في ليلةٍ هاربةٍ من الحياة، استسلمَ الأفقُ للطائرات؛ أمّا الأرضُ فقد ضجّتْ بأصوات الصّراخ والرّصاص. حينَها، تسلّلت رائحةُ الموتِ إلى قلبِ طه وبيتِه، فأحسَّ بأنّ الأرض تميدُ تحت قدمَيه، وأنّ الجدار الحجريّ بهشاشة سنبلة شعير؛ فاتّجه إلى غرفته، وأخرَجَ حقيبة السفر، ثمّ مشى بخطواتٍ مُرتَبِكةٍ نحو الزّوايا التي ضمّت ماضيه، فلمَّ ذكرياتِه كلَّها: ألبومَ الصّور العتيقة، ووردةً مجفَّفةً تصرخُ: أنا أوّلُ هديّة، ومنديلَ أمّه المطرّزَ الذي يحملُ بين خيوطه ظلَّها المتعَب، وأقلامًا، وممحاةً، وشهادةَ تخرّج في المدرسة، وصورةَ أبيه المعلّقة... ثمّ كدّسها واحدةً تلو الأخرى في الحقيبة الضّيقة.
فجأةً، شعرَ بأنّ رغبتَه في الهروب تلاشت، وبأنّ وطنَه الصغيرَ يستحقُّ دقائقَ أُخرى بها يُعانقُه لآخر مرّة، فجلس ببرودٍ على كرسيّه متأملًا البيت... ففي تلك الزّاوية بكى، وعلى تلك المصطبة وقفَ مودّعًا وجعًا نهَب سكِينَته، وأمامَ تلك النافذة المفتوحة وقفَ كثيرًا مسلِّمًا همومَه إلى الهدهد الذي سَئِمَ بوحَه... حينها، تنهّد محاولًا طرْد الغصّةِ التي أحكمتِ القبضةَ على حنجرته، وقال:
-ليت الحقيبة تتسعُ للجدران، والنوافذ، والأبواب!
فجأةً، صدرَ صوتٌ قويٌّ أخاف وحوشَ الليل؛ فقد تتالت صرخاتٌ مفجوعةٌ اخترقت جدران بيت جيرانه ثمّ صمتتْ إلى الأبد، فاعتصرَ قلبُه ألمًا، وعاد الخوف ليرتدي أمامه ثيابَ القوّة، فأغارَ مرةً أخرى على قلبه، واستولى عليه. حينها، انتفضت جوارحه، وتسابقتْ خطواته المجنونة متجهةً إلى الحقيبة الضيّقة، فأمسكَ يدَيها ثمّ رفَعها؛ لكنّها تسمّرت في الأرض، فأرخى قوّةً أكبر لحمْلِها، فارتفعت قليلًا ثمّ صدَر صوتٌ قويٌّ منها، ومن دون أن يعبأ بهِ، اتجه إلى الباب بسرعةٍ مُقيَّدةٍ، إذ إنّ ثقلَ الحقيبة مَنَع قدمَيه من أن تسرعا على الرّغم من رغبتِهما الملحّة في الهروب، ومع ذلك، فإنّهُ تابع السّير خارجًا إلى البيادر النائمة بدعَةٍ بين البيوت.
كانت خطواتُه تتحرّر من القيدِ الذي فرضَه عليها ثقْلُ الحقيبةِ مع كلّ تقدّم كان يتقدّمُه. ولمّا وصَل إلى حديقة بيتِه وضَع الحقيبة على الأرض، ثمّ نظر متأمِّلًا إلى شجرةِ التوت العتيقة، والسّورِ الخشبيّ الذي يلمُّها، والياسمينةِ التي تسلّقت سياجها، والسماءِ التي علتْ فوقَها... حينها، انتابتْه مشاعرُ ألمٍ كأنها سكينٌ انسلّتْ للتوّ من خاصرته، فنظر إلى الحقيبة الصغيرة، قائلًا:
- لو كنتِ أكبرَ لاستطعتُ أن أضعَ فيكِ البيتَ، والحديقةَ، والسماءَ الصغيرة.
فنمت على شفتَيه ابتسامةٌ مؤلمةٌ، ثمّ امتدّت أكثر فتحوّلتْ إلى ضحكةٍ مُرّةٍ ضمّت كلماتِه وهو يقول مستدرِكًا:
-بل لو أنّ جسدي يَقوى على حمْل وطني لكنتُ حملتُه على ظهري ورحلتُ.
فجأةً، اقترب غبارُ الموت من وجهه؛ إذ أحسّ بأنّ شيئًا سوداويًّا يغزو طريقَ بيته؛ لذا غيّر خُطّتَه، فاتّجهت نظراتُه إلى بيّارة الزيتون والبرتقال التي تبدو طريقًا آمنًا لقدمَيه. ومن دونِ تفكيرٍ، أحنى ظهرَه ليلتقط الحقيبةَ، فأمسكها، ثمّ رفعَها، فنزلت آخرُ الذكريات من شقِّ الحقيبة الذي كبرَ مع كل خطوةٍ كان يخطوها... فتسمّرَت قدماه في الأرضِ، أمّا رأسُه فأمالَه إلى الخلف ونظرَ إلى درج البيت الحجري؛ فرأى الذكرياتِ مندثرةً على الأرض.
حينَها، تحوّلَ جسدُه إلى تمثالٍ ضمّ شبحًا من اليأسِ في جوفِه؛ فقد جمدتْ أعضاؤه، وتحجّرتْ عينَاه، ووقفتْ دمعتهُ على حافّة أهدابِه، فثبتَ في مكانه من دون أن يهتمّ بالخطر الذي اقترب من سياج الحديقة.
فجأةً، تحرَّرتْ دمعتُه من سجنها، أمّا عضلاتُ يدَيه فقد ارتختْ، وقدماهُ انحنتَا، فركع على الأرضِ وصرخ صرخةً دوَتْ في المكان، ثمّ تتابعت الصرخاتُ اليائسةُ من حنجرته المتحجّرة حتى تعبت السماءُ من احتضان الألم، فصمَت متدثّرًا صوفَ خيبته... وبينما اليأسُ يغطي وجهَه وُجِّهِ إليه ضوءٌ أحمرُ، وراحَ يتفحّصُه من بعيدٍ؛ إذ انتقلَ من رأسِه إلى صدرِه إلى قدمَيه، ثمّ استقرّ في جبهتِه وصدرَ صوتُ ضجيج؛ فعمّ السكونُ أعضاءَه كلّها، وسال السائلُ الأحمرُ حتى استقرّ في جذع شجرة التوت والياسمينة البيضاء. بعدها، امتدتْ إليه أيادٍ مجهولةٌ؛ أمسكته من قميصه، وجرّته إلى خارج الحديقة، فلوّن السائلُ الأحمرُ حجارةَ الطريق... أمّا البيت فظلّ واقفًا على حافة مجهولٍ عربيد هو والذكرياتُ المندثرةُ على درجه الحجريّ.
{ كاتبة سوريّة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك