العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

قضايا و آراء

خيارات إسرائيلية صعبة بعد أكثر من مائة يوم من الحرب الإجرامية في غزة

بقلم: د. حسن نافعة {

الجمعة ٢٦ يناير ٢٠٢٤ - 02:00

جاء‭ ‬الردّ‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭ ‬التي‭ ‬شنّتها‭ ‬حماس‭ ‬يوم‭ ‬7‭ ‬أكتوبر‭ ‬الماضي‭ ‬غاضباً‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬تلامس‭ ‬الجنون‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬العملية‮»‬‭ ‬ألحقت‭ ‬بالكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬خسائر‭ ‬فادحة‭ ‬في‭ ‬الأرواح،‭ ‬وأدّت‭ ‬إلى‭ ‬أسر‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الجنود‭ ‬والمستوطنين،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬ضخامة‭ ‬خسائره‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬فشل‭ ‬‮«‬جيشه‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يدّعي‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يقهر‮»‬،‭ ‬وإلى‭ ‬عدم‭ ‬كفاءة‭ ‬أجهزته‭ ‬الأمنية‭ ‬التي‭ ‬تدّعي‭ ‬أنها‭ ‬أكثر‭ ‬الأجهزة‭ ‬حرفية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬أجمع‭.‬

كان‭ ‬الأحرى‭ ‬بـ«إسرائيل‮»‬،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تقرّر‭ ‬كيف‭ ‬ومتى‭ ‬تردّ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الهجوم‭ ‬المباغت‭ ‬والجريء‭ ‬الذي‭ ‬ألحق‭ ‬بها‭ ‬هزيمة‭ ‬لن‭ ‬تمحى،‭ ‬أن‭ ‬تتريّث‭ ‬قليلاً‭ ‬للتعرّف‭ ‬أوّلاً‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة‭ ‬وأسباب‭ ‬ما‭ ‬جرى،‭ ‬كي‭ ‬تضمن‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬فاعلية‭ ‬الرد‭ ‬وقابليته‭ ‬لتحقيق‭ ‬الأهداف‭ ‬المرجوة‭ ‬منه‭ ‬وضمان‭ ‬عدم‭ ‬تكراره‭ ‬مستقبلاً‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬الطبيعة‭ ‬الاستعلائية‭ ‬والعنصرية‭ ‬للكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬تغلّبت،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬أغرته‭ ‬بانتهاز‭ ‬الفرصة‭ ‬ليس‭ ‬للانتقام‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬فحسب،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضاً‭ ‬لتحقيق‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬أطماعه‭ ‬التوسعيّة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تحدّها‭ ‬قيود‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬أكدت‭ ‬أن‭ ‬الحرب‭ ‬التي‭ ‬أعلنتها‭ ‬تسعى‭ ‬لتحقيق‭ ‬ثلاثة‭ ‬أهداف‭: ‬تدمير‭ ‬قدرات‭ ‬حماس‭ ‬العسكرية،‭ ‬وإسقاط‭ ‬حكمها‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬وتحرير‭ ‬الأسرى‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬تسمّيهم‭ ‬‮«‬الرهائن‮»‬،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬أهدافها‭ ‬الحقيقية‭ ‬تجاوزت‭ ‬أهدافها‭ ‬المعلنة‭ ‬بكثير‭.‬

فهي‭ ‬ليست‭ ‬حرباً‭ ‬على‭ ‬حماس،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المسلحة،‭ ‬وإنما‭ ‬طالت‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬كلّه،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬أيضاً‭.‬

ففي‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬أدت‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬استشهاد‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬25‭ ‬ألف‭ ‬شخص،‭ ‬وجرح‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬60‭ ‬ألفاً‭ ‬آخرين،‭ ‬70%‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬والأطفال،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬آلاف‭ ‬الأشخاص‭ ‬مدفونين‭ ‬تحت‭ ‬ركام‭ ‬أنقاض‭ ‬البيوت‭ ‬المدمّرة‭ ‬التي‭ ‬وصل‭ ‬تعدادها‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬مليون‭ ‬منزل،‭ ‬وأجبرت‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬2‭ ‬مليون‭ ‬شخص‭ ‬على‭ ‬النزوح‭ ‬والتكدّس‭ ‬في‭ ‬رقعة‭ ‬جغرافية‭ ‬ضيّقة‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬الحدود‭ ‬المصرية،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬تواصل‭ ‬ضغوطها‭ ‬عليهم‭ ‬لإجبارهم‭ ‬على‭ ‬التوجّه‭ ‬إلى‭ ‬سيناء،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬مكشوفة‭ ‬لإخلاء‭ ‬القطاع،‭ ‬وتخيير‭ ‬سكانه‭ ‬بين‭ ‬الموت‭ ‬أو‭ ‬النزوح‭ ‬القسري‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬فقد‭ ‬كثّفت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬حملاتها‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬شملت‭ ‬معظم‭ ‬المدن‭ ‬والقرى‭ ‬والمخيمات،‭ ‬بدعوى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬مطلوبين،‭ ‬وقامت‭ ‬بقتل‭ ‬المئات‭ ‬واعتقال‭ ‬الآلاف‭ ‬وتدمير‭ ‬وإزالة‭ ‬عشرات‭ ‬المنازل،‭ ‬بدعوى‭ ‬عدم‭ ‬حصول‭ ‬أصحابها‭ ‬على‭ ‬تراخيص‭ ‬للبناء،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬مكشوفة‭ ‬لممارسة‭ ‬أقصى‭ ‬قدر‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الضغوط‭ ‬لإجبار‭ ‬سكان‭ ‬الضفة‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬النزوح‭ ‬قسراً‭ ‬إلى‭ ‬الأردن،‭ ‬أو‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬خارج‭ ‬الوطن‭.‬

اليوم،‭ ‬وبعد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مئة‭ ‬يوم‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬الإجرامية‭ ‬الشاملة‭ ‬على‭ ‬شعب‭ ‬أعزل،‭ ‬لم‭ ‬تتمكّن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬أهدافها‭ ‬المعلنة‭ ‬أو‭ ‬المستترة،‭ ‬بل‭ ‬على‭ ‬العكس‭ ‬أضيفت‭ ‬إلى‭ ‬خسائرها‭ ‬الأولية‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬‮«‬عملية‭ ‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭ ‬خسائر‭ ‬أخرى‭ ‬جديدة،‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬لتلحق‭ ‬بها‭ ‬لو‭ ‬أنها‭ ‬اختارت‭ ‬الرد‭ ‬بطريقة‭ ‬مختلفة‭ ‬تُغلّب‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬الانفعال‭.‬

فمن‭ ‬ناحية،‭ ‬لم‭ ‬يتحقّق‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬هدفها‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬تدمير‭ ‬قدرات‭ ‬حماس‭ ‬العسكرية،‭ ‬بدليل‭ ‬أن‭ ‬الأخيرة‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬قادرة‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬الاشتباك‭ ‬مع‭ ‬‮«‬الجيش‮»‬‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬فوق‭ ‬ساحات‭ ‬القتال‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬وتكبيده‭ ‬خسائر‭ ‬فادحة‭ ‬يومياً‭ ‬فحسب،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬إطلاق‭ ‬صواريخ‭ ‬تطال‭ ‬معظم‭ ‬المدن‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬تل‭ ‬أبيب‮»‬‭ ‬وضواحيها‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الخبراء‭ ‬الإسرائيليين،‭ ‬ومنهم‭ ‬اللواء‭ ‬احتياط‭ ‬تامير‭ ‬هايمان،‭ ‬مدير‭ ‬الأمن‭ ‬الداخلي‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬لدراسات‭ ‬الأمن‭ ‬القومي،‭ ‬يدّعي‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الجيش‮»‬‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬استطاع‭ ‬تفكيك‭ ‬‮«‬معظم‭ ‬قدرات‭ ‬حماس‭ ‬العسكرية‮»‬،‭ ‬لكنّ‭ ‬معظم‭ ‬هؤلاء‭ ‬الخبراء،‭ ‬ومنهم‭ ‬اللواء‭ ‬هايمان‭ ‬نفسه،‭ ‬يعترف‭ ‬بأن‭ ‬حماس‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬شنّ‭ ‬الهجمات‭ ‬وإلحاق‭ ‬خسائر‭ ‬كبيرة‭ ‬بـ«الجيش‮»‬‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬الذي‭ ‬فشل‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬النيل‭ ‬من‭ ‬القيادات‭ ‬الميدانية‭.‬

ومن‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬حماس‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التحكّم‭ ‬والسيطرة،‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬العمليات‭ ‬العسكرية‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬الشؤون‭ ‬الحياتية‭ ‬واليومية‭ ‬أيضاً،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬اتضح‭ ‬بجلاء‭ ‬إبان‭ ‬فترة‭ ‬الهدنة‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬خلالها‭ ‬عمليات‭ ‬تسليم‭ ‬الأسرى‭.‬

ومن‭ ‬ناحية‭ ‬ثالثة،‭ ‬عجزت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬عن‭ ‬تحرير‭ ‬أي‭ ‬أسير‭ ‬إسرائيلي‭ ‬بالقوة،‭ ‬وكل‭ ‬الأسرى‭ ‬الذين‭ ‬أطلق‭ ‬سراحهم‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬جرى‭ ‬تحريرهم‭ ‬عبر‭ ‬صفقة‭ ‬سياسية‭ ‬أبرمت‭ ‬مع‭ ‬حماس،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬الأخيرة‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬لاعباً‭ ‬أساسياً‭ ‬يستحيل‭ ‬تجاوزه‭.‬

فإذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقدّم‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬غزة،‭ ‬ورغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تعرّض‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬صنوف‭ ‬الأذى‭ ‬والقهر،‭ ‬رفض‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬وطنه‭ ‬وتمسّك‭ ‬بالبقاء‭ ‬فيه‭ ‬حتى‭ ‬الموت،‭ ‬في‭ ‬ملحمة‭ ‬وطنية‭ ‬تاريخية،‭ ‬لتبيّن‭ ‬لنا‭ ‬بوضوح‭ ‬تام‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬لم‭ ‬تحقّق‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬أيّاً‭ ‬من‭ ‬أهدافها‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬أدّت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬انهيار‭ ‬سمعتها‭ ‬ومثولها‭ ‬أمام‭ ‬القضاء‭ ‬الدولي‭ ‬متهمة‭ ‬بارتكاب‭ ‬جريمة‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭. ‬فما‭ ‬هي‭ ‬الخيارات‭ ‬والبدائل‭ ‬المتاحة‭ ‬الآن‭ ‬أمام‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬لتجنّب‭ ‬الهزيمة‭ ‬الشاملة‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الصعد‭ ‬العسكرية‭ ‬والسياسية‭ ‬والقانونية‭ ‬والأخلاقية؟

أمام‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬كهذا،‭ ‬بدائل‭ ‬ثلاثة،‭ ‬لكل‭ ‬منها‭ ‬مزاياه‭ ‬وعيوبه،‭ ‬لكنّ‭ ‬أياً‭ ‬منها‭ ‬لن‭ ‬يضمن‭ ‬لها‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬منتصرة‭ ‬بأيّ‭ ‬معيار‭:‬

البديل‭ ‬الأول‭: ‬هو‭ ‬ترجيح‭ ‬هدف‭ ‬إنقاذ‭ ‬الرهائن‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الأهداف‭ ‬الأخرى‭ ‬المتعارضة‭ ‬معه،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬تصدّره‭ ‬من‭ ‬الآن‭ ‬فصاعداً‭ ‬جدول‭ ‬أعمال‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الإسرائيلية‭.‬

ولأنّ‭ ‬مؤشرات‭ ‬عديدة‭ ‬تؤكد‭ ‬عدم‭ ‬قدرة‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬على‭ ‬تحرير‭ ‬ما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬أسراها‭ ‬بالقوة،‭ ‬خصوصاً‭ ‬بعد‭ ‬وقوع‭ ‬حوادث‭ ‬قتل‭ ‬خلالها‭ ‬عدد‭ ‬منهم‭ ‬بنيران‭ ‬‮«‬الجيش‮»‬‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬نفسه،‭ ‬فلن‭ ‬يكون‭ ‬أمام‭ ‬حكومتها‭ ‬الحالية‭ ‬من‭ ‬خيار‭ ‬آخر‭ ‬سوى‭ ‬القبول‭ ‬بالتفاوض‭ ‬غير‭ ‬المباشر‭ ‬مع‭ ‬حماس،‭ ‬عبر‭ ‬وساطات‭ ‬مصرية‭ ‬وقطرية‭. ‬ولأنها‭ ‬تفضّل‭ ‬منهج‭ ‬الهدن‭ ‬المؤقتة،‭ ‬يتوقّع‭ ‬أن‭ ‬تواصل‭ ‬مساعيها‭ ‬وضغوطها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬فرص‭ ‬نجاحها‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬معدومة‭.‬

فحماس‭ ‬تشترط‭ ‬الوقف‭ ‬التام‭ ‬للعمليات‭ ‬العسكرية،‭ ‬وانسحاب‭ ‬‮«‬الجيش‮»‬‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬من‭ ‬القطاع،‭ ‬وإخلاء‭ ‬السجون‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬المعتقلين‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬مقابل‭ ‬إطلاق‭ ‬جميع‭ ‬الأسرى‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬البديل‭ ‬يبدو‭ ‬الوحيد‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬فتح‭ ‬الطريق‭ ‬أمام‭ ‬تسوية‭ ‬حقيقية‭ ‬لمعظم‭ ‬القضايا‭ ‬العالقة‭ ‬بين‭ ‬الإسرائيليين‭ ‬والفلسطينيين،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬فرص‭ ‬موافقة‭ ‬حكومة‭ ‬نتنياهو‭ ‬عليه‭ ‬تبدو‭ ‬محدودة‭ ‬لأسباب‭ ‬كثيرة‭.‬

فهو‭ ‬يعني‭ ‬اعترافاً‭ ‬ضمنياً‭ ‬بالهزيمة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فقد‭ ‬يؤدّي‭ ‬إلى‭ ‬انفراط‭ ‬عقد‭ ‬الحكومة‭ ‬الحالية‭ ‬التي‭ ‬يتوقّع‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬منها‭ ‬العناصر‭ ‬الدينية‭ ‬المتطرفة،‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬بن‭ ‬غفير‭ ‬وسموتريتش،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لن‭ ‬يسمح‭ ‬به‭ ‬نتنياهو‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬سقوط‭ ‬حكومته‭ ‬الحالية‭ ‬سيقضي‭ ‬حتماً‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬مستقبله‭ ‬السياسي‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬وقد‭ ‬يعرّضه‭ ‬للمحاكمة‭ ‬وربما‭ ‬للسجن‭ ‬أيضاً‭.‬

لذا‭ ‬يتوقّع‭ ‬أن‭ ‬ترفض‭ ‬الحكومة‭ ‬الحالية‭ ‬هذا‭ ‬البديل‭ ‬وأن‭ ‬تقاومه‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭. ‬وحتى‭ ‬بافتراض‭ ‬أن‭ ‬تؤدي‭ ‬الخلافات‭ ‬القائمة‭ ‬حالياً‭ ‬داخل‭ ‬مجلس‭ ‬الحرب‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬إلى‭ ‬انسحاب‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬بيني‭ ‬جانتس‭ ‬وجادي‭ ‬أيزنكوت،‭ ‬فقد‭ ‬لا‭ ‬يعدم‭ ‬نتنياهو‭ ‬وسيلة‭ ‬للعثور‭ ‬على‭ ‬بدائل‭ ‬تمكّنه‭ ‬من‭ ‬تشكيل‭ ‬حكومة‭ ‬جديدة‭ ‬برئاسته،‭ ‬كالتحالف‭ ‬مع‭ ‬ليبرمان‭ ‬مقابل‭ ‬تعيينه‭ ‬وزيراً‭ ‬للدفاع‭.‬

البديل‭ ‬الثاني‭: ‬مواصلة‭ ‬العمليات‭ ‬العسكرية،‭ ‬سواء‭ ‬بنمطها‭ ‬الحالي‭ ‬وبحجم‭ ‬القوات‭ ‬المشاركة‭ ‬فيها،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إدخال‭ ‬تعديلات‭ ‬شكلية‭ ‬عليهما،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬تتحوّل‭ ‬الحرب‭ ‬الحالية‭ ‬إلى‭ ‬عملية‭ ‬استنزاف‭ ‬طويلة‭ ‬المدى،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تحتمله‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬لأسباب‭ ‬داخلية‭ ‬وخارجية‭ ‬عديدة‭.‬

فعلى‭ ‬الصعيد‭ ‬الداخلي‭ ‬سيواجه‭ ‬هذا‭ ‬البديل‭ ‬بمقاومة‭ ‬متزايدة‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬قطاعات‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬خصوصاً‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬عائلات‭ ‬الأسرى‭ ‬والمتعاطفين‭ ‬معهم‭ ‬وعائلات‭ ‬جنود‭ ‬الاحتياط،‭ ‬وسيشكّل‭ ‬عبئاً‭ ‬كبيراً‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تحتمله‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬المجتمع‭ ‬لفترة‭ ‬طويلة‭ ‬مقبلة،‭ ‬وستكون‭ ‬له‭ ‬انعكاسات‭ ‬سلبية‭ ‬على‭ ‬تماسك‭ ‬الحكومة‭ ‬الحالية‭ ‬التي‭ ‬دبّت‭ ‬فيها‭ ‬الخلافات‭ ‬بالفعل،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فقد‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬الصمود‭ ‬حتى‭ ‬النهاية‭ ‬أمام‭ ‬كلّ‭ ‬هذه‭ ‬الضغوط‭.‬

وعلى‭ ‬الصعيد‭ ‬الخارجي،‭ ‬يتوقّع‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬هذا‭ ‬البديل‭ ‬إلى‭ ‬معارضة‭ ‬قوية‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الحليفة‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬خصوصاً‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬التي‭ ‬يخوض‭ ‬رئيسها‭ ‬انتخابات‭ ‬هذا‭ ‬العام‭ ‬يبدو‭ ‬موقفه‭ ‬فيها‭ ‬ضعيفاً‭ ‬وقابلاً‭ ‬للتأثّر‭ ‬سلبياً‭ ‬أكثر‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت،‭ ‬خصوصاً‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استمرت‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬شهورا‭ ‬طويلة‭ ‬مقبلة‭. ‬فإذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقدّم‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬البديل‭ ‬لن‭ ‬يضمن‭ ‬بالضرورة‭ ‬تحقيق‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬تسعى‭ ‬إليها‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬زمنية‭ ‬معقولة،‭ ‬خاصة‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬منها‭ ‬بتدمير‭ ‬قدرات‭ ‬حماس‭ ‬العسكرية‭ ‬أو‭ ‬تحرير‭ ‬الرهائن،‭ ‬لتبيّن‭ ‬لنا‭ ‬بوضوح‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬البديل‭ ‬لن‭ ‬يساعد‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬على‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬مأزقها‭ ‬الحالي‭.‬

البديل‭ ‬الثالث‭: ‬الهروب‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬بتوسيع‭ ‬نطاق‭ ‬الحرب،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يهدّد‭ ‬بتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬إقليمية‭ ‬شاملة‭. ‬وفي‭ ‬تقديري‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬البديل‭ ‬يتسق‭ ‬تماماً‭ ‬مع‭ ‬طريقة‭ ‬تفكير‭ ‬نتنياهو،‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬ينطوي‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬مخاطر‭ ‬هائلة‭ ‬على‭ ‬دول‭ ‬المنطقة‭ ‬برمّتها‭.‬

لذا‭ ‬لا‭ ‬أستبعد‭ ‬أن‭ ‬يقرّر‭ ‬نتنياهو‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬اختيار‭ ‬هذا‭ ‬البديل،‭ ‬خصوصاً‭ ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬أطرافاً‭ ‬إقليمية‭ ‬عديدة،‭ ‬منها‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬وأنصار‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬اليمن،‭ ‬والحشد‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وغيرها،‭ ‬أصبحت‭ ‬منغمسة‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬ولن‭ ‬تسمح‭ ‬بإلحاق‭ ‬الهزيمة‭ ‬بحماس،‭ ‬فهل‭ ‬يفعلها‭ ‬نتنياهو،‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬به‭ ‬الجنون‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التهديد‭ ‬ليس‭ ‬بتدمير‭ ‬لبنان‭ ‬وحزب‭ ‬الله‭ ‬فحسب،‭ ‬ولكن‭ ‬باحتلال‭ ‬محور‭ ‬صلاح‭ ‬الدين‭ ‬الذي‭ ‬يفصل‭ ‬بين‭ ‬مصر‭ ‬وغزة‭ ‬أيضاً؟‭!‬

أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الأسابيع‭ ‬القليلة‭ ‬المقبلة‭ ‬ستكون‭ ‬حاسمة‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬مصير‭ ‬ومستقبل‭ ‬نتنياهو‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬مصير‭ ‬ومستقبل‭ ‬المنطقة‭ ‬برمّتها‭ .‬

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬

في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا