العدد : ١٦٨٥٧ - السبت ١٨ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١٠ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٧ - السبت ١٨ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١٠ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

قضايا و آراء

فلسطين تحاكم ضمير العالم

بقلم: د. دلال البزري {

السبت ٣٠ ديسمبر ٢٠٢٣ - 02:00

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ملاحظات‭ ‬على‭ ‬أداء‭ ‬حركة‭ ‬حماس‭ ‬وكيفية‭ ‬إدارتها‭ ‬سلطتها‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬وبعض‭ ‬الانتقادات‭ ‬حتى‭ ‬لعملية‭ ‬7‭ ‬أكتوبر‭ ‬فإن‭ ‬الحرب‭ ‬وحّدت‭ ‬الفلسطينيين‭: ‬الفتحاوي،‭ ‬العلماني،‭ ‬العروبي‭... ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬الإسلامي‭. ‬جميعهم‭ ‬معنيّون،‭ ‬تجاوزوا‭ ‬انقساماتهم،‭ ‬ووقفوا‭ ‬صفّاً‭ ‬واحداً‭ ‬مع‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬في‭ ‬معركتها‭ ‬العسكرية‭ ‬مع‭ ‬الجيش‭ ‬الإسرائيلي‭. ‬صارت‭ ‬القضية‭ ‬وطنية‭ ‬فلسطينية،‭ ‬تعني‭ ‬كل‭ ‬فلسطيني‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الأرض،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬عقيدته‭ ‬أو‭ ‬أفكاره‭.‬

وهذه‭ ‬الحرب‭ ‬فجّرت‭ ‬ضمير‭ ‬العالم‭. ‬فغاب‭ ‬السؤال‭ ‬‮«‬التمهيدي‮»‬‭ ‬إياه‭ ‬الموجّه‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬معنيٍّ‭ ‬بالقضية،‭ ‬بعيد‭ ‬عملية‭ ‬طوفان‭ ‬الأقصى‭: ‬‮«‬أنت‭ ‬مع‭ ‬حماس‭ ‬أم‭ ‬ضدّها؟‮»‬‭... ‬نسيه‭ ‬المتكلمون‭ ‬والسائلون‭. ‬طغى‭ ‬عليهم‭ ‬هوْل‭ ‬المقتلة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬في‭ ‬غزّة،‭ ‬وتفلّت‭ ‬الجيش‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الاعتبارات‭ ‬القانونية،‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وربما‭ ‬حتى‭ ‬العسكرية،‭ ‬فالعالم‭ ‬مذهول،‭ ‬لا‭ ‬يصدّق‭ ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬حيّة‭ ‬تُنذر‭ ‬ببداية‭ ‬نهاية‭ ‬التفوق‭ ‬الأخلاقي‭ - ‬السياسي‭ ‬للغرب‭. ‬سوف‭ ‬يترتّب‭ ‬عليها‭ ‬لاحقاً‭ ‬مراجعة‭ ‬لأركانها،‭ ‬لصدقها،‭ ‬لخبثها،‭ ‬لموازينها‭ ‬غير‭ ‬العادلة‭.‬

هكذا،‭ ‬فُتِحت‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬على‭ ‬مصراعيْها‭. ‬ماذا؟‭ ‬احتلال؟‭! ‬وعمره‭ ‬75‭ ‬عاما؟‭ ‬ولم‭ ‬نكن‭ ‬ندري‭ ‬به؟‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬عالم‭ ‬كنا‭ ‬نعيش؟‭ ‬في‭ ‬الكذب‭ ‬المحض؟‭ ‬في‭ ‬فقاعة؟‭ ‬كالصيصان؟‭... ‬فعادت‭ ‬إلى‭ ‬الصدارة‭ ‬صور‭ ‬النكبة،‭ ‬وحكايات‭ ‬الرحيل‭ ‬الأولى،‭ ‬والطرد‭ ‬من‭ ‬الأرض‭... ‬وروايات‭ ‬كأنها‭ ‬جديدة‭. ‬عشناها‭ ‬وعاشها‭ ‬آباؤنا‭ ‬وأجدادنا‭... ‬ومرّت‭ ‬أمام‭ ‬ضمير‭ ‬العالم‭ ‬وكأنها‭ ‬لم‭ ‬تحصل‭.‬

‮«‬شكراً‭ ‬شكراً‭ ‬فلسطين‭... ‬أنتِ‭ ‬حرّرتني‭ ‬من‭ ‬جهلي‭ ‬من‭ ‬قلّة‭ ‬مبالاتي،‭ ‬من‭ ‬قلّة‭ ‬إحساسي‭...‬‮»‬،‭ ‬يقول‭ ‬أحد‭ ‬المؤثرين‭ ‬الأميركيين‭. ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬ويغوص‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬أهل‭ ‬غزّة،‭ ‬يعرض‭ ‬الصور‭ ‬والأفلام،‭ ‬ويتابع‭ ‬أن‭ ‬صورة‭ ‬لا‭ ‬تُبارحه‭ ‬أبداً‭: ‬‮«‬تلك‭ ‬الأم‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬كفن‭ ‬طفلها‭ ‬بذراعيْها،‭ ‬وهي‭ ‬جاثية‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬تضمّه‭ ‬إليها‭ ‬كأنها‭ ‬تهدْهده،‭ ‬تنظر‭ ‬إليه‭ ‬بشوق،‭ ‬تبدو‭ ‬ركعتها‭ ‬مستمرّة‭ ‬بالنزول‭ ‬إلى‭ ‬الأسفل،‭ ‬لا‭ ‬تطيق‭ ‬الابتعاد‭ ‬عن‭ ‬جثمانه،‭ ‬تريد‭ ‬مرافقته‭ ‬إلى‭ ‬قبره‮»‬‭.‬

أيضاً‭: ‬العالم‭ ‬فيه‭ ‬الآن‭ ‬سيولة‭ ‬‮«‬فكرية‮»‬،‭ ‬تكاد‭ ‬توازي‭ ‬السيولة‭ ‬الجيوستراتيجية؛‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أميركا‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬لم‭ ‬تَعُد‭ ‬الحاكم‭ ‬المطلق‭ ‬للعالم‭... ‬الأفكار‭ ‬تضيق،‭ ‬تتداخَل،‭ ‬تختلط،‭ ‬مثل‭ ‬التحالفات‭ ‬القديمة‭.‬

الحرب‭ ‬على‭ ‬غزّة‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السيولة‭ ‬وقلبت‭ ‬المعايير‭. ‬في‭ ‬الأخلاق،‭ ‬الردّ‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬طوفان‭...‬‮»‬‭ ‬نزعت‭ ‬عن‭ ‬إسرائيل‭ ‬كل‭ ‬البراءة‭ ‬التي‭ ‬نسجتها‭ ‬حول‭ ‬نفسها‭ ‬بصفتها‭ ‬دولة‭ ‬قانون‭ ‬وديمقراطية‭. ‬إسرائيل‭ ‬دولة‭ ‬مجرمة‭. ‬دولة‭ ‬غير‭ ‬أخلاقية‭. ‬وهذا‭ ‬واضحٌ‭ ‬أمام‭ ‬أعين‭ ‬العالم،‭ ‬‮«‬لايف‮»‬،‭ ‬بفضل‭ ‬التكنولوجيا‭.‬

وإسرائيل‭ ‬التي‭ ‬كنّا‭ ‬نشعر‭ ‬بالدونيّة‭ ‬العقلية‭ ‬تجاهها،‭ ‬نعتقدها‭ ‬أذكى‭ ‬منّا،‭ ‬أصدق‭ ‬منا،‭ ‬دولة‭ ‬أفراد‭ ‬أحرار‭... ‬ها‭ ‬هي‭ ‬تبدو‭ ‬بالملموس‭ ‬دولةً‭ ‬غبّية،‭ ‬تزيدها‭ ‬غطرستها‭ ‬غباء،‭ ‬وعبثية‭ ‬أحياناً‭.‬

خذْ‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬منذ‭ ‬أيام،‭ ‬عن‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬المفاوضات‭ ‬غير‭ ‬المباشرة‭ ‬بين‭ ‬إسرائيل‭ ‬وحركة‭ ‬حماس‭: ‬‮«‬حماس‭ ‬تطلب‭ ‬وقف‭ ‬إطلاق‭ ‬النار‭ ‬قبل‭ ‬التفاوض‭ ‬حول‭ ‬الرهائن‭. ‬وإسرائيل‭ ‬منفتحة‭ ‬على‭ ‬هدنة،‭ ‬ولكنها‭ ‬تستبعد‭ ‬أي‭ ‬وقف‭ ‬للنار‭ ‬قبل‭ ‬إلغاء‭ ‬حماس‮»‬‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬تطلب‭ ‬من‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬التخلّي‭ ‬عن‭ ‬إحدى‭ ‬أقوى‭ ‬أوراقها،‭ ‬أي‭ ‬الرهائن‭ ‬الإسرائيليين،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬وقف‭ ‬إطلاق‭ ‬النار،‭ ‬لكي‭ ‬تسمح‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬بعدها‭ ‬بـ«إلغائها‮»‬‭ (‬هذا‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التذاكي‭ ‬السمِج‭).‬

وإسرائيل‭ ‬تزداد‭ ‬غباء‭ ‬كلما‭ ‬تنكر‭ ‬على‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬حقّهم،‭ ‬كلما‭ ‬تتجاهلهم،‭ ‬كأنهم‭ ‬غير‭ ‬موجودين‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬قرّر‭ ‬المستوطنون‭ ‬مصادرتها‭. ‬كل‭ ‬الأسلحة،‭ ‬كل‭ ‬الثراء،‭ ‬كل‭ ‬أجهزة‭ ‬المخابرات،‭ ‬كل‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬كل‭ ‬‮«‬الحداثة‮»‬،‭ ‬كل‭ ‬العبقرية‭... ‬أفضت‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬،‭ ‬‮«‬صدمة‭ ‬الطوفان‭...‬‮»‬‭.‬

إسرائيل‭ ‬الآن‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬وضعية‭ ‬المهزوم‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬شديد‭ ‬الغرور‭ ‬عشية‭ ‬هزيمته‭. ‬ما‭ ‬يفسّر‭ ‬حالات‭ ‬الاكتئاب‭ ‬الفردي‭ ‬والجماعي،‭ ‬والشعور‭ ‬باليأس‭ ‬والهرب‭ ‬من‭ ‬إسرائيل،‭ ‬فقدان‭ ‬الثقة‭ ‬بأمنها‭.‬

وستمرّ‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تخرج‭ ‬أدبيات‭ ‬الهزيمة‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬لأن‭ ‬الحرب‭ ‬كشفت‭ ‬لدى‭ ‬هذا‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬العالمي‭ ‬ترابطاً‭ ‬عميقاً‭ ‬بين‭ ‬فلسطين‭ ‬وفيتنام‭. ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬عمق‭ ‬الأنفاق‭ ‬وبلاغتها‭ ‬والصبر‭ ‬والصمت‭ ‬والخيال‭ ‬والمثابرة‭ ‬لبنائه‭... ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأن‭ ‬المشترك‭ ‬بينهما‭ ‬أن‭ ‬قنابل‭ ‬التسعمائة‭ ‬طن‭ ‬التي‭ ‬يرميها‭ ‬الإسرائيليون‭ ‬على‭ ‬غزّة‭ ‬هي‭ ‬نفسها‭ ‬القنابل‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬ترميها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬على‭ ‬فيتنام‭. ‬أو‭ ‬أن‭ ‬فلسطين‭ ‬خرجت‭ ‬عن‭ ‬كونها‭ ‬قضية‭ ‬عربية‭ ‬وصارت‭ ‬قضية‭ ‬عالمية،‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬هذا‭ ‬الترابط‭ ‬يُنبئ‭ ‬بالنصر،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬الفيتنامي‭.‬

{‭ ‬كاتبة‭ ‬وأكاديمية‭ ‬لبنانية

 

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا