العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

خطرفة حول قواعد اللغة

اللغة‭ ‬نسق‭ ‬من‭ ‬الإشارات‭ ‬والرموز،‭ ‬هي‭ ‬أداة‭ ‬المعرفة‭ ‬الأولى،‭ ‬وأهم‭ ‬وسائل‭ ‬التفاهم‭ ‬والاحتكاك‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬ميادين‭ ‬الحياة‭. ‬وبدون‭ ‬اللغة‭ ‬يتعذر‭ ‬نشاط‭ ‬المعرفي‭. ‬ترتبط‭ ‬اللغة‭ ‬بالتفكير‭ ‬ارتباطا‭ ‬وثيقًا؛‭ ‬فأفكار‭ ‬الإنسان‭ ‬تصاغ‭ ‬دومًا‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬لغوي،‭ ‬واللغة‭ ‬العربية‭ ‬هي‭ ‬ذاكرة‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية،‭ ‬ولكنها‭ ‬تتعرض‭ ‬للإهمال‭ ‬الرسمي‭ ‬والشعبي‭.‬

مثلا‭ ‬أنفقت‭ ‬بريطانيا‭ ‬خلال‭ ‬عام‭ ‬2018‭ ‬نحو‭ ‬90‭ ‬مليون‭ ‬جنيه‭ ‬إسترليني‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬منهج‭ ‬جديد‭ ‬للغة‭ ‬الانجليزية‭ ‬لمختلف‭ ‬المراحل‭ ‬الدراسية،‭ ‬وعندما‭ ‬عرض‭ ‬المنهج‭ ‬على‭ ‬خبراء‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬أوصوا‭ ‬بوضعه‭ ‬في‭ ‬الأرشيف‭ ‬أو‭ ‬المتحف‭ ‬لأن‭ ‬به‭ ‬جرعة‭ ‬زائدة‭ ‬من‭ ‬قواعد‭ ‬اللغة‭ ‬والنحو‭. ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬حبي‭ ‬الشديد‭ ‬للغة‭ ‬العربية‭ ‬فإنني‭ ‬أظل‭ ‬أتوجس‭ ‬من‭ ‬الوقوع‭ ‬في‭ ‬الخطأ‭ ‬وأنا‭ ‬أكتب‭ ‬بها،‭ ‬وقد‭ ‬صاحبتني‭ ‬هذه‭ ‬العقدة‭ ‬منذ‭ ‬مرحلة‭ ‬الدراسة‭ ‬الابتدائية،‭ ‬عندما‭ ‬دخل‭ ‬‮«‬زيد‭ ‬وعمرو‮»‬‭ ‬حياتي‭ ‬المدرسية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مرس‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬الذي‭ ‬أشبعنا‭ ‬نحواً‭ ‬وتطبيقاً‭ ‬وضرباً،‭ ‬وكانت‭ ‬علاقتي‭ ‬بذلك‭ ‬المدرس‭ ‬طيبة‭ ‬بدءا‭ ‬بمرحلة‭ ‬الافعال‭ ‬الثلاثة‭ ‬ومروراً‭ ‬بالفاعل‭ ‬ثم‭ ‬انتهت‭ ‬عند‭ ‬نائب‭ ‬الفاعل،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬الرؤية‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬واضحة‭ ‬بعض‭ ‬الشيء،‭ ‬وفجأة‭ ‬ظهر‭ ‬المفعول‭ ‬به،‭ ‬وقلنا‭: ‬لا‭ ‬بأس،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬يجر‭ ‬وراءه‭ ‬المفعول‭ ‬معه،‭ ‬والمفعول‭ ‬لأجله‭ ‬والمفعول‭ ‬بالوكالة،‭ ‬والمفعول‭ ‬المطلق‭ ‬والمفعول‭ ‬النسبي،‭ ‬والمفعول‭ ‬بالبشاميل،‭ ‬ثم‭ ‬دخلت‭ ‬المنهج‭ ‬عبارات‭ ‬سريالية‭ ‬مثل‭: ‬الفاعل‭ ‬ضمير‭ ‬مستتر‭ ‬وجوبا‭ ‬تقديره‭ ‬هو‭.. ‬وإن‭ ‬الفعل‭ ‬في‭ ‬محل‭ ‬نصب‭ ‬كذا‭ ‬وكذا،‭ ‬وأحيانا‭ ‬تصل‭ ‬الشطحات‭ ‬اللغوية‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬يقال‭ ‬لك‭ ‬ان‭ ‬الجملة‭ ‬مؤلفة‭ ‬من‭ ‬تسع‭ ‬كلمات‭ -‬مثلا‭- ‬هي‭ ‬في‭ ‬محل‭ ‬رفع‭ ‬خبر‭ ‬المبتدأ‭.‬

وبالطبع‭ ‬فمن‭ ‬حق‭ ‬أي‭ ‬فاعل‭ ‬أن‭ ‬يتستر‭ ‬على‭ ‬فعلته،‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬يحول‭ ‬دروس‭ ‬اللغة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬دراسة‭ ‬القانون‭ ‬الجنائي،‭ ‬وقانون‭ ‬الاثبات،‭ ‬ويطالبني‭ ‬ويطالب‭ ‬غيري‭ ‬بالعثور‭ ‬على‭ ‬الفاعل‭ ‬والقصاص‭ ‬للمفعول‭ ‬به‭ ‬مع‭ ‬توخي‭ ‬‮«‬التمييز‮»‬،‭ ‬وتقصي‭ ‬‮«‬الحال‮»‬‭ ‬ودراسة‭ ‬الظرف‭ ‬الزماني‭ ‬والمكاني‭ ‬للفعلة،‭ ‬التي‭ ‬استوجبت‭ ‬اختفاء‭ ‬الفاعل،‭ ‬أو‭ ‬إلقاء‭ ‬تبعة‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬على‭ ‬نائب‭ ‬الفاعل،‭ ‬ولا‭ ‬أحسب‭ ‬أن‭ ‬قواعد‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬جنت‭ ‬على‭ ‬شخص‭ ‬كما‭ ‬جنت‭ ‬على‭ ‬نائب‭ ‬الفاعل،‭ ‬لأنه‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬كان‭ ‬مفعولا‭ ‬به‭ ‬أي‭ ‬مجنيا‭ ‬عليه،‭ ‬وفجأة‭ ‬ولأننا‭ ‬نسير‭ ‬أمورنا‭ ‬بالواسطة‭ ‬والمحاسيب‭ ‬يتحول‭ ‬هذا‭ ‬المفعول‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬نائب‭ ‬فاعل،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬يتم‭ ‬عادة‭ ‬بالرفع‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الترفيع‭ ‬لا‭ ‬يخفي‭ ‬المحاباة‭ ‬في‭ ‬إعفاء‭ ‬الفاعل‭ ‬من‭ ‬المسؤولية‭ ‬وتحميلها‭ ‬لمن‭ ‬كان‭ ‬ضحية‭ ‬الفعل‭ ‬والفاعل‭.‬

وقد‭ ‬حسبت‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬غادرت‭ ‬المؤسسات‭ ‬التعليمية‭ ‬أن‭ ‬صلتي‭ ‬بالنحاة‭ ‬وأفانينهم‭ ‬العجيبة‭ ‬في‭ ‬تعجيز‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يقرأ‭ ‬أو‭ ‬يكتب‭ ‬قد‭ ‬انتهت،‭ ‬ولكنني‭ ‬كنت‭ ‬مخطئاً،‭ ‬فقد‭ ‬اتضح‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬لهم‭ ‬عملاء‭ ‬في‭ ‬كافة‭ ‬دور‭ ‬الصحف‭ ‬ووسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬يؤشرون‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬كلمة‭ ‬باللون‭ ‬الأحمر‭ ‬لتستقيم‭ ‬وفقاً‭ ‬لوصايا‭ ‬أبي‭ ‬الاسود‭ ‬الدؤلي،‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬وضع‭ ‬قواعد‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬ففتح‭ ‬بذلك‭ ‬شهية‭ ‬سيبويه‭ ‬الذي‭ ‬ملأ‭ ‬اللغة‭ ‬بالمسامير‭ ‬والبراغي‭ ‬والاطراف‭ ‬المدببة‭. ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬ابن‭ ‬مالك‭ ‬الذي‭ ‬صاغ‭ ‬تلك‭ ‬القواعد‭ ‬في‭ ‬ألف‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬الطلسمي،‭ ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬الدؤلي‭ ‬مشهوراً‭ ‬بالبخل‭ ‬وكان‭ ‬يصوم‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬بلياليها‭ ‬لضغط‭ ‬المصروفات‭ ‬‮«‬وتطفيش‮»‬‭ ‬الضيوف،‭ ‬ويغلب‭ ‬الظن‭ ‬عندي‭ ‬أنه‭ ‬تفادى‭ ‬التبسيط،‭ ‬وعمد‭ ‬إلى‭ ‬التعقيد‭ ‬كي‭ ‬يتحاشى‭ ‬الآخرون‭ ‬الاقتراب‭ ‬منه،‭ ‬لأن‭ ‬الاقتراب‭ ‬يؤدي‭ ‬بالضرورة‭ ‬إلى‭ ‬ممارسة‭ ‬كرم‭ ‬الضيافة‭.‬

ثم‭ ‬دخل‭ ‬الدؤلي‭ ‬وسيبويه‭ ‬وابن‭ ‬مالك‭ ‬بيتي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كبر‭ ‬العيال‭ ‬وحان‭ ‬أوان‭ ‬تنفيرهم‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬عبر‭ ‬المناهج‭ ‬المدرسية‭.. ‬وقد‭ ‬عرضت‭ ‬على‭ ‬عيالي‭ ‬مائة‭ ‬ريال‭ ‬مقابل‭ ‬إعفائي‭ ‬من‭ ‬إعراب‭ ‬الجملة‭ ‬الواحدة،‭ ‬ولكن‭ ‬العيال‭ ‬رفضوا‭ ‬تلك‭ ‬العروض‭ ‬وأرغموني‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أبدأ‭ ‬مجدداً‭ ‬من‭ ‬نقطة‭ ‬الصفر‭ ‬مع‭ ‬قواعد‭ ‬النحو‭ ‬فشرعت‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬‮«‬كان‮»‬‭ ‬وأخواتها‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬تزوجهن‭ ‬لقبحهن،‭ ‬ولكنني‭ ‬أجد‭ ‬لذة‭ ‬لا‭ ‬حد‭ ‬لها‭ ‬عندما‭ ‬أقول‭ ‬لعيالي‭ ‬إن‭ ‬‮«‬كان‮»‬‭ ‬فعل‭ ‬ماض‭ ‬ناقص‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإنها‭ ‬وأخواتها‭ ‬سيبقين‭ ‬عوانس‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يرث‭ ‬الله‭ ‬الأرض‭ ‬ومن‭ ‬عليها‭.. ‬ومع‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬فإنني‭ ‬أجد‭ ‬نفسي‭ ‬ملزماً‭ ‬بمراعاة‭ ‬قواعد‭ ‬الضبط‭ ‬والربط‭ ‬المنصوص‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬ألفية‭ ‬ابن‭ ‬مالك‭ ‬حرصاً‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬عيالي‭ ‬الدراسي‭.‬

ولا‭ ‬يحسبني‭ ‬أحد‭ ‬أنني‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬الإحباط‭ ‬لأنني‭ ‬لست‭ ‬متمكناً‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القواعد‭. ‬بالعكس‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬الذوق‭ ‬والفطرة‭ ‬السليمة‭ ‬المكتسبتان‭ ‬بالإكثار‭ ‬من‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب‭ ‬الرصينة‭ ‬هما‭ ‬خير‭ ‬الأدوات‭ ‬لتملك‭ ‬ناصية‭ ‬اللغة‭. ‬وليمُتْ‭ ‬أعضاء‭ ‬حزب‭ ‬سيبويه‭ ‬بغيظهم‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا