العدد : ١٧٢٢١ - السبت ١٧ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٢٢١ - السبت ١٧ مايو ٢٠٢٥ م، الموافق ١٩ ذو القعدة ١٤٤٦هـ

الثقافي

كرسوخ النخيل الباسقات

السبت ١٧ مايو ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬27‭ ‬و28‭ ‬من‭ ‬مارس‭ ‬على‭ ‬التوالي،‭ ‬فقدت‭ ‬البحرين‭ ‬قامتين‭ ‬نبتتا‭ ‬نبت‭ ‬أشجار‭ ‬النخيل‭ ‬الباسقات،‭ ‬وأثمرتا‭ ‬ثمرا‭ ‬جنيا‭ ‬من‭ ‬العطاء‭: ‬العم‭ ‬العزيز،‭ ‬المؤرخ‭ ‬الأديب‭ ‬والفنان‭ ‬التشكيلي‭ ‬المخضرم‭ ‬الأستاذ‭ ‬عبدالكريم‭ ‬العريض،‭ ‬والباحث‭ ‬والمحقق‭ ‬المؤرخ‭ ‬الدكتور‭ ‬سالم‭ ‬عبدالله‭ ‬النويدري‭.‬

كتبتُ‭ ‬يوما‭: ‬يُحال‭ ‬أن‭ ‬تُختزل‭ ‬وطنيتُكَ‭ ‬وانتماؤُكَ‭ ‬في‭ ‬وشاح‭ ‬وشعار‭ ‬مُصطنع‭. ‬الانتماءُ‭ ‬هويةٌ‭ ‬غير‭ ‬مرحلية،‭ ‬راسخةٌ‭ ‬رسوخ‭ ‬النخيل‭ ‬الباسقاتِ،‭ ‬جذورُها‭ ‬غَرْسٌ‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬التراب‭. ‬الانتماءُ‭ ‬حبٌّ‭ ‬غير‭ ‬مشروط،‭ ‬ووعيٌ‭ ‬غير‭ ‬منقوص،‭ ‬وإحساسٌ‭ ‬غير‭ ‬مفروض‭. ‬الوطنُ‭ ‬تاريخٌ‭ ‬مُعمد‭ ‬بالتضحيات‭ ‬والدماء،‭ ‬حِقَبٌ‭ ‬متتاليةٌ‭ ‬وأجيالٌ‭ ‬متواليةٌ‭. ‬كلٌّ‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬وحولٌ‭ ‬لا‭ ‬يُحدد‭. ‬إبداعٌ‭ ‬خارقٌ‭ ‬للشعور‭ ‬والإدراك‭. ‬لم‭ ‬أجد‭ ‬اليوم‭ ‬أصدق‭ ‬مثالا‭ ‬لمشاعر‭ ‬انتماء‭ ‬وعطاء‭ ‬كهذه‭ ‬عند‭ ‬غير‭ ‬هذين‭ ‬العلمين‭ ‬النجيبين‭.‬

أبدع‭ ‬العريض‭ ‬كرائد‭ ‬من‭ ‬رواد‭ ‬الفن‭ ‬التشكيلي،‭ ‬ورسم‭ ‬الهوية‭ ‬والثقافة‭ ‬البحرينية‭ ‬الأصيلة،‭ ‬وألف‭ ‬وأرخ‭ ‬ووثق‭ ‬في‭ ‬مؤلفاته‭ ‬مراحل‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬ومعالم‭ ‬البحرين،‭ ‬عن‭ ‬الفن‭ ‬والتراث‭ ‬الشعبي‭ ‬وشخصيات‭ ‬عديدة‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬أثر‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البحرين‭ ‬والمنامة‭ ‬حيث‭ ‬مولده‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬1934‭.‬

كان‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬إصداراته‭ ‬كتابُ‭ ‬‮«‬روادُ‭ ‬الحركة‭ ‬التشكيلية‭ ‬في‭ ‬البحرين‮»‬،‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬1982،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬من‭ ‬تراث‭ ‬البحرين‭ ‬الشعبي‮»‬،‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬1993،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬نافذة‭ ‬على‭ ‬التاريخ‭: ‬بيت‭ ‬العريض‮»‬،‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬1996،‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬الشرف‭ ‬في‭ ‬إخراجه‭ ‬وتنفيذه،‭ ‬وكتاب‭ ‬‮«‬المنامة‭ ‬عبر‭ ‬خمسة‭ ‬قرون‮»‬،‭ ‬صدر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2006،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الإصدارات‭ ‬القيمة‭.‬

أما‭ ‬الدكتور‭ ‬سالم‭ ‬النويدري‭ (‬1945-2025‭) ‬فقد‭ ‬أبدع‭ ‬وكرس‭ ‬حياته‭ ‬كأبرز‭ ‬المؤرخين‭ ‬والمحققين‭ ‬في‭ ‬توثيق‭ ‬التراث‭ ‬الثقافي‭ ‬والتاريخي‭ ‬للبحرين‭. ‬وتُعتبر‭ ‬موسوعة‭ ‬‮«‬أعلام‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬خلال‭ ‬14‭ ‬قرنا‮»‬‭ ‬أبرز‭ ‬أعماله،‭ ‬حيثُ‭ ‬تناول‭ ‬فيها‭ ‬الجوانب‭ ‬التاريخية‭ ‬والسياسية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬للبحرين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تراجم‭ ‬587‭ ‬عالما‭ ‬من‭ ‬أعلام‭ ‬الثقافة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬مما‭ ‬سد‭ ‬فجوات‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬توثيق‭ ‬تاريخ‭ ‬البحرين‭ ‬بروح‭ ‬موضوعية‭ ‬ومنصفة‭.‬

كان‭ ‬لي‭ ‬الشرف‭ ‬يوما‭ ‬أن‭ ‬أجمعهما،‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬التسعينيات،‭ ‬حينها‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬على‭ ‬إخراج‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬نافذة‭ ‬على‭ ‬التاريخ‭ - ‬بيت‭ ‬العريض‮»‬‭ ‬للأستاذ‭ ‬عبدالكريم،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬على‭ ‬إخراج‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬ديوان‭ ‬ديك‭ ‬العرش‮»‬‭ ‬من‭ ‬نظم‭ ‬الخطيب‭ ‬حسن‭ ‬آل‭ ‬ماجد،‭ ‬للدكتور‭ ‬سالم‭ ‬النويدري،‭ ‬فراودتني‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬أقترح‭ ‬على‭ ‬العريض‭ ‬عرض‭ ‬مسودة‭ ‬كتابه‭ ‬على‭ ‬النويدري‭ ‬للاستزادة‭ ‬من‭ ‬خبرته‭. ‬وبالفعل،‭ ‬رتبت‭ ‬لقاء‭ ‬لهما‭ ‬في‭ ‬مكتبي،‭ ‬حيثُ‭ ‬تعارفا‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى،‭ ‬وجرى‭ ‬بينهما‭ ‬حديثٌ‭ ‬مُسهبٌ‭ ‬عن‭ ‬المنامة‭ ‬والعلاقات‭ ‬الأسرية‭ ‬فيها‭. ‬

وفي‭ ‬ختام‭ ‬اللقاء،‭ ‬سلم‭ ‬العريضُ‭ ‬للنويدري‭ ‬نسخة‭ ‬مسودة‭ ‬من‭ ‬كتابه‭ ‬ليطلع‭ ‬عليها‭ ‬ويبدي‭ ‬ملحوظاته‭. ‬وبعد‭ ‬أيام،‭ ‬عاد‭ ‬النويدري‭ ‬بالمسودة‭ ‬مؤشرا‭ ‬عليها‭ ‬بملحوظاته‭ ‬القيمة،‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬بعضها‭ ‬له‭ ‬أثرٌ‭ ‬في‭ ‬تغيير‭ ‬بعض‭ ‬فصول‭ ‬الكتاب‭.‬

أذكر‭ ‬أن‭ ‬النويدري‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬مساعدته‭ ‬في‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬مخطوطات‭ ‬لشعر‭ ‬من‭ ‬نظم‭ ‬الحاج‭ ‬منصور‭ ‬بن‭ ‬عبدعلي‭ ‬بن‭ ‬رجب‭ (‬1897‭ - ‬1967‭)‬،‭ ‬كان‭ ‬ينوي‭ ‬تحقيقها،‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬مفاجأة‭ ‬لي،‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرفها‭ ‬عن‭ ‬الحاج‭ ‬منصور‭ ‬كشاعر،‭ ‬والحاج‭ ‬منصور‭ ‬هو‭ ‬النجل‭ ‬الأكبر‭ ‬لجدنا‭ ‬الحاج‭ ‬عبدعلي‭ ‬بن‭ ‬رجب‭ (‬1860‭ - ‬1940‭)‬،‭ ‬وللأسف‭ ‬وبعد‭ ‬عدة‭ ‬محاولات‭ ‬لم‭ ‬يتسن‭ ‬لنا‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المخطوطات‭.‬

في‭ ‬شهر‭ ‬يوليو‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬2020،‭ ‬كنت‭ ‬أعد‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬إحدى‭ ‬شخصيات‭ ‬عائلة‭ ‬بن‭ ‬رجب‭ ‬الكريمة،‭ ‬وحينها‭ ‬وجدتُ‭ ‬بعض‭ ‬الوثائق‭ ‬النادرة‭ ‬التي‭ ‬تخص‭ ‬تلك‭ ‬الشخصية،‭ ‬فوجدت‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المناسب‭ ‬أن‭ ‬أعرضها‭ ‬على‭ ‬الدكتور‭ ‬سالم‭. ‬كنت‭ ‬حينها‭ ‬أعلمُ‭ ‬أنه‭ ‬يمر‭ ‬بعارض‭ ‬صحي،‭ ‬فتواصلتُ‭ ‬مع‭ ‬العزيز‭ ‬عبدالله‭ ‬ليحدد‭ ‬لي‭ ‬موعدا‭ ‬ولقاء‭ ‬مع‭ ‬أبيه‭ ‬ولو‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الهاتف،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬اعتذر‭ ‬بسبب‭ ‬الظرف‭ ‬الصحي‭ ‬للدكتور‭. ‬وبعد‭ ‬أيام،‭ ‬فوجئت‭ ‬باتصال‭ ‬منه‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬مرحبا‭ ‬بي‭ ‬بصوت‭ ‬مبحوح‭ ‬من‭ ‬أثر‭ ‬المرض،‭ ‬قائلا‭ ‬إنه‭ ‬لما‭ ‬حدثه‭ ‬عبدالله‭ ‬عن‭ ‬اتصالي،‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬‮«‬الأستاذ‭ ‬ياسر‭ ‬غير‮»‬‭. ‬فجرى‭ ‬بيننا‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الوثائق،‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬الاتصال‭ ‬شكرته‭ ‬شكرا‭ ‬جزيلا‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬المعزة‭ ‬والمكانة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يكنها‭ ‬لي‭.‬

برحيلهما،‭ ‬خسرت‭ ‬البحرين‭ ‬ركنين‭ ‬شامخين‭ ‬من‭ ‬أعلامها‭. ‬لم‭ ‬يكونا‭ ‬مجرد‭ ‬مبدعين،‭ ‬بل‭ ‬تجسيدا‭ ‬حيا‭ ‬للانتماء‭ ‬الأصيل‭ ‬والعطاء‭ ‬المثمر‭ ‬للوطن،‭ ‬تاركين‭ ‬إرثا‭ ‬فنيا‭ ‬وثقافيا،‭ ‬ومعينا‭ ‬راسخا‭ ‬رسوخ‭ ‬النخيل‭ ‬الباسقات‭ ‬في‭ ‬أعماق‭ ‬ترابها‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا