقدم الكل وتحتضن العائلة وحدها ترتب ما يبهج صغارها ويفرح رجل البيت من أصناف الطعام، لا تتأفف ولا تضجر، صنعتها هي بناء أسرة هادئة دون خوف.
فالعيد يا أمي، أن يرفعك الله في اعلى عليين عند مليك مقتدر لا تجوعين ولا تعطشين، وأن يجعل روحك وروح أبي وكل أحبتي الذين غادرونا في هدوء وفي جنة كما هو الوعد الإلهي لكل مؤمن شكور.
وإن قلت يا أمي: أنك العيد، فأنت العيد كله وإن لم يكن ما يشبه عيد الحب عند جيل اليوم في وردة حمراء أو هدية في علبة مزركشة يهديها أبناء اليوم لأمهاتهم، كونك العيد الذي لا يضمحل ولا يشبه أي عيد.
a.astrawi@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك