في 27 و28 من مارس على التوالي، فقدت البحرين قامتين نبتتا نبت أشجار النخيل الباسقات، وأثمرتا ثمرا جنيا من العطاء: العم العزيز، المؤرخ الأديب والفنان التشكيلي المخضرم الأستاذ عبدالكريم العريض، والباحث والمحقق المؤرخ الدكتور سالم عبدالله النويدري.
كتبتُ يوما: يُحال أن تُختزل وطنيتُكَ وانتماؤُكَ في وشاح وشعار مُصطنع. الانتماءُ هويةٌ غير مرحلية، راسخةٌ رسوخ النخيل الباسقاتِ، جذورُها غَرْسٌ في أعماق التراب. الانتماءُ حبٌّ غير مشروط، ووعيٌ غير منقوص، وإحساسٌ غير مفروض. الوطنُ تاريخٌ مُعمد بالتضحيات والدماء، حِقَبٌ متتاليةٌ وأجيالٌ متواليةٌ. كلٌّ لا يتجزأ وحولٌ لا يُحدد. إبداعٌ خارقٌ للشعور والإدراك. لم أجد اليوم أصدق مثالا لمشاعر انتماء وعطاء كهذه عند غير هذين العلمين النجيبين.
أبدع العريض كرائد من رواد الفن التشكيلي، ورسم الهوية والثقافة البحرينية الأصيلة، وألف وأرخ ووثق في مؤلفاته مراحل عديدة من تاريخ ومعالم البحرين، عن الفن والتراث الشعبي وشخصيات عديدة كان لها أثر في تاريخ البحرين والمنامة حيث مولده فيها في 1934.
كان من أبرز إصداراته كتابُ «روادُ الحركة التشكيلية في البحرين»، صدر في 1982، وكتاب «من تراث البحرين الشعبي»، صدر في 1993، وكتاب «نافذة على التاريخ: بيت العريض»، صدر في 1996، والذي كان لي الشرف في إخراجه وتنفيذه، وكتاب «المنامة عبر خمسة قرون»، صدر في عام 2006، وغيرها من الإصدارات القيمة.
أما الدكتور سالم النويدري (1945-2025) فقد أبدع وكرس حياته كأبرز المؤرخين والمحققين في توثيق التراث الثقافي والتاريخي للبحرين. وتُعتبر موسوعة «أعلام الثقافة الإسلامية في البحرين خلال 14 قرنا» أبرز أعماله، حيثُ تناول فيها الجوانب التاريخية والسياسية والاجتماعية للبحرين من خلال تراجم 587 عالما من أعلام الثقافة الإسلامية، مما سد فجوات كبيرة في توثيق تاريخ البحرين بروح موضوعية ومنصفة.
كان لي الشرف يوما أن أجمعهما، كان ذلك في منتصف التسعينيات، حينها كنت أعمل على إخراج كتاب «نافذة على التاريخ - بيت العريض» للأستاذ عبدالكريم، وفي الوقت نفسه كنت أعمل على إخراج كتاب «ديوان ديك العرش» من نظم الخطيب حسن آل ماجد، للدكتور سالم النويدري، فراودتني فكرة أن أقترح على العريض عرض مسودة كتابه على النويدري للاستزادة من خبرته. وبالفعل، رتبت لقاء لهما في مكتبي، حيثُ تعارفا للمرة الأولى، وجرى بينهما حديثٌ مُسهبٌ عن المنامة والعلاقات الأسرية فيها.
وفي ختام اللقاء، سلم العريضُ للنويدري نسخة مسودة من كتابه ليطلع عليها ويبدي ملحوظاته. وبعد أيام، عاد النويدري بالمسودة مؤشرا عليها بملحوظاته القيمة، والتي كان بعضها له أثرٌ في تغيير بعض فصول الكتاب.
أذكر أن النويدري طلب مني في أحد الأيام مساعدته في الحصول على مخطوطات لشعر من نظم الحاج منصور بن عبدعلي بن رجب (1897 - 1967)، كان ينوي تحقيقها، وكانت تلك مفاجأة لي، لم أكن أعرفها عن الحاج منصور كشاعر، والحاج منصور هو النجل الأكبر لجدنا الحاج عبدعلي بن رجب (1860 - 1940)، وللأسف وبعد عدة محاولات لم يتسن لنا الحصول على تلك المخطوطات.
في شهر يوليو من عام 2020، كنت أعد بحثا عن إحدى شخصيات عائلة بن رجب الكريمة، وحينها وجدتُ بعض الوثائق النادرة التي تخص تلك الشخصية، فوجدت أنه من المناسب أن أعرضها على الدكتور سالم. كنت حينها أعلمُ أنه يمر بعارض صحي، فتواصلتُ مع العزيز عبدالله ليحدد لي موعدا ولقاء مع أبيه ولو عن طريق الهاتف، إلا أنه اعتذر بسبب الظرف الصحي للدكتور. وبعد أيام، فوجئت باتصال منه رحمه الله، مرحبا بي بصوت مبحوح من أثر المرض، قائلا إنه لما حدثه عبدالله عن اتصالي، قال له إن «الأستاذ ياسر غير». فجرى بيننا حديث عن تلك الوثائق، وفي نهاية الاتصال شكرته شكرا جزيلا على تلك المعزة والمكانة التي كان يكنها لي.
برحيلهما، خسرت البحرين ركنين شامخين من أعلامها. لم يكونا مجرد مبدعين، بل تجسيدا حيا للانتماء الأصيل والعطاء المثمر للوطن، تاركين إرثا فنيا وثقافيا، ومعينا راسخا رسوخ النخيل الباسقات في أعماق ترابها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك