العدد : ١٧٠١٥ - الأربعاء ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ ربيع الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠١٥ - الأربعاء ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ ربيع الآخر ١٤٤٦هـ

الثقافي

قصة قصيرة:في حقيبته وطنٌ

بقلم: صبا منذر حسن {

السبت ١٩ أكتوبر ٢٠٢٤ - 02:00

في‭ ‬ليلةٍ‭ ‬هاربةٍ‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬استسلمَ‭ ‬الأفقُ‭ ‬للطائرات؛‭ ‬أمّا‭ ‬الأرضُ‭ ‬فقد‭ ‬ضجّتْ‭ ‬بأصوات‭ ‬الصّراخ‭ ‬والرّصاص‭. ‬حينَها،‭ ‬تسلّلت‭ ‬رائحةُ‭ ‬الموتِ‭ ‬إلى‭ ‬قلبِ‭ ‬طه‭ ‬وبيتِه،‭ ‬فأحسَّ‭ ‬بأنّ‭ ‬الأرض‭ ‬تميدُ‭ ‬تحت‭ ‬قدمَيه،‭ ‬وأنّ‭ ‬الجدار‭ ‬الحجريّ‭ ‬بهشاشة‭ ‬سنبلة‭ ‬شعير؛‭ ‬فاتّجه‭ ‬إلى‭ ‬غرفته،‭ ‬وأخرَجَ‭ ‬حقيبة‭ ‬السفر،‭ ‬ثمّ‭ ‬مشى‭ ‬بخطواتٍ‭ ‬مُرتَبِكةٍ‭ ‬نحو‭ ‬الزّوايا‭ ‬التي‭ ‬ضمّت‭ ‬ماضيه،‭ ‬فلمَّ‭ ‬ذكرياتِه‭ ‬كلَّها‭: ‬ألبومَ‭ ‬الصّور‭ ‬العتيقة،‭ ‬ووردةً‭ ‬مجفَّفةً‭ ‬تصرخُ‭: ‬أنا‭ ‬أوّلُ‭ ‬هديّة،‭ ‬ومنديلَ‭ ‬أمّه‭ ‬المطرّزَ‭ ‬الذي‭ ‬يحملُ‭ ‬بين‭ ‬خيوطه‭ ‬ظلَّها‭ ‬المتعَب،‭ ‬وأقلامًا،‭ ‬وممحاةً،‭ ‬وشهادةَ‭ ‬تخرّج‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬وصورةَ‭ ‬أبيه‭ ‬المعلّقة‭... ‬ثمّ‭ ‬كدّسها‭ ‬واحدةً‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬في‭ ‬الحقيبة‭ ‬الضّيقة‭.    ‬

فجأةً،‭ ‬شعرَ‭ ‬بأنّ‭ ‬رغبتَه‭ ‬في‭ ‬الهروب‭ ‬تلاشت،‭ ‬وبأنّ‭ ‬وطنَه‭ ‬الصغيرَ‭ ‬يستحقُّ‭ ‬دقائقَ‭ ‬أُخرى‭ ‬بها‭ ‬يُعانقُه‭ ‬لآخر‭ ‬مرّة،‭ ‬فجلس‭ ‬ببرودٍ‭ ‬على‭ ‬كرسيّه‭ ‬متأملًا‭ ‬البيت‭... ‬ففي‭ ‬تلك‭ ‬الزّاوية‭ ‬بكى،‭ ‬وعلى‭ ‬تلك‭ ‬المصطبة‭ ‬وقفَ‭ ‬مودّعًا‭ ‬وجعًا‭ ‬نهَب‭ ‬سكِينَته،‭ ‬وأمامَ‭ ‬تلك‭ ‬النافذة‭ ‬المفتوحة‭ ‬وقفَ‭ ‬كثيرًا‭ ‬مسلِّمًا‭ ‬همومَه‭ ‬إلى‭ ‬الهدهد‭ ‬الذي‭ ‬سَئِمَ‭ ‬بوحَه‭... ‬حينها،‭ ‬تنهّد‭ ‬محاولًا‭ ‬طرْد‭ ‬الغصّةِ‭ ‬التي‭ ‬أحكمتِ‭ ‬القبضةَ‭ ‬على‭ ‬حنجرته،‭ ‬وقال‭:‬

‭-‬ليت‭ ‬الحقيبة‭ ‬تتسعُ‭ ‬للجدران،‭ ‬والنوافذ،‭ ‬والأبواب‭!‬

فجأةً،‭ ‬صدرَ‭ ‬صوتٌ‭ ‬قويٌّ‭ ‬أخاف‭ ‬وحوشَ‭ ‬الليل؛‭ ‬فقد‭ ‬تتالت‭ ‬صرخاتٌ‭ ‬مفجوعةٌ‭ ‬اخترقت‭ ‬جدران‭ ‬بيت‭ ‬جيرانه‭ ‬ثمّ‭ ‬صمتتْ‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬فاعتصرَ‭ ‬قلبُه‭ ‬ألمًا،‭ ‬وعاد‭ ‬الخوف‭ ‬ليرتدي‭ ‬أمامه‭ ‬ثيابَ‭ ‬القوّة،‭ ‬فأغارَ‭ ‬مرةً‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬قلبه،‭ ‬واستولى‭ ‬عليه‭. ‬حينها،‭ ‬انتفضت‭ ‬جوارحه،‭ ‬وتسابقتْ‭ ‬خطواته‭ ‬المجنونة‭ ‬متجهةً‭ ‬إلى‭ ‬الحقيبة‭ ‬الضيّقة،‭ ‬فأمسكَ‭ ‬يدَيها‭ ‬ثمّ‭ ‬رفَعها؛‭ ‬لكنّها‭ ‬تسمّرت‭ ‬في‭ ‬الأرض،‭ ‬فأرخى‭ ‬قوّةً‭ ‬أكبر‭ ‬لحمْلِها،‭ ‬فارتفعت‭ ‬قليلًا‭ ‬ثمّ‭ ‬صدَر‭ ‬صوتٌ‭ ‬قويٌّ‭ ‬منها،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعبأ‭ ‬بهِ،‭ ‬اتجه‭ ‬إلى‭ ‬الباب‭ ‬بسرعةٍ‭ ‬مُقيَّدةٍ،‭ ‬إذ‭ ‬إنّ‭ ‬ثقلَ‭ ‬الحقيبة‭ ‬مَنَع‭ ‬قدمَيه‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تسرعا‭ ‬على‭ ‬الرّغم‭ ‬من‭ ‬رغبتِهما‭ ‬الملحّة‭ ‬في‭ ‬الهروب،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإنّهُ‭ ‬تابع‭ ‬السّير‭ ‬خارجًا‭ ‬إلى‭ ‬البيادر‭ ‬النائمة‭ ‬بدعَةٍ‭ ‬بين‭ ‬البيوت‭.‬

كانت‭ ‬خطواتُه‭ ‬تتحرّر‭ ‬من‭ ‬القيدِ‭ ‬الذي‭ ‬فرضَه‭ ‬عليها‭ ‬ثقْلُ‭ ‬الحقيبةِ‭ ‬مع‭ ‬كلّ‭ ‬تقدّم‭ ‬كان‭ ‬يتقدّمُه‭. ‬ولمّا‭ ‬وصَل‭ ‬إلى‭ ‬حديقة‭ ‬بيتِه‭ ‬وضَع‭ ‬الحقيبة‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬ثمّ‭ ‬نظر‭ ‬متأمِّلًا‭ ‬إلى‭ ‬شجرةِ‭ ‬التوت‭ ‬العتيقة،‭ ‬والسّورِ‭ ‬الخشبيّ‭ ‬الذي‭ ‬يلمُّها،‭ ‬والياسمينةِ‭ ‬التي‭ ‬تسلّقت‭ ‬سياجها،‭ ‬والسماءِ‭ ‬التي‭ ‬علتْ‭ ‬فوقَها‭... ‬حينها،‭ ‬انتابتْه‭ ‬مشاعرُ‭ ‬ألمٍ‭ ‬كأنها‭ ‬سكينٌ‭ ‬انسلّتْ‭ ‬للتوّ‭ ‬من‭ ‬خاصرته،‭ ‬فنظر‭ ‬إلى‭ ‬الحقيبة‭ ‬الصغيرة،‭ ‬قائلًا‭:‬

‭- ‬لو‭ ‬كنتِ‭ ‬أكبرَ‭ ‬لاستطعتُ‭ ‬أن‭ ‬أضعَ‭ ‬فيكِ‭ ‬البيتَ،‭ ‬والحديقةَ،‭ ‬والسماءَ‭ ‬الصغيرة‭.‬

‭ ‬فنمت‭ ‬على‭ ‬شفتَيه‭ ‬ابتسامةٌ‭ ‬مؤلمةٌ،‭ ‬ثمّ‭ ‬امتدّت‭ ‬أكثر‭ ‬فتحوّلتْ‭ ‬إلى‭ ‬ضحكةٍ‭ ‬مُرّةٍ‭ ‬ضمّت‭ ‬كلماتِه‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬مستدرِكًا‭:‬

‭-‬بل‭ ‬لو‭ ‬أنّ‭ ‬جسدي‭ ‬يَقوى‭ ‬على‭ ‬حمْل‭ ‬وطني‭ ‬لكنتُ‭ ‬حملتُه‭ ‬على‭ ‬ظهري‭ ‬ورحلتُ‭.‬

فجأةً،‭ ‬اقترب‭ ‬غبارُ‭ ‬الموت‭ ‬من‭ ‬وجهه؛‭ ‬إذ‭ ‬أحسّ‭ ‬بأنّ‭ ‬شيئًا‭ ‬سوداويًّا‭ ‬يغزو‭ ‬طريقَ‭ ‬بيته؛‭ ‬لذا‭ ‬غيّر‭ ‬خُطّتَه،‭ ‬فاتّجهت‭ ‬نظراتُه‭ ‬إلى‭ ‬بيّارة‭ ‬الزيتون‭ ‬والبرتقال‭ ‬التي‭ ‬تبدو‭ ‬طريقًا‭ ‬آمنًا‭ ‬لقدمَيه‭. ‬ومن‭ ‬دونِ‭ ‬تفكيرٍ،‭ ‬أحنى‭ ‬ظهرَه‭ ‬ليلتقط‭ ‬الحقيبةَ،‭ ‬فأمسكها،‭ ‬ثمّ‭ ‬رفعَها،‭ ‬فنزلت‭ ‬آخرُ‭ ‬الذكريات‭ ‬من‭ ‬شقِّ‭ ‬الحقيبة‭ ‬الذي‭ ‬كبرَ‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬خطوةٍ‭ ‬كان‭ ‬يخطوها‭... ‬فتسمّرَت‭ ‬قدماه‭ ‬في‭ ‬الأرضِ،‭ ‬أمّا‭ ‬رأسُه‭ ‬فأمالَه‭ ‬إلى‭ ‬الخلف‭ ‬ونظرَ‭ ‬إلى‭ ‬درج‭ ‬البيت‭ ‬الحجري؛‭ ‬فرأى‭ ‬الذكرياتِ‭ ‬مندثرةً‭ ‬على‭ ‬الأرض‭. ‬

حينَها،‭ ‬تحوّلَ‭ ‬جسدُه‭ ‬إلى‭ ‬تمثالٍ‭ ‬ضمّ‭ ‬شبحًا‭ ‬من‭ ‬اليأسِ‭ ‬في‭ ‬جوفِه؛‭ ‬فقد‭ ‬جمدتْ‭ ‬أعضاؤه،‭ ‬وتحجّرتْ‭ ‬عينَاه،‭ ‬ووقفتْ‭ ‬دمعتهُ‭ ‬على‭ ‬حافّة‭ ‬أهدابِه،‭ ‬فثبتَ‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يهتمّ‭ ‬بالخطر‭ ‬الذي‭ ‬اقترب‭ ‬من‭ ‬سياج‭ ‬الحديقة‭.‬

فجأةً،‭ ‬تحرَّرتْ‭ ‬دمعتُه‭ ‬من‭ ‬سجنها،‭ ‬أمّا‭ ‬عضلاتُ‭ ‬يدَيه‭ ‬فقد‭ ‬ارتختْ،‭ ‬وقدماهُ‭ ‬انحنتَا،‭ ‬فركع‭ ‬على‭ ‬الأرضِ‭ ‬وصرخ‭ ‬صرخةً‭ ‬دوَتْ‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬ثمّ‭ ‬تتابعت‭ ‬الصرخاتُ‭ ‬اليائسةُ‭ ‬من‭ ‬حنجرته‭ ‬المتحجّرة‭ ‬حتى‭ ‬تعبت‭ ‬السماءُ‭ ‬من‭ ‬احتضان‭ ‬الألم،‭ ‬فصمَت‭ ‬متدثّرًا‭ ‬صوفَ‭ ‬خيبته‭... ‬وبينما‭ ‬اليأسُ‭ ‬يغطي‭ ‬وجهَه‭ ‬وُجِّهِ‭ ‬إليه‭ ‬ضوءٌ‭ ‬أحمرُ،‭ ‬وراحَ‭ ‬يتفحّصُه‭ ‬من‭ ‬بعيدٍ؛‭ ‬إذ‭ ‬انتقلَ‭ ‬من‭ ‬رأسِه‭ ‬إلى‭ ‬صدرِه‭ ‬إلى‭ ‬قدمَيه،‭ ‬ثمّ‭ ‬استقرّ‭ ‬في‭ ‬جبهتِه‭ ‬وصدرَ‭ ‬صوتُ‭ ‬ضجيج؛‭ ‬فعمّ‭ ‬السكونُ‭ ‬أعضاءَه‭ ‬كلّها،‭ ‬وسال‭ ‬السائلُ‭ ‬الأحمرُ‭ ‬حتى‭ ‬استقرّ‭ ‬في‭ ‬جذع‭ ‬شجرة‭ ‬التوت‭ ‬والياسمينة‭ ‬البيضاء‭. ‬بعدها،‭ ‬امتدتْ‭ ‬إليه‭ ‬أيادٍ‭ ‬مجهولةٌ؛‭ ‬أمسكته‭ ‬من‭ ‬قميصه،‭ ‬وجرّته‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬الحديقة،‭ ‬فلوّن‭ ‬السائلُ‭ ‬الأحمرُ‭ ‬حجارةَ‭ ‬الطريق‭... ‬أمّا‭ ‬البيت‭ ‬فظلّ‭ ‬واقفًا‭ ‬على‭ ‬حافة‭ ‬مجهولٍ‭ ‬عربيد‭ ‬هو‭ ‬والذكرياتُ‭ ‬المندثرةُ‭ ‬على‭ ‬درجه‭ ‬الحجريّ‭. ‬

 

{ كاتبة‭ ‬سوريّة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا