منذ الأزل وماهية الشعر والشاعر جدلية مفاهيمية أفضى فيها الفكر والنقد تصورات لا تكاد تقف على الجوهر الذي ينطلقان منه، أهو السحر أم الشيطان أم الإنسان أم الشعور أم التوتر أم الموسيقى أم اللغة المنمقة المموسقة وهلم جرا في مزاوجة هذه المصادر في أفق الجدلية المذكورة التي لم تهدأ إلا بمقترحات النقد في وصفه خارجيا لشكل الشعر وعده تحصيل حاصل كاللغة التي لم يعرف مكنونها الرئيس أهي توقيف أم مواضعة أم محاكاة وهلم جرا، ولكن الثابت الذي لا يمكن للنقد والناقد إلغاؤه أن الشعر قد يختزل العالم في ذات الشاعر وقد تختزل ذاته العالم كله في قصيدة، وما من شاعر يصدق عليه وصف الشاعرية إلا بقصيدة عصماء تكفل نزواته وتلملمه كما تقف الكاعب الحسناء خلف كل فارس وتقيم أود نزقه وطفولته في فراشها ...
وليس عبد الحسين بريسم طارئاً على الشعر أو عاجزاً عن غزل القصيدة وجماحها، هذا الكائن السومري المعاصر الذي تسير مع خطاه ألف نسمة من نسمات الهور وتتثنى بنهودها مع تلك الخطى قصبات البردي الميساني، شاعر اعتاد المعاناة وألفته حتى لم يعرف أيهما الشاعر أهي المعاناة أم البريسم الذي يكتبها شعراً، وأي معاناة تلك أهي صراعاته مع واقعه ومع ذاته الثائرة بصمت وحياء، أم صراعات الإنسان المجرد أم العراقي المعذب أم الشاعر الذي بلغ من إنسانيته ما جعله أرق من مناديل الورق المرطب بالعبير وبالبنفسج، شاعر لا يعرف هو نفسه أنَّ لوعات العراقيين تلتف حول عنق قلمه لتمارس صرخاتها من دون انقطاع، وأنَّه لو أمعن في بواطن ألفاظه وأبصر الشفاه اليابسة للملتاعين لولى فراراً منها ولمليء منها رعبا، شاعر يبحث عن الجمال وعن الإنسان ولكن كلما أبصرهما فرا منه وهو يجري خلفهما من دون هوادة ....
وتأتي القصيدة الحسناء في عطائه الذي لم ينضب ولن ينفد بردائها المخملي الذي يتشظى أنوثة وغواية في عالم الشعر بمجموعتين تكاد أحداهما تقتل الأخرى غيرة لتليق بشاعريته، أحداهما تؤثث بنية المكان في القصائد بخضرتها تحت مسمى (المنطقة الخضراء نصوص في استنطاق المكان) الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في هذا العام، والثانية رداؤها أسود من حزن السمك على موت الماء تحت مسمى (مقبرة الأسماك الجماعية نصوص في استنطاق المكان) الصادرة عن دار الفؤاد في مصر لهذا العام أيضاً.
ومن وجهة نظري المتواضعة أن الثانية منهما أجدر بوصف عنوان هذه المقالة لأنَّ أبرز ما فيها هو تمثل القصيدة لخطاب (اليومي)، مع حذق البريسم فيها بسوق هذه التمثلات بسردية غنائية نشطت المتلقي في مداعبة المعاني والتوسل بها لاقتناص حمولاتها المخبوءة، وأن يرسم معاناة الإنسان العراقي عامة، والمعاناة السمراء لأبناء الجنوب لاسيما الميسانيين خاصة، فكانت كل قصيدة فيها صعبة المراس حادة الطباع ثائرة منكسرة مفارقة بين حزنها وفرحها، ومتخيلها وواقعها، و سوادها و بياضها، وذئبها وضحاياها، فهي قصائد لم تكتب للنخبة وإنما كتبت لغنائية البوح الشعبي، ولم تكتب في بعد واحد وإنما في ثلاثة أبعاد ومن زوايا مختلفة جعلت تشكيل القصائد بانورامياً كلوحة الكولاج فهي تبكي جدب الخضرة وجمال القفار التي ستحدو بالشاعر عاجلاً أم آجلاً ليهرب إليها كما هرب عروة والشنفرى إليها من قبل ....
فشكرا للبريسم على أن أخذنا بهذه السياحة القراءية في معين إبداعه، وتعريفنا بنتاجاته الجديدة التي تضم إلى سفر الإبداع الميساني والعراقي العتيد، ملفتين القارئ الحاذق إلى القيمة النقدية التي تقدمها نتاجاته في دراسة ظاهرة اليومي والشعبي في الأدب العراقي الحديث.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك