العدد : ١٦٨٤٣ - السبت ٠٤ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤٣ - السبت ٠٤ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٥ شوّال ١٤٤٥هـ

الثقافي

لن يصمت عبدالله بعد اليوم.. السعداوي وداعا

بقلم: د. عبّاس حسن القصّاب

السبت ١٠ فبراير ٢٠٢٤ - 02:00

هو‭ ‬الفقد‭ ‬الذي‭ ‬يتفنن‭ ‬في‭ ‬إيجاع‭ ‬القلوب‭ ‬وإيذائها،‭ ‬هو‭ ‬الحد‭ ‬الذي‭ ‬يفصل‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬جسديا،‭ ‬ولكن‭ ‬يبقون‭ ‬في‭ ‬اللقيا‭ ‬محملين‭ ‬بفروض‭ ‬المحبة‭ ‬والمودة،‭ ‬سيذكر‭ ‬الجميع‭ ‬فقيدنا‭ ‬الراحل‭ ‬الكبير‭ ‬الأستاذ‭ ‬عبدالله‭ ‬السعداوي‭ ‬مكارم‭ ‬أخلاقه،‭ ‬وحلو‭ ‬سجاياه،‭ ‬وبياض‭ ‬قلبه‭ ‬النابض‭ ‬عشقا‭ ‬للإنسانية‭ ‬جميعا‭.‬

لن‭ ‬أتحدث‭ ‬إلا‭ ‬عن‭ ‬سخائه‭ ‬الفكري‭ ‬والفني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النعي‭ ‬الحزين،‭ ‬فهو‭ ‬يعد‭ ‬أبرز‭ ‬المسرحيين‭ ‬العرب،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬يذكر‭ ‬السعداوي‭ ‬وخصوصا‭ ‬في‭ ‬مصر‭ ‬المحروسة،‭ ‬إلا‭ ‬واشرأبت‭ ‬إلى‭ ‬ذكره‭ ‬الأعناق،‭ ‬وتسلل‭ ‬اسمه‭ ‬همسا‭ ‬وجهرا‭ ‬لصولاته‭ ‬وجولاته‭ ‬في‭ ‬المهرجان‭ ‬التجريبي،‭ ‬فهو‭ ‬الحائز‭ ‬أفضل‭ ‬إخراج‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المهرجان‭ ‬التخصصي‭ ‬العتيد‭ ‬عن‭ ‬مسرحيته‭ ‬الشهيرة‭ (‬الكمامة‭)‬،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الجوائز‭ ‬والاحتفاءات‭ ‬به‭.‬

فهو‭ ‬تعبّد‭ ‬في‭ ‬محراب‭ ‬المسرح،‭ ‬وكان‭ ‬الكاهن‭ ‬فيه،‭ ‬لا‭ ‬يبارحه‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أوقاته،‭ ‬ليس‭ ‬لافتتان‭ ‬مؤقت‭ ‬وهواية‭ ‬منصرمة،‭ ‬بل‭ ‬لغواية‭ ‬متغلغلة‭ ‬في‭ ‬أعماقه،‭ ‬وذلك‭ ‬لارتباط‭ ‬المسرح‭ ‬بالوجع‭ ‬الإنساني،‭ ‬والهم‭ ‬الكوني؛‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬عنوان‭ ‬كتابه‭ ‬الرائع‭ (‬المسرح‭.. ‬قلب‭ ‬الإنسانية‭ ‬المشترك‭)‬،‭ ‬فالمسرح‭ ‬عند‭ ‬السعداوي‭ ‬وعي‭ ‬وأسئلة،‭ ‬والمسرح‭ ‬عنده‭ ‬صمت‭ ‬وبوح،‭ ‬وسكون‭ ‬وحركة،‭ ‬وما‭ ‬أجمله‭ ‬في‭ ‬تشبيهه‭ ‬الصمت‭ ‬بالوردة‭ ‬التي‭ ‬تكلم‭ ‬عطرها‭ ‬عنها،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬الصدفة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ (‬ذا‭ ‬كمامة‭) ‬مرة‭ ‬و‭(‬حلاجا‭) ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬و‭(‬حكواتيا‭) ‬صامتا‭ ‬أيضا،‭ ‬فهذه‭ ‬المفارقات‭ ‬المتصادمة‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬انحياز‭ ‬لمسرح‭ ‬آخر،‭ ‬يدعو‭ ‬إلى‭ ‬مسرح‭ ‬إبداعي‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬الخلود‭ ‬والبقاء،‭ ‬ولذا‭ ‬نراه‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬تجريبية‭ ‬دائمة‭ ‬يذهب‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬المختلف‭ ‬الذي‭ ‬يحايث‭ ‬الإنسانية‭ ‬وعذاباتها‭ ‬وفق‭ ‬رؤية‭ ‬فلسفية‭ ‬وفكرية‭ ‬وبصيرة‭ ‬متقدة‭ ‬بقي‭ ‬يبحث‭ ‬عنها،‭ ‬ويفتش‭ ‬عن‭ ‬مخابئها‭ ‬بحثا‭ ‬ودراسة‭.‬

كان‭ ‬قارئا‭ ‬نهما‭ ‬واعيا،‭ ‬يمتلك‭ ‬معرفة‭ ‬موسوعية‭ ‬فريدة‭ ‬بالمسرح‭ ‬ونظرياته‭ ‬وفلسفاته‭ ‬ورجالاته،‭ ‬لا‭ ‬يستهين‭ ‬بما‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬يديه‭ ‬من‭ ‬مصادر‭ ‬معرفية،‭ ‬وهذا‭ ‬يظهر‭ ‬بجلاء‭ ‬حينما‭ ‬يتداخل‭ ‬في‭ ‬اللقاءات‭ ‬والندوات‭ ‬والمؤتمرات؛‭ ‬حيث‭ ‬نستمع‭ ‬إلى‭ ‬مداخلات‭ ‬عميقة‭ ‬جدا‭ ‬منطلقة‭ ‬من‭ ‬فكر‭ ‬رصين،‭ ‬ومعرفة‭ ‬واسعة‭ ‬بما‭ ‬يتحدث‭ ‬عنها،‭ ‬وليس‭ ‬استعراضا‭ ‬جدليا‭ ‬أجوف،‭ ‬بل‭ ‬رؤية‭ ‬منطلقة‭ ‬من‭ ‬خبرات‭ ‬متراكمة‭ ‬منبثقة‭ ‬من‭ ‬قراءات‭ ‬متتابعة،‭ ‬وممارسات‭ ‬وانشغالات‭ ‬مسرحية‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬مختبرية‭ ‬أم‭ ‬بروفات‭ ‬أم‭ ‬عروضا،‭ ‬فهو‭ ‬ممثل‭ ‬لا‭ ‬يشق‭ ‬له‭ ‬غبار،‭ ‬ومخرج‭ ‬متمايز،‭ ‬ومؤلف‭ ‬نصوص‭ ‬مسرحية‭ ‬متقدم‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬مجموعته‭ (‬جرينمو‭) ‬التي‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬تنال‭ ‬النشر‭ ‬قريبا،‭ ‬وكاتب‭ ‬متعمق‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬المسرحي،‭ ‬ولذا‭ ‬هو‭ ‬قدم‭ ‬زادا‭ ‬مسرحيا‭ ‬ثريا‭ ‬وتجارب‭ ‬غنية‭.‬

لقد‭ ‬خرّج‭ ‬الراحل‭ ‬العزيز‭ ‬من‭ ‬مدرسته‭ ‬المسرحية‭ ‬عددا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬الفنانين‭ ‬المسرحيين‭ ‬تمثيلا‭ ‬وإخراجا‭ ‬وتنظيرا‭ ‬أيضا؛‭ ‬ولذلك‭ ‬يعد‭ ‬مسرح‭ ‬الصواري‭ ‬الذي‭ ‬يقضي‭ ‬فيه‭ ‬السعداوي‭ ‬جلّ‭ ‬أوقاته‭ ‬بيتا‭ ‬لمنهج‭ ‬مسرحي‭ ‬تجريبي‭ ‬مغاير،‭ ‬زرع‭ ‬بذوره‭ ‬وسقاها‭ ‬السعداوي‭ ‬بفكره‭ ‬ووعيه‭ ‬وروحه‭ ‬الإنسانية‭ ‬المتقدة‭ ‬حبا‭ ‬وجمالا،‭ ‬يستقطب‭ ‬التجارب‭ ‬الشبابية،‭ ‬ويدافع‭ ‬عنها‭ ‬بقوة،‭ ‬حيث‭ ‬هم‭ ‬الأمل‭ ‬المعقود‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬بحريني‭ ‬عربي‭ ‬ناهض،‭ ‬إذ‭ ‬دخلت‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬نقاش‭ ‬جميل‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬لقاء‭ ‬حول‭ ‬تجارب‭ ‬الشباب‭ ‬الفنية،‭ ‬فكان‭ ‬منافحا‭ ‬عنهم،‭ ‬رافضا‭ ‬الوصاية‭ ‬عليهم‭ ‬فيما‭ ‬ينتهجون،‭ ‬بل‭ ‬ذهب‭ ‬بعيدا‭ ‬في‭ ‬رأيه‭ ‬‭ ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬مناكفا‭ ‬‭ ‬بأنهم‭ ‬ليسوا‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬نماذج‭ ‬تأسيسية،‭ ‬أو‭ ‬بنيات‭ ‬تقليدية،‭ ‬وإنما‭ ‬عليهم‭ ‬أن‭ ‬يبدأوا‭ ‬بتجاربهم‭ ‬وعرضها،‭ ‬كيفما‭ ‬شاءوا،‭ ‬فجيل‭ ‬اليوم‭ ‬مختلف‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عن‭ ‬جيلنا،‭ ‬إذ‭ ‬يمتلكون‭ ‬مهارات‭ ‬وثقافة‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬جيلنا،‭ ‬فلذلك‭ ‬ليسوا‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬شكسبير‭ ‬وسوفوكليس‭ ‬ويونسكو‭ ‬وتشيخوف‭ ‬وإبسن‭ ‬أو‭ ‬توفيق‭ ‬الحكيم‭ ‬والشرقاوي‭ ‬وصلاح‭ ‬عبدالصبور‭ ‬وغيرهم،‭ ‬بل‭ ‬يخوضون‭ ‬تجاربهم‭ ‬وفق‭ ‬رؤيتهم‭ ‬الذاتية‭.‬

وأذكر‭ ‬أني‭ ‬تشرفت‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬رئيسا‭ ‬لجلسة‭ ‬فكرية‭ ‬لأحد‭ ‬مؤتمرات‭ ‬اتحاد‭ ‬المسرحيين‭ ‬البحرينيين،‭ ‬وكان‭ ‬المرحوم‭ ‬والأستاذ‭ ‬جمعان‭ ‬الرويعي‭ ‬ضيفيْ‭ ‬الجلسة،‭ ‬فقدم‭ ‬الراحل‭ ‬الكبير‭ ‬ورقة‭ (‬مداخلة‭) ‬فكرية‭ ‬غير‭ ‬مكتوبة‭ ‬حول‭ ‬الأداء‭ ‬الجسدي،‭ ‬وتقنياته‭ ‬في‭ ‬المسرح،‭ ‬فما‭ ‬ترى‭ ‬إلا‭ ‬بحرا‭ ‬زاخرا‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬والنظريات‭ ‬والاستشهادات‭ ‬الارتجالية‭ ‬بأقوال‭ ‬كبار‭ ‬المسرحيين‭ ‬العالميين‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنم‭ ‬عن‭ ‬اطلاع‭ ‬واسع‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬وعي‭ ‬عميق‭ ‬وشامل‭ ‬بما‭ ‬يؤمن‭ ‬ويرى،‭ ‬يأخذ‭ ‬بكل‭ ‬مكونات‭ ‬العرض‭ ‬المسرحي‭ ‬من‭ ‬نص‭ ‬وأداء‭ ‬تمثيلي‭ ‬البعيد‭ ‬عن‭ (‬الثرثرة‭)‬،‭ ‬ورؤية‭ ‬إخراجية‭ ‬إبداعية،‭ ‬وسينوغرافيا‭ ‬وظيفية‭ ‬متماهية‭ ‬مع‭ ‬البعد‭ ‬التمثيلي‭ ‬بما‭ ‬تحقق‭ ‬مشهدية‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬مسرحي‭ ‬مختلف‭.‬

إن‭ ‬فقيدنا‭ ‬باق‭ ‬في‭ ‬قلوبنا‭ ‬وفكرنا،‭ ‬وإن‭ ‬صمت‭ ‬على‭ ‬الخشبة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أدواره،‭ ‬فلن‭ ‬يصمت‭ ‬بعد‭ ‬اليوم،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬ترك‭ ‬لنا‭ ‬إرثا‭ ‬غنيا‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬ومقالات‭ ‬ومجموعات‭ ‬مسرحية‭ ‬وتلاميذ‭ ‬ينتهجون‭ ‬مساره،‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬تنال‭ ‬تجربته‭ ‬المسرحية‭ ‬بكل‭ ‬أبعادها‭ ‬دراسات‭ ‬وبحوثا‭ ‬أكاديمية‭ ‬ولقاءات‭ ‬ومؤتمرات‭ ‬تناقش‭ ‬فنه‭ ‬وفكره‭.‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬فقيدنا‭ ‬الكبير‭ ‬أستاذنا‭ ‬وملهمنا‭ ‬ومعلمنا‭ ‬الفنان‭ ‬المبدع‭ ‬الخلوق‭ ‬الإنسان‭ ‬الأستاذ‭ ‬عبدالله‭ ‬السعداوي،‭ ‬وأسكنه‭ ‬الفردوس‭ ‬الأعلى‭ ‬وأغدق‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬رحمته‭ ‬ورأفته‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا