وباءٌ جديد بدأ يزحف إلى أعماق المجتمعات البشرية في كل دول العالم، وأخذ رويداً رويداً يتغلغل ويتجذر في أوساط البشر، فتحول اليوم إلى مرضٍ معترف به دولياً وبحاجة إلى رعاية وعناية سريعة للتخفيف من حدة تأثيره في الأفراد والمجتمعات، ومنعه من الانتشار في دائرة أوسع مما هو عليه الآن.
فهذا الوباء كان من علامات ومؤشرات حياة الرفاهية والترف في الغرب، وكان يدل على ولوج المجتمعات الغربية خاصة في سلوكيات خاطئة، والقيام بممارسات غير مستدامة صحية، كتناول الوجبات السريعة والمأكولات المشبعة بالدهون، والمشروبات المحلاة طبيعياً وصناعياً، والتدخين، إضافة إلى الجلوس ساعات طويلة دون حركة أمام شاشات التلفاز والهواتف الذكية وألعاب الفيديو.
ولكن عدوى هذه الحياة الغربية والثقافة الاستهلاكية المفرطة في مثل هذه العادات والممارسات اليومية ونمط الحياة غير المستدام انتقلت عدواها إلى جميع دول العالم دون استثناء، ولذلك ظهر فيهم أيضاً هذا الوباء الجديد حتى عمَّ الكرة الأرضية برمتها.
هذا الوباء هو الوزن الزائد، والسمنة أو البدانة التي أصبحت الآن المؤشر على تبني واتباع الثقافة الغربية الاستهلاكية غير المستدامة، كما أنها تؤكد خطورة تقليد الغرب في مثل هذه العادات السيئة والسلوكيات غير الصحية. فتفشي هذا الوباء بين البشر في كل دول العالم تؤكده التقارير والإحصاءات الدولية المنشورة، ومنها التقرير الصادر عن «المرصد العالمي للسمنة» (Global Obesity Observatory) التابع للمؤسسة الدولية للبدانة (World Obesity Foundation).
فقد أفاد المرصد العالمي للسمنة في تقريره لعام 2023 بأن نسبة السمنة عالية في معظم دول العالم، فمن أعلى النسب بين دول العالم هي الولايات المتحدة التي وصلت نسبة البدانة بين أفراد الشعب إلى 41.64%، في حين أن قطر جاءت في المرتبة رقم (11) بنسبة 40.79، والكويت في المرتبة (15) بنسبة 38.8، والمملكة العربية السعودية في المرتبة رقم (17) على المستوى الدولي بنسبة 38.13، والأردن بلغت النسبة 34.2، وأخيراً سلطنة عمان بنسبة 26.79% في المرتبة رقم (56).
وفي تقديري فإن خطورة هذا الوباء تأتي أولاً في الزيادة المطردة مع الزمن في عدد المصابين به في معظم دول العالم، وثانياً أن هذا المرض يجر وراءه عللاً وأسقاماً أخرى كثيرة، وتصاحبه عدة أمراض مزمنة أخرى مستعصية، وقد تؤدي إلى مضاعفات تنجم عنها وفاة المريض، أي إن هذا المرض يهدد باقي أعضاء الجسم ويعرضها لمخاطر السقوط في أمراض جديدة.
أما المرض الأول الذي قد يأتي نتيجة للبدانة والوزن المفرط فهو عدة أنواع من السرطان. وهناك الكثير من الأبحاث الوبائية التي أشارت إلى وجود علاقة بين البدانة والتعرض لبعض أنواع السرطان، حيث أفادت بأن الإنسان البدين أكثر عرضة من غيره لمخاطر الوقوع في شباك السرطان. ومن هذه الدراسات، تلك المنشورة في مجلة (Nature Genetics ) في 28 أكتوبر 2024 تحت عنوان: «الاختيار المعتمد على السمنة للطفرات المحركة في السرطان». فهذه الدراسة قامت ببحث العلاقة بين البدانة والنمط الوراثي للورم، حيث ارتبطت السمنة بطفرات محددة في سرطان الرئة الغدي وسرطان بطانة الرحم، أي إن السمنة هي المحرك لعدم التجانس المسبب للمرض في بعض أنواع السرطان.
والمرض الثاني هو بعض أمراض القلب، ومنها فشل القلب (Heart Failure)، فقد نُشر بحث في 9 أكتوبر 2024 في المجلة الدولية للبدانة (International Journal of Obesity) تحت عنوان: «العلاقة بين السمنة وخطر الإصابة بمرض فشل القلب وضعف البطين الأيسر بين كبار السن»، وهذه الدراسة تشير إلى وجود العلاقة بين البدانة ومخاطر فشل القلب.
والمرض الثالث فهو من أمراض الجهاز التنفسي، وبالتحديد مرض كورونا، حيث نُشرت دراسة في 31 أكتوبر 2024 في المجلة الدولية للبدانة (International Journal of Obesity) تحت عنوان: «العلاقة بين زيادة الوزن والسمنة وعدوى مرض كورونا»، وهذه الدراسة أشارت إلى أن البدانة تؤثر وتضعف جهاز المناعة عند الإنسان، مما يرفع من احتمال الإصابة بالعدوى من الجراثيم، وبالتحديد فيروس كورونا.
وأما المرض الرابع فهناك إجماع عند الأطباء عليه، وهو علاقة السمنة بمرض السكري من النوع الثاني، حيث أفادت الدراسات بأن 4 من كل 5 مرضى مصابين بمرض السكري يعانون من زيادة الوزن والبدانة، كما أن العلماء يؤكدون أن السمنة هي العامل الرئيس للإصابة بمرض السكري. ومن أجل التركيز على هذا الجانب، وتعميق التوعية الشعبية بهذا البعد من مرض البدانة، سيعقد في البحرين مؤتمر تحت عنوان «السكري والسمنة» في الفترة من 20 إلى 21 نوفمبر 2024.
وأما المرض الخامس فمتعلق بالجانب النفسي للإنسان، حسب الدراسة المنشورة في 18 أكتوبر 2024 في مجلة تقارير علمية (Scientific Reports) تحت عنوان: «مخاطر الاكتئاب والقلق والرغبة في الانتحار عند المرضى البدناء». وفي هذه الدراسة أفاد الباحثون على وجود علاقة بين البدانة والوقوع في أمراض نفسية، كالاكتئاب، والقلق، والميل نحو الانتحار.
وبالرغم من أن البدانة تُعد مرضاً مستقلاً في حد ذاته، إلا أنه لا يوجد إجماع في المجتمع الطبي على أسباب وعلاج المرض. أما بالنسبة إلى أغلب الأسباب فهناك عدة عوامل تؤدي إلى الوقوع في وباء البدانة والوزن المفرط، منها الجينات الوراثية عند الفرد وقابليته لزيادة الوزن، ونوعية الميكروبات الموجودة في المعدة، ومنها العادات الغذائية السيئة من الإفراط في تناول المواد الغذائية الدهنية والمشروبات الغازية المحلاة والسكريات بشكلٍ عام والكحوليات والتدخين، إضافة إلى عدم ممارسة الرياضة. وهذه العوامل تمت دراستها في البحث المنشور في 29 أكتوبر 2024 في المجلة الدولية للبدانة (International Journal of Obesity) تحت عنوان: «السمنة لدى الأطفال: عوامل الخطر السلوكية والبيئية المرتبطة بمؤشر كتلة الجسم للأطفال بين 2 و 9 سنوات»، حيث سبرت الدراسة غور العلاقة بين زيادة الوزن والعوامل المتعلقة بالسلوك والبيئة، مثل أنماط الغذاء وممارسة الرياضة، وغيرهما. كما قامت دراسة أخرى بالتركيز على دور الرياضة في خفض الوزن، ونُشرت في 10 سبتمبر 2024 في مجلة (Nature Metabolism) تحت عنوان: «الرياضة على المدى الطويل لها آثار إيجابية على الأنسجة الدهنية في حالات زيادة الوزن أو السمنة».
وأما بالنسبة إلى العلاج فمنها تغيير أنماط حياة الإنسان من ناحية نوعية وكمية الغذاء وممارسة الأنشطة الرياضة، ومنها التدخل الجراحي، ومنها أخيراً الأدوية، مثل عقار «أوزمبيك» (Ozempic) المستخدم لمكافحة مرض السكري والبدانة في وقتٍ واحد.
ولذلك علينا في منع هذا المرض، وأمراض كثيرة أخرى، وتجنب الوقوع فيها أن نهتم كثيراً بالجانب الذي تحت أيدينا وتحت تصرفنا، وبإمكاننا القيام به بشكلٍ يومي، وبالتحديد اتباع نمط الحياة الصحي والمستدام، والتحول من سلوكيات ضارة إلى سلوكيات صحية، وتغيير الممارسات والعادات اليومية نحو الأفضل من الناحية الصحية.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك