الديوان الشعري (ذاكرة الماء) هو الديوان الجديد للشاعر البحريني علي الستراوي، والصادر عام 2024 عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع في مصر، وعلي الستراوي يكتب القصيدة بطريقة السهل الممتنع بحيث تتدفق لديه اللغة ولكن بثراء عالي الدلالة، وفي هذا الديوان تحضر رمزية الماء وقيمته كدلالة واضحة في أغلب النصوص وكعامل مشترك ما بين تلك النصوص الشعرية، إذ إن الماء عنصر حيوي ضروري في الحياة وله رمزية في التراث والثقافة والموروث والفلسفة فهذا طاليس فسر العالم والوجود من خلال (الماء) الذي عده المادة الأولى التي انبثق منها الوجود بمظاهره كافة، ولا غرابة فإن للماء حضوره الدلالي في العديد من الفلسفات والأدبيات لما له من قيمة رمزية عالية في التعبير وطاقة كبيرة من الشحن العاطفي والسيرورة الفلسفية في متن النص، وهذا ما يمكن تلمسه في الديوان الشعري للمبدع الصديق علي الستراوي في جميع قصائد هذا الديوان (ذاكرة الماء) ابتداءً من العتبة الأولى (العنوان) وحتى في متونه الشعرية واحالاته الرمزية، وما يمكن تلمسه من خلال فعل القراءة المنتجة لنصوص الستراوي ضمن فضاء بنية قصيدته الشعرية هو حضور (السردية) العالية، إذ تتمثل لديه السردية في المعنى الشامل لنصوصه الشعرية لكنها لا تقدح في شعرية القصيدة، بل يبقى الشاعر محافظاً على إيقاع ونسق قصيدته الشعرية منذ بدايتها حتى نهايته، كما أن الستراوي يتمسك بالمعنى الطبيعي للحياة وتأثيره السيكولوجي (البحر / بحرارة الشمس/ زمن الطوفان، وماء/ الموج الغاضب/ وسط البيت/ ذاكرة الماء/ انحدار الشمس في المغيب/ ص5) وفي سبيل عشقه الكبير وحسه الشاعري الذي يدفعه لتناغم وانسجام البيئة الطبيعية الخارجية بما تضفيه من احاسيس ومشاعر مع تعبيراته الذاتية التي تنطلق من مشاعره التعبيرية عن المحكى الشعري، أي أن الستراوي في بعض قصائده وضمن فضاء نصه الشعري يعمل على بناء فرضية الانطلاق من الخاص إلى (العام) بوجد عاطفي واحساس يتسم باللعب على وتر الوطن العربي الواحد:
(حبيبتي تضع الورد فوق ترابي
وتقلم أظاهر الأشجار من علو لا ينحني
ولا يعاكس ما لم يعرف الوله
لأن المدن التي لا تنام لها وجه بغداد
وجسد لبنان
وراس فلسطين
وملتقى القامة بالحياة
يهب صارخا
إنه الخليج الذي غسل جسدي بماء الورد / ص7)
والشاعر في هذا الديوان حينما يريد أن يعبر عن حبه للأوطان فإنه يلتجأ إلى الأوصاف الشاعرية التي ترتبط بالطبيعة الخارجية كما اسلفت وهذه ثيمة تكرارية في طريقة تأثيث القصيدة لدى الشاعر علي الستراوي: (ويجوعون حينما تتشقق التربة/ حينما يكون للرياح صدر اللهب القادم في السباق/ فلا البرق استطاع أن يغازل المطر/ ولا المطر استطاع أن يصل للمدى الذي يريد قبل وصول الركب لنهاية المدى/ وقبل اخضرار الأرض بعافية الصحوة/ ولا تغادر فيافي النخل في الظهيرة/ ص8) أن الشحنة العاطفية التي تنبع من الطاقة الكبيرة للعوامل الطبيعية الخارجية هي ما تدفع الشاعر للخروج من الذات (الخاص) إلى تلك الفضاءات المفتوحة على إيقاع الإيحاء والإحالة والتي يتبادل معها طاقة التعبير والتوظيف الشعري عبر استدعاء اكثرها تلائماً مع اللحظة الشعرية التي ينطلق منها الشاعر في بناء نصه الشعري في أغلب نصوص هذا الديوان فترى أن دلالة هذه العوامل الطبيعية تتغاير وفقاً لنسق النص الشعري وسياقات توظيفاته التعبيرية بالارتكاز على موضوع القصيدة بالتحديد والطريقة التي يختار فيها الشاعر التعبير عن هذا الموضوع بالاعتماد على كمية التشبيهات والاستعارات والأفعال والأسماء التي تتناسق لتندمج بفضاء هذا النص. وفي نص (أحبك وكفى) يضع الشاعر تناقضات ما بين الحرب وبؤسها وما بين (الحب) وشفافيته. ما بين (الغياب/ الضياع) وهي ظاهرة يعبر عنها الشاعر حينما يريد أن يصف تناقضات هذا العالم أو عندما يوحي بالإشارة إلى مسألة (الحضور والغياب) في نصه الشعر، كما تظهر الميتا شعرية بهذه القصيدة عبر (واعيد شموعها في دماء قصائدي وانتظر). أما في نص (قبل كل أذان فجر) يبدو أن ذاكرة الماء تتمثل هنا عبر (دموع) (سحابة معلقة) يرسم خيوط استدعاء (صوت أو صورة الأم) وهو ما يمكن التقاطه من بنى نصوصه الشعرية فإن طاقة الماء ورمزيته تتحول وتتسم بالسيرورة تبعاً لنسق الموضوع في كل قصيدة من قصائد هذا الديوان ولكن طاقتها الرمزية حاضرة بقوة، كما أن الطرقات والمنازل مهيمنات في بناء نصوص الستراوي الشعرية وليس هذا وحسب بل يوظف الشاعر حضور الافتراضات ودلالة الحضور والغياب بما تلقيه من معاني على الإنسان ومن يتصل بهم عاطفياً، أن دلالة الماء لدى الستراوي تتحول كما أسلفت تبعاً لنسقية الماء في نصوصه الشعرية ففي نص (أبي آية في السهاد) يقول الشاعر:
(أبي
ها هو الماء
آسن بين قدمين متعبتين
عالق بهما الطين سنوات طوال/ص21) أما في نص (حكاية لا تضن على أحد بالهدوء) تتغير دلالة الماء بالنسبة (لقيمة الأم) (بعد أن صار اليوم شهراً
وصار العام دهراً
فمن غيرك يمسح ماء وجهي
يغسلني بالنقاء/ص27) وتتحول دلالة الماء ثالثة في نص (عندما لا ينشغل بالفحم وحده) وهكذا يبقى الماء عبر مجراه الرمزي حاضراً في أغلب نصوص هذا الديوان والذي من طبيعة قصائده والإهداء التي تسبق النص تشعر وكأنه ديوان شعري عائلي، كتبه الشاعر علي الستراوي بخصوصية فائقة، ولكنه كتب بلغة شعرية عالية مغلفة بالأحاسيس العاطفية الملبدة بالسردية العاطفية، ونصوص هذا الديوان تستحق القراءة المتفحصة الدقيقة لما فيها من تجربة شعرية ناضجة ومميزة.
{ ناقد وأكاديمي عراقي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك