العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

الثقافي

سـرديـات: الرد بالكتابة.. سرديات اللجوء والشتات!

بقلم: د. ضياء عبدالله الكعبي

السبت ١٣ يناير ٢٠٢٤ - 02:00

في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬نقد‭ ‬العقل‭ ‬الزنجي‮»‬‭ ‬يساءل‭ ‬المفكر‭ ‬الكاميروني‭ ‬أشيل‭ ‬مبيمبي‭ ‬أستاذ‭ ‬التاريخ‭ ‬والعلوم‭ ‬السياسيّة‭ ‬بجامعة‭ ‬فيفاترسراند‭ ‬بجوهانسبرج،‭ ‬وأحد‭ ‬أهم‭ ‬منظري‭ ‬الفكر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونياليّ،‭ ‬أطروحته‭ ‬الإشكالية‭ ‬المندرجة‭ ‬ضمن‭ ‬سياق‭ ‬دراسة‭ ‬‮«‬المستقبليات‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬بأنَّ‭ ‬العالم‭ ‬كلّه‭ ‬آيل‭ ‬إلى‭ ‬الزنجيّة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فقدت‭ ‬أوروبا‭ ‬مركزيتها‭ ‬الحاكمة،‭ ‬وهذا‭ ‬يعني‭ ‬تفكيكًا‭ ‬حقيقيًا‭ ‬للعلاقة‭ ‬بين‭ ‬العبودية‭ ‬ورأس‭ ‬المال‭ ‬العالميّ‭ ‬والاستغلال‭ ‬الاقتصاديّ‭. ‬ويرى‭ ‬أنَّ‭ ‬التصوّر‭ ‬الغربيّ‭ ‬عن‭ ‬العقل‭ ‬مغاير‭ ‬للتصوّر‭ ‬الإفريقيّ‭ ‬لكونهما‭ ‬نتاجي‭ ‬جغرافيتين‭ ‬وتاريخين‭ ‬مختلفين‭. ‬إنَّ‭ ‬الاتصال‭ ‬بين‭ ‬أوروبا‭ ‬وأفريقيا‭ ‬أنتج‭ ‬بالتالي‭ ‬سرديتين؛‭ ‬الأولى‭ ‬متمثّلة‭ ‬بالوعي‭ ‬الغربيّ‭ ‬للزنوجة،‭ ‬والثانية‭ ‬هي‭ ‬الوعي‭ ‬الزنجي‭ ‬للزنوجة‭. ‬إنَّ‭ ‬تركيبة‭ ‬‮«‬العقل‭ ‬الزنجيّ‮»‬‭ ‬عند‭ ‬مبيمبي‭ ‬هي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الخطابات‭ ‬والممارسات‭ ‬التي‭ ‬ساوت‭ ‬الزنوجة‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬بشريًا،‭ ‬وكان‭ ‬هذا‭ ‬القالب‭ ‬الذي‭ ‬حمل‭ ‬كلّ‭ ‬أشكال‭ ‬القمع‭ ‬والاستبداد‭ ‬والاستغلال‭.‬

إنَّ‭ ‬ثمّة‭ ‬ثلاث‭ ‬لحظات‭ ‬تاريخيّة‭ ‬فارقة‭ ‬في‭ ‬‮«‬الزنوجة‮»‬‭ ‬الأولى‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬السلب‭ ‬المنظم‭ ‬الذي‭ ‬حوّل‭ ‬بفضل‭ ‬تجارة‭ ‬الرق‭ ‬الأطلسية‭ (‬ما‭ ‬بين‭ ‬القرنين‭ ‬الخامس‭ ‬عشر‭ ‬والتاسع‭ ‬عشر‭) ‬رجال‭ ‬ونساء‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬إفريقّية‭ ‬إلى‭ ‬بشر‭ ‬أشياء،‭ ‬بشر‭ ‬‭ ‬سلع،‭ ‬وبشر‭ ‬‭ ‬نقد،‭ ‬فأصبحوا‭ ‬منذ‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬ملكية‭ ‬لآخرين‭. ‬وتقترن‭ ‬اللحظة‭ ‬الثانية‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصة‭ (‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭) ‬بميلاد‭ ‬الكتابة‭ ‬وتبدأ‭ ‬حوالي‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬عندما‭ ‬أصبح‭ ‬الزنوج،‭ ‬تلك‭ ‬الكائنات‭ ‬التي‭ ‬استولى‭ ‬عليها‭ ‬الآخرون،‭ ‬بإمكانهم‭ ‬مفصلة‭ ‬كلام‭ ‬خاص‭ ‬بهم‭ ‬مع‭ ‬المطالبة‭ ‬بمكانة‭ ‬تجعل‭ ‬منهم‭ ‬ذوات‭ ‬كاملة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الحي‭. ‬أمّا‭ ‬اللحظة‭ ‬الثالثة‭ (‬بداية‭ ‬القرن‭ ‬الواحد‭ ‬والعشرين‭) ‬فهي‭ ‬لحظة‭ ‬عولمة‭ ‬الأسواق‭ ‬وخصخصة‭ ‬العالم‭ ‬المنضوية‭ ‬تحت‭ ‬الليبرالية‭ ‬الجديدة،‭ ‬والتعقيد‭ ‬المتزايد‭ ‬للاقتصاد‭ ‬الماليّ‭ ‬والمركب‭ ‬العسكريّ‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الإمبرياليّ‭ ‬والتكنولوجيات‭ ‬الإلكترونيّة‭ ‬والرقميّة‭. ‬ويخلص‭ ‬مبيمبي‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬أطروحته‭ ‬إلى‭ ‬تأكيد‭ ‬وجود‭ ‬‮«‬العقل‭ ‬الزنجيّ‮»‬‭ ‬رغم‭ ‬تفاوت‭ ‬مرجعيات‭ ‬الزنوج‭ ‬وتجاربهم‭ ‬الثقافية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬إنَّ‭ ‬هؤلاء‭ ‬جميعًا‭ ‬يصدرون‭ ‬عن‭ ‬‮«‬عقل‭ ‬زنجيّ‭ ‬واحد‮»‬‭ ‬يجد‭ ‬جذوره‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬مرجعيته‭ ‬التاريخيّة‭ ‬الوحيدة‭ ‬الصادرة‭ ‬عن‭ ‬الرّق‭ ‬والاستعباد‭. ‬إنَّ‭ ‬مبيمبي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأطروحة‭ ‬يؤكِّد‭ ‬ما‭ ‬تناوله‭ ‬مفكرون‭ ‬زنوج‭ ‬أفارقة‭ ‬قبله‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬ما‭ ‬أسموه‭ ‬‮«‬المركزية‭ ‬الإفريقيّة‭ ‬السوداء‮»‬‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬المركزيات‭ ‬الأخرى‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬‮«‬المركزية‭ ‬الأوروبيّة»؛‭ ‬وما‭ ‬يستتبع‭ ‬هذه‭ ‬الأطروحة‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬تفكيك‭ ‬تاريخ‭ ‬العالم،‭ ‬وإعادة‭ ‬قراءة‭ ‬التاريخ،‭ ‬وجعله‭   ‬منفتحًا‭ ‬على‭ ‬الروايات‭ ‬المتعدّدة،‭ ‬وعلى‭ ‬التواريخ‭ ‬المتوازية‭ ‬وليست‭ ‬التواريخ‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬صنعت‭ ‬العالم‭ ‬كما‭ ‬قرّرت‭ ‬ذلك‭ ‬المركزية‭ ‬الأوروبيّة‭ ‬عبر‭ ‬قرون‭.‬

وعلى‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬أطروحة‭ ‬أشيل‭ ‬مبيمبي‭ ‬اشتغل‭ ‬الروائيّ‭ ‬التنزانيّ‭ ‬عبدالرزَّاق‭ ‬قرنح‭ ‬الفائز‭ ‬بجائزة‭ ‬نوبل‭ ‬في‭ ‬الآداب‭ ‬لعام‭ ‬2021‭ ‬على‭ ‬خطاب‭ ‬مضاد‭ ‬للمركزية‭ ‬الإفريقيّة‭ ‬السوداء‭ ‬أو‭ ‬مركزية‭ ‬الزنوجة‭. ‬إنَّ‭ ‬هذا‭ ‬الروائيّ‭ ‬المولود‭ ‬في‭ ‬أرخبيل‭ ‬زنجبار،‭ ‬والمقيم‭ ‬حاليًا‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬ابتكر‭ ‬خطابه‭ ‬الروائي‭ ‬المشتغل‭ ‬على‭ ‬موضوعات‭ ‬عابرة‭ ‬للقارات‭ ‬والثقافات‭ ‬في‭ ‬تناوله‭ ‬لموضوع‭ ‬اللاجئين‭ ‬العالقين‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الفروقات‭ ‬الثقافيّة‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬تصلح‭ ‬لأن‭ ‬تكون‭ ‬موضوعان‭ ‬إنسانيّة‭ ‬مشتركة‭ ‬للاجئي‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مرجعياتهم‭. ‬ولقرنح‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬المهمة‭ ‬منها‭ ‬‮«‬ذاكرة‭ ‬المغادرة‮»‬،‭ ‬و«طريق‭ ‬الحجاج‮»‬،‭ ‬و«دوتي‮»‬،‭ ‬و«الفردوس‮»‬،‭ ‬و«الإعجاب‭ ‬بالصمت‮»‬،‭ ‬و«عن‭ ‬طريق‭ ‬البحر‮»‬،‭ ‬و«الهجر‮»‬،‭ ‬و‮«‬الهدية‭ ‬الأخيرة‮»‬،‭ ‬و«قلب‭ ‬الحصى‮»‬،‭ ‬و«الحياة‭ ‬بعد‭ ‬الموت‮»‬‭. ‬إنَّ‭ ‬روايات‭ ‬قرنح‭ ‬متمحورة‭ ‬حول‭ ‬تأثير‭ ‬الاستعمار‭ ‬على‭ ‬هوية‭ ‬الشرق‭ ‬الإفريقيّ،‭ ‬وتجارب‭ ‬اللاجئين‭ ‬الذين‭ ‬يضطرون‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أوطان‭ ‬بديلة‭. ‬لقد‭ ‬قالت‭ ‬الأكاديميّة‭ ‬السويدية‭ ‬في‭ ‬إعلانها‭ ‬عن‭ ‬فوز‭ ‬قرنح‭ ‬‮«‬إنَّ‭ ‬عبدالرزاق‭ ‬قرنح‭ ‬فاز‭ ‬بالجائزة‭ ‬لاقتحامه‭ ‬تأثيرات‭ ‬الاستعمار‭ ‬بصورة‭ ‬لا‭ ‬هوادة‭ ‬فيها‭ ‬وبشكل‭ ‬عميق‭ ‬وسبر‭ ‬غور‭ ‬مصائر‭ ‬اللاجئين‮»‬‭. ‬إنَّ‭ ‬الخطاب‭ ‬الروائي‭ ‬هو‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الخطابات‭ ‬الإبداعيّة‭ ‬الإنسانيّة‭ ‬التي‭ ‬ترصد‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬متشابهاته‭ ‬وفي‭ ‬متغيراته؛‭ ‬ولذلك‭ ‬تحتاج‭ ‬هذه‭ ‬الروايات‭ ‬المغايرة‭ ‬إلى‭ ‬تأويل‭ ‬عميق‭ ‬يسبر‭ ‬أغوارها‭ ‬ومآلاتها‭ ‬السردية‭!‬

 

{ أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك،

كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا