العدد : ١٦٩٧٨ - الاثنين ١٦ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٣ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٨ - الاثنين ١٦ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٣ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

رحيل كيسنجر.. صاحب الإرث السياسي الثقيل

بقلم: رامي مهداوي

الاثنين ٠٤ ديسمبر ٢٠٢٣ - 02:00

ولد‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1923‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬فيورث‭ ‬في‭ ‬بافاريا‭. ‬فرت‭ ‬عائلته‭ ‬إلى‭ ‬نيويورك‭ ‬قبل‭ ‬فترة‭ ‬قصيرة‭ ‬من‭ ‬ليلة‭ ‬الزجاج‭ ‬المكسور،‭ ‬حيث‭ ‬استقروا‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭ ‬هايتس،‭ ‬حي‭ ‬يعيش‭ ‬فيه‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬الألمان‭ ‬لدرجة‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يعرف‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الرايخ‭ ‬الرابع‮»‬‭. ‬في‭ ‬عام‭ ‬1942،‭ ‬تم‭ ‬تجنيده‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬الأمريكي‭.‬

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الاتهامات‭ ‬بألمانية‭ ‬كيسنجر،‭ ‬فإن‭ ‬تجربته‭ ‬الشبابية‭ ‬اللامحدودة‭ ‬كانت‭ ‬خدمته‭ ‬في‭ ‬الفرقة‭ ‬الثامنة‭ ‬والثمانين‭ ‬للجيش‭ ‬أثناء‭ ‬تقدمه‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭. ‬‮«‬كان‭ ‬أمريكياً‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬رأيت‭ ‬أي‭ ‬أمريكي‮»‬،‭ ‬يتذكر‭ ‬أحد‭ ‬رفاقه‭. ‬في‭ ‬عام‭ ‬1945،‭ ‬شارك‭ ‬كيسنجر‭ ‬في‭ ‬تحرير‭ ‬معسكر‭ ‬الاعتقال،‭ ‬خارج‭ ‬هانوفر،‭ ‬وحصل‭ ‬على‭ ‬وسام‭ ‬برونزي‭ ‬لدوره‭ ‬في‭ ‬تفكيك‭ ‬خلية‭ ‬لجهاز‭ ‬المخابرات‭ ‬النازية‭ ‬الجستابو‭.‬

يظل‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر،‭ ‬الذي‭ ‬شغل‭ ‬منصب‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬في‭ ‬أمريكا،‭ ‬شخصية‭ ‬مثيرة‭ ‬للجدل‭ ‬تمزج‭ ‬بين‭ ‬تقدير‭ ‬الناس‭ ‬وانتقاداتهم‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭ ‬بسبب‭ ‬تأثيره‭ ‬على‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأمريكية‭. ‬خدم‭ ‬كيسنجر‭ ‬كمستشار‭ ‬أمن‭ ‬قومي‭ ‬ثم‭ ‬كوزير‭ ‬للخارجية‭ ‬تحت‭ ‬إدارة‭ ‬الرئيسين‭ ‬ريتشارد‭ ‬نيكسون‭ ‬وجيرالد‭ ‬فورد‭. ‬خلال‭ ‬ولايته،‭ ‬لعب‭ ‬دوراً‭ ‬محورياً‭ ‬في‭ ‬صياغة‭ ‬مبادرات‭ ‬سياسية‭ ‬خارجية‭ ‬رئيسية،‭ ‬وعلى‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬التقارب‭ ‬مع‭ ‬الصين‭ ‬وسياسة‭ ‬التخفيف‭ ‬مع‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬كان‭ ‬نهجه‭ ‬تجاه‭ ‬حرب‭ ‬فيتنام‭ ‬والقصف‭ ‬السري‭ ‬في‭ ‬كمبوديا‭ ‬مصدراً‭ ‬لانتقادات‭ ‬شديدة‭.‬

كانت‭ ‬فلسفة‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬لكيسنجر‭ ‬مرتكزة‭ ‬على‭ ‬الواقعية‭ ‬السياسية،‭ ‬مشددة‭ ‬على‭ ‬البراجماتية‭ ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬المصالح‭ ‬الوطنية‭. ‬بينما‭ ‬أدى‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬إلى‭ ‬إنجازات‭ ‬دبلوماسية‭ ‬مهمة،‭ ‬يؤكد‭ ‬النقاد‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬تنطوي‭ ‬هذه‭ ‬العملية‭ ‬على‭ ‬التنازل‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬ودعم‭ ‬الأنظمة‭ ‬الاستبدادية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المكاسب‭ ‬الاستراتيجية‭. ‬مثلاً،‭ ‬يُعد‭ ‬دعم‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬لنظام‭ ‬بينوشيه‭ ‬في‭ ‬تشيلي‭ ‬مثالاً‭ ‬بارزاً‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬مصدراً‭ ‬للاستنكار‭.‬

أحد‭ ‬أكثر‭ ‬الجوانب‭ ‬جدلاً‭ ‬في‭ ‬إرث‭ ‬كيسنجر‭ ‬هو‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬لعبه‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬عمليات‭ ‬سرية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الإطاحة‭ ‬بسلفادور‭ ‬الليندي‭ ‬في‭ ‬تشيلي‭ ‬والمشاركة‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬الانقلاب‭ ‬في‭ ‬الأرجنتين‭. ‬هذه‭ ‬الإجراءات‭ ‬أثارت‭ ‬انتقادات‭ ‬بشدة‭ ‬واتهامات‭ ‬بالتجاهل‭ ‬للديمقراطية‭ ‬واستعداد‭ ‬للتضحية‭ ‬بالمبادئ‭ ‬الأخلاقية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬المكاسب‭ ‬الجيوسياسية‭.‬

كانت‭ ‬سياسات‭ ‬كيسنجر‭ ‬لها‭ ‬تأثير‭ ‬عميق‭ ‬على‭ ‬توازن‭ ‬القوى‭ ‬العالمي،‭ ‬ولكن‭ ‬تبقى‭ ‬النتائج‭ ‬طويلة‭ ‬الأمد‭ ‬موضوع‭ ‬نقاش‭. ‬يؤكد‭ ‬النقاد‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬المكاسب‭ ‬السريعة،‭ ‬مثل‭ ‬فتح‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬الصين،‭ ‬جاءت‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الاستقرار‭ ‬طويل‭ ‬الأمد،‭ ‬ما‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬النزاعات‭ ‬الإقليمية‭ ‬والتوترات‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬التي‭ ‬تستمر‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭.‬

حتى‭ ‬بعد‭ ‬مغادرته‭ ‬المنصب،‭ ‬استمر‭ ‬كيسنجر‭ ‬في‭ ‬ممارسة‭ ‬التأثير‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتاباته‭ ‬وأعماله‭ ‬الاستشارية‭ ‬ومشاركته‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭ ‬الدولية‭. ‬وهذا‭ ‬يثير‭ ‬تساؤلات‭ ‬حول‭ ‬القدرة‭ ‬المستمرة‭ ‬لأفكاره‭ ‬وإلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬تواصل‭ ‬تشكيل‭ ‬سياسة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الشؤون‭ ‬الخارجية‭.‬

نجحت‭ ‬سياسات‭ ‬كيسنجر‭ ‬في‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬استبعاد‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬السلام‭ ‬مدة‭ ‬تقارب‭ ‬العقدين،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬إعطاء‭ ‬الأولوية‭ ‬لاتفاقات‭ ‬السلام‭ ‬الفردية‭ ‬بين‭ ‬إسرائيل‭ ‬وكل‭ ‬من‭ ‬جيرانها‭ ‬العرب‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬التسوية‭ ‬الشاملة،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬مصمماً‭ ‬لإعطاء‭ ‬الأولوية‭ ‬لمصالح‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وإسرائيل‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬مصالح‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬وداعميها‭.‬

حتى‭ ‬إدارة‭ ‬كارتر،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬تفضيلها‭ ‬السلام‭ ‬الشامل‭ ‬ومحاولاتها‭ ‬المستمرة‭ ‬لجلب‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية‭ ‬إلى‭ ‬عملية‭ ‬السلام،‭ ‬عادت‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬إلى‭ ‬نموذج‭ ‬كيسنجر‭.‬

اقتراح‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬المحدود‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬الوارد‭ ‬في‭ ‬اتفاقيات‭ ‬كامب‭ ‬ديفيد‭ ‬لعام‭ ‬1979‭ ‬أصبح‭ ‬سابقة‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬المسار‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬كنموذج‭ ‬لاتفاق‭ ‬مؤقت‭ ‬مستقبلي‭ (‬أي‭ ‬سلطة‭ ‬الحكم‭ ‬الذاتي‭ ‬المؤقتة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المحددة‭ ‬في‭ ‬اتفاق‭ ‬أوسلو‭ ‬لعام‭ ‬1993‭) ‬ولكن‭ ‬أيضاً‭ ‬لاستعداده‭ ‬لتحديد‭ ‬مصير‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مشاركتهم‭.‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬ازدراء‭ ‬كيسنجر‭ ‬لنا‭ ‬كفلسطينيين؛‭ ‬والعدسة‭ ‬الموجهة‭ ‬نحو‭ ‬إسرائيل‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬صانعو‭ ‬القرار‭ ‬والسياسيون‭ ‬الأمريكيون‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬تحويل‭ ‬هذه‭ ‬العقيدة‭ ‬إلى‭ ‬مبدأ‭ ‬من‭ ‬مبادئ‭ ‬عملية‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬التي‭ ‬قادتها‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬استبعاد‭ ‬رسمي‭ ‬لمنظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية‭ ‬جزءاً‭ ‬منها‭.‬

انضمت‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬إلى‭ ‬عملية‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1993،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬موقع‭ ‬الضعف،‭ ‬كما‭ ‬أراد‭ ‬كيسنجر‭. ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬كانت‭ ‬عملية‭ ‬أوسلو‭ ‬نفسها،‭ ‬كمجموعة‭ ‬من‭ ‬الاتفاقيات‭ ‬المؤقتة‭ ‬مع‭ ‬تركيز‭ ‬على‭ ‬التقدم‭ ‬التدريجي‭ ‬وفقدان‭ ‬وضوح‭ ‬الهدف‭ ‬النهائي‭ ‬وحيث‭ ‬خدمت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬كوسيط‭ ‬وحيد،‭ ‬هي‭ ‬جوهر‭ ‬إرث‭ ‬كيسنجر‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭.‬

إرث‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭ ‬هو‭ ‬إرث‭ ‬معقد،‭ ‬يتميز‭ ‬بالإنجازات‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬والجدل‭ ‬الأخلاقي‭. ‬يقوم‭ ‬هذا‭ ‬الاستعراض‭ ‬النقدي‭ ‬بالاعتراف‭ ‬بمساهماته‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬سياسة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬الخارج،‭ ‬ولكنه‭ ‬يبرز‭ ‬أيضاً‭ ‬ضرورة‭ ‬فحص‭ ‬مستفيض‭ ‬لعواقب‭ ‬قراراته‭. ‬في‭ ‬حين‭ ‬يكافح‭ ‬العالم‭ ‬مع‭ ‬التحديات‭ ‬المتطورة،‭ ‬يظل‭ ‬فهم‭ ‬دروس‭ ‬ولايته‭ ‬ضرورياً‭ ‬لتشكيل‭ ‬نهج‭ ‬أكثر‭ ‬مسؤولية‭ ‬وأخلاقية‭ ‬في‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬العالمية‭.‬

{‭ ‬كاتب‭ ‬من‭ ‬فلسطين

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا