زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
خطرفة حول قواعد اللغة
اللغة نسق من الإشارات والرموز، هي أداة المعرفة الأولى، وأهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة. وبدون اللغة يتعذر نشاط المعرفي. ترتبط اللغة بالتفكير ارتباطا وثيقًا؛ فأفكار الإنسان تصاغ دومًا في قالب لغوي، واللغة العربية هي ذاكرة الشعوب العربية، ولكنها تتعرض للإهمال الرسمي والشعبي.
مثلا أنفقت بريطانيا خلال عام 2018 نحو 90 مليون جنيه إسترليني في إعداد منهج جديد للغة الانجليزية لمختلف المراحل الدراسية، وعندما عرض المنهج على خبراء التربية والتعليم أوصوا بوضعه في الأرشيف أو المتحف لأن به جرعة زائدة من قواعد اللغة والنحو. وبالرغم من حبي الشديد للغة العربية فإنني أظل أتوجس من الوقوع في الخطأ وأنا أكتب بها، وقد صاحبتني هذه العقدة منذ مرحلة الدراسة الابتدائية، عندما دخل «زيد وعمرو» حياتي المدرسية من خلال مرس اللغة العربية الذي أشبعنا نحواً وتطبيقاً وضرباً، وكانت علاقتي بذلك المدرس طيبة بدءا بمرحلة الافعال الثلاثة ومروراً بالفاعل ثم انتهت عند نائب الفاعل، فقد كانت الرؤية في تلك المرحلة واضحة بعض الشيء، وفجأة ظهر المفعول به، وقلنا: لا بأس، ولكنه كان يجر وراءه المفعول معه، والمفعول لأجله والمفعول بالوكالة، والمفعول المطلق والمفعول النسبي، والمفعول بالبشاميل، ثم دخلت المنهج عبارات سريالية مثل: الفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره هو.. وإن الفعل في محل نصب كذا وكذا، وأحيانا تصل الشطحات اللغوية إلى درجة أن يقال لك ان الجملة مؤلفة من تسع كلمات -مثلا- هي في محل رفع خبر المبتدأ.
وبالطبع فمن حق أي فاعل أن يتستر على فعلته، ولكن ليس من حق أحد أن يحول دروس اللغة إلى ما يشبه دراسة القانون الجنائي، وقانون الاثبات، ويطالبني ويطالب غيري بالعثور على الفاعل والقصاص للمفعول به مع توخي «التمييز»، وتقصي «الحال» ودراسة الظرف الزماني والمكاني للفعلة، التي استوجبت اختفاء الفاعل، أو إلقاء تبعة ما حدث على نائب الفاعل، ولا أحسب أن قواعد اللغة العربية جنت على شخص كما جنت على نائب الفاعل، لأنه في الأصل كان مفعولا به أي مجنيا عليه، وفجأة ولأننا نسير أمورنا بالواسطة والمحاسيب يتحول هذا المفعول به إلى نائب فاعل، ورغم أن ذلك يتم عادة بالرفع إلا أن هذا الترفيع لا يخفي المحاباة في إعفاء الفاعل من المسؤولية وتحميلها لمن كان ضحية الفعل والفاعل.
وقد حسبت بعد أن غادرت المؤسسات التعليمية أن صلتي بالنحاة وأفانينهم العجيبة في تعجيز كل من يقرأ أو يكتب قد انتهت، ولكنني كنت مخطئاً، فقد اتضح لي أن لهم عملاء في كافة دور الصحف ووسائل الإعلام يؤشرون على كل كلمة باللون الأحمر لتستقيم وفقاً لوصايا أبي الاسود الدؤلي، أول من وضع قواعد اللغة العربية ففتح بذلك شهية سيبويه الذي ملأ اللغة بالمسامير والبراغي والاطراف المدببة. ومن بعده ابن مالك الذي صاغ تلك القواعد في ألف بيت من الشعر الطلسمي، وقد كان الدؤلي مشهوراً بالبخل وكان يصوم ثلاثة أيام بلياليها لضغط المصروفات «وتطفيش» الضيوف، ويغلب الظن عندي أنه تفادى التبسيط، وعمد إلى التعقيد كي يتحاشى الآخرون الاقتراب منه، لأن الاقتراب يؤدي بالضرورة إلى ممارسة كرم الضيافة.
ثم دخل الدؤلي وسيبويه وابن مالك بيتي بعد أن كبر العيال وحان أوان تنفيرهم من اللغة العربية عبر المناهج المدرسية.. وقد عرضت على عيالي مائة ريال مقابل إعفائي من إعراب الجملة الواحدة، ولكن العيال رفضوا تلك العروض وأرغموني على أن أبدأ مجدداً من نقطة الصفر مع قواعد النحو فشرعت مرة أخرى في التعامل مع «كان» وأخواتها التي لا أحد تزوجهن لقبحهن، ولكنني أجد لذة لا حد لها عندما أقول لعيالي إن «كان» فعل ماض ناقص وبالتالي فإنها وأخواتها سيبقين عوانس إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. ومع كل هذا فإنني أجد نفسي ملزماً بمراعاة قواعد الضبط والربط المنصوص عليها في ألفية ابن مالك حرصاً على مستقبل عيالي الدراسي.
ولا يحسبني أحد أنني أعاني من الإحباط لأنني لست متمكناً من تلك القواعد. بالعكس اكتشفت أن الذوق والفطرة السليمة المكتسبتان بالإكثار من قراءة الكتب الرصينة هما خير الأدوات لتملك ناصية اللغة. وليمُتْ أعضاء حزب سيبويه بغيظهم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك