رغم تفحُّصِه لملفات بُطولاتهم ضد غُزاة بلده؛ إلاّ أنه في كلّ مرة يُؤجل الجَلسة
تمتَم صوتٌ وسط الأجساد المُنهكة.. من خلف القُضبان الحديديّة مستنكرًا:
-سيدي.. طيلة سنواتٍ وأنا أُعرض على المحكمة الموقرة.. ولا أدري حتى الآن ما تُهمتي؟
دون أن يكلِّف عناء النّظر لشبح الصّوت، أعلن بصوت جهوري تتَخلّلُه تصفيقات
-أنت عربي...ألا تفهم ؟!
النص «أفقٌ ضيّق» للكاتب حسن اجبوه يعكس أزمة الهُوية والانتماء والعدالة في واقعٍ مريرٍ يعاني فيه العربي من التهميش والاضطهاد. يصوّر الكاتب من خلال مشهد المحكمة صورة لواقعٍ مظلم؛ حيث يبرز صوت البطل المجهول، المظلوم، الذي رغم تفحّصه لبطولات قومه ودفاعهم عن أرضهم، يُواجه تهماً مبهمةً وعقبات لا حصر لها، من دون أن يفهم حتى سبب محاكمته.
تحليل فلسفي لنص «أفق ضيق»
قبل أن نعرج إلى التحليل النص وجب علينا الوقوف على عتبة النص وهو العنوان «أفق ضيق»: من منظور فلسفي يمكن أن يكشف عن أبعاد عميقة تتعلق بتصورنا للواقع، والحدود التي تضعها أنفسنا أو بيئتنا على تفكيرنا. يمكننا أن نبدأ بتحليل المصطلح ذاته:
·الأفق: عادةً ما يشير إلى حدود الرؤية، أي ما نراه أو نتصوره من العالم من حولنا. إذا أسقطنا هذا المفهوم على التفكير، فإن الأفق يمثل مدى اتساع تصوراتنا وأفكارنا عن الواقع.
·الضيق: يعبر عن القيود أو الانحصار، سواء كان ذلك نتيجة لعوامل خارجية كالمجتمع أو الظروف، أو لعوامل داخلية تتعلق بالفرد نفسه مثل محدودية المعرفة، التعصب، أو القناعات الصارم وغيرها ....
الأفق الضيق كإشكالية معرفية
الأفق الضيق يمكن أن يطرح إشكالية وهي ما مدى معرفتنا وتصوراتنا للحقيقة، نجد أن هناك تقييد يمنعنا من رؤية الصورة الكاملة. وقد تناول الفلاسفة هذا الموضوع من عدة زوايا: فمثلا
كانط تحدث عن كيفية أن عقولنا محكومة بإطارات معينة تجعلنا نرى العالم بطرق محددة، لكنه أقرّ بإمكانية توسعة الأفق عبر النقد والتساؤل.
أما هيغل رأى أن المعرفة تتطور عبر عملية جدلية تتطلب الاحتكاك بوجهات نظر متضادة، وكأن الأفق يتسع بالتدريج ليشمل أكثر فأكثر.
من ناحية أخرى، هناك إشكالية وجودية قد يُفسر الأفق الضيق كمسألة وجودية تتعلق بتجربة الفرد في العالم؛ حيث قد يشعر الإنسان بأنه محصور في تجربة معينة أو أن خياراته محدودة. هنا، يظهر صراع بين الفردية والمجتمع أو بين الذات والآخرين. يتحدث سارتر في هذا السياق عن «الآخر» الذي يحد من حريتنا، حيث نشعر بأننا نحيا في حدود تمليها أعين وأحكام الآخرين.
كما يمكننا أن نعتبر الأفق الضيق كحالة من الجمود الفكري، الذي ينتج عن عدم ممارسة التفكير النقدي. ولقد أكد الفلاسفة مثل ديكارت وسقراط أهمية الشك المنهجي كوسيلة لتوسيع الأفق، حيث إن التشكيك في المسلّمات يفتح مجالًا لرؤية حقائق جديدة. أما النص فهو يطرح تساؤلات فلسفية حول العدالة، الهوية، والاغتراب في سياق سياسي اجتماعي ضاغط. من زاوية فلسفية، يمكن فهم النص على عدة مستويات: ·فلسفة العدالة والتهمة المجهولة: أحد الأسئلة الأساسية التي يثيرها النص هو مسألة العدالة وغيابها، حيث يقف البطل أمام المحكمة دون أن يعرف تهمته، كما يبرز أيضا قسوة النظام القضائي الذي يمثل السلطة المهيمنة، حيث يتم تأجيل الجلسة كل مرة من دون سبب واضح، مما يعكس عدم الاكتراث للعدالة الحقيقية، ويُحوّل المحاكمة إلى مشهد عبثي لا يحترم كرامة الإنسان.
·كذلك، تنعدم الشفافية في المحاكمة، حيث البطل لم يُبلّغ حتى بالتهمة الموجهة إليه، مما يجعله ضحية لنظام قمعي يعامله بتعسف. هذه الحالة ترمز إلى فقدان السلطة القضائية لجوهرها العادل وتحولها إلى أداة قمعية. هذا الموضوع يرتبط بفلسفات العدالة لدى فلاسفة مثل ميشيل فوكو الذي بحث في كيفيات السلطة وتأثيرها على الأفراد وحقوقهم، حيث تصبح الهوية وحدها تهمة.
·الاغتراب وسلطة القمع: الحوار يعكس حالة اغتراب، حيث إن البطل يستنكر وضعه بصوت ينمّ عن معاناة ودهشة، فيقول: «ولا أدري حتى الآن ما تُهمتي؟»، في محاولة بائسة لاستيعاب الموقف. هنا يعيش البطل حالة اغتراب في وطنه بسبب طغيان السلطة. هذا الشعور يتماشى مع فلسفة كارل ماركس حول الاغتراب، حيث يُحرم الفرد من إنسانيته في ظل النظام القمعي. تتحول المحكمة إلى رمزية للسجن المجتمعي، حيث يتم قمع الأصوات الحرة وتحويلها إلى مجرد «أشباح» صوتية بلا تأثير.
·الحقيقة والحرية: في نهاية النص، تُطرح فكرة الحرية المنقوصة وذلك في الرد على سؤال البطل: «أنت عربي... ألا تفهم؟!»، ليختصر العداء والتعصب ضده بسبب هويته، في تجاهل كامل لإنسانيته. فالبطل يبحث عن الحقيقة أو التهمة ليعرف ذنبه، لكن القاضي يجيب بسطحية وسخرية، وكأن كل ما تحتاج إليه السلطة لإدانة الشخص هو هويته. هنا، يبرز نقد للفلسفة المادية والسطحية في الأنظمة السلطوية، حيث تغيب المعايير الأخلاقية لصالح السيطرة المطلقة.
·الهوية والانتماء: الهوية العربية للبطل هنا تتحول إلى عبء وتهمة، مما يطرح سؤالاً وجودياً حول معنى الهوية وكيف يمكن أن تتحول إلى أداة اضطهاد. النص يحمل بُعداً سارترِيا، إذ تفرض السلطة عليه وجوده كعربي بطريقة لا يمكنه رفضها، بل تصبح عبئاً يقيده دون سبب. هنا، تستلهم الفلسفة الوجودية، إذ يعيش البطل حالة من العبثية واللاجدوى، كون هويته ليست اختياراً لكنها تحدد مصيره رغم ذلك.
النص يجسد نقداً قوياً للطبيعة التعسفية للسلطة ويثير قضايا فلسفية حول الهوية، العدالة، ومعنى الوجود في ظل نظام قمعي يستهدف الإنسان العربي بسبب انتمائه. رسالة الكاتب تبدو صرخة ضد الظلم وتهميش الهوية، ودعوة للتفكر في معنى العدالة والكرامة الإنسانية في عالم يشوبه الظلم والتعصب.
وفي الأخير أشكر الكاتب الذي استطاع أن يوصل لنا فكرته التي صاغها بأسلوب سلس حيث جاء النص مختصرًا ومكثفًا، يعتمد على الإيحاء أكثر من التصريح، ما يعكس فن القصة القصيرة جدًا.
·كما استعمل الكثير من الرمزية، فـالأجساد المُنهكة والقُضبان الحديدية تشيران إلى السجن والقهر المستمر، و«الصوت الجهوري» يعكس السلطة الجائرة التي تفرض نفسها من دون اعتبار للعدالة أو الإنسانية.
دام الألق والإبداع أستاذ حسن أجبوه
تحياتي
ناقدة جزائرية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك